الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


طقوس وعادات من عَبَقِ الماضي السحيق، ما زلنا نمارسها!

الياس خليل نصرالله

2021 / 12 / 16
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


السحر في اللغة هو ما خفي سببه، أو جرى تمويهه، اي هو خدعة. أما الشعوذة فهي استحضار القوى غير المرئيّة، لتساعد في حصول تغيرات، يتمناها شخص ما، وتنحصر في معظم الحالات في التخلص من خصم، أو الحصول على قوة، أو تحقيق مكاسب شخصية.

يُرجِع بعض الدارسين جذور هذا الموضوع إلى فترة العصر الحجري الحديث، حيث أدى الانتقال إلى مرحلة الزراعة والاستقرار، دورًا في تحوّل رئيس القبيلة إلى سلطة تستعين بالخرافات والأساطير والغيبيات، لإضفاء الشرعية على أعماله وسيطرته.

يختلف الدارسون لموضوع السحر، بطرحهم السؤال: هل الدين سابق للسحر أو العكس؟ ونجد "فريزر" يفترض أن السحر نشأ أولاً، وعنه نشأت العقيدة الدينية لدى الشعوب البدائية. حيث كان الإنسان البدائي يعتمد على طقوس السحر في تصريف أموره، إلّا أنه ما لبث أن اصطدم بمقاومة جبروت الطبيعة له، وعدم سيرها وفق إرادته، مما دفعه للاعتقاد بأنها تسكنها وتحرّكها قوى عليا خفية، لا يستطيع التحكّم بها، فسماها آلهة. وصنع لها أصناما ونسج أساطير يتجلى فيها جبروتها، ومارس طقوسا لإرضائها. وهناك من يفرض نشوء السحر من الدين. فالإنسان بطبعه متدين، لإحساسه برهبة المجهول وخشيته من الموت. فكان السحر هو اللغة التي عبّر بها عن إحساسه بغموض وصعوبة تفسيره لكثير من ظواهر الكون. فوقف حائرا ومذعورا أمام جبروت ظواهر الطبيعة، ليصبح في حاجة ماسة إلى ممارسة الطقوس السحرية، ليواجه ضعفه أمامها. أن جهله لفهم وتفسير ظواهر الطبيعة والكون من ناحية، وحاجته للتأقلم والتكيف من ناحية أخرى، أقنعته بوجود أرواح تسكن الطبيعة وتحرّكها، فربط نجاحه وفشله بها، ليصبح أسيرًا لممارسة الطقوس لتقرّبه منها ولتقيه شرّها أو لتحقّق طلباته. ويطلق عالم الأنتروبولوجيا، "تايلور"، على هذا التوجّه "النزعة الحيوية"، والتي انطلقت من فكرة أن كل ما في الكون من شموس، أقمار، أنهار، رياح، زلازل وبراكين وما إليها، هي كائنات حية تسكنها الأرواح كالإنسان. وهي تسكن في كل شيء، وقوتها جارفة، فأن تجرّأ على مخالفتها، ستصبّ عليه جام غضبها وتدمره. ويفرض المفكر "هيربرت سبنسر"، بأن الإنسان البدائي تصوّر العالم مليئا بالأرواح، والتي تتقمص كل شيء. واعتقد بكونها أرواحًا قوية وجبّارة قادرة على كل شيء، وهي التي تتحكّم وتسيِّر الكون والطبيعة، مما دفعه للاقتناع بأن السحر وتقديم القرابين، أنجع وسيلة لتعاطفها معه وتفاديه شرّها. وهذا دفع "مالينوفسكي" و"كليف"، لتفسيرهما السحر من خلال الوظائف التي يؤدّيها للأفراد والجماعات، في مساعدتهم مواجهة الكوارث التي تنجم عن أفعال القوى الخفية، والهدف من ذلك المحافظة على البقاء، وتماسك المجموعة وضمان استمرارية وتواصل أواصر التعاون بين أفرادها.

ويفرض "فريزر" أن "الطوطمية "، هي أولى الديانات قاطبة، وهي عبادة أحد مظاهر الطبيعة المحيطة بالقبيلة، والتي آمن أفرادها بأنها تلعب دورًا حاسمًا في حياتهم واستمرارية بقائهم. فاعتقد أفرادها أن نجاحهم بكسب رضاها هو الضمان الوحيد لاستمرارية حياتهم وتأقلمهم، ولإيمانهم القاطع بوحدة المصير بينهم وبين معبودهم الطوطمي، وأن تقديسه وربطه بمحارم (تابو) هي الضمان لاستمرارية قيامه بحراستهم، وتلبيته مطالبهم، رغباتهم واحتياجاتهم. وهذا تطلّب ممارسة عدة طقوس معينة ليحقّق لهم النجاح في مشاريعهم، مثل الرقص، الإنشاد، حفلات التنكّر، المحاكاة، التمثيل، التعاويذ، الأدعية وغيرها (تشير بعض الرسومات القديمة في كهوف فرنسا إلى استعمال مثل هذه الطقوس، مثل إشراك الآلهة في طقوس التحضير لرحلة الصيد، والتي كان هدفها ضمان تدخل الآلهة لنجاح العمل المزمع تنفيذه. وكان التواصل مع الطوطم يقوم به "الشامان" (معناها في لغة بعض القبائل في سيبيريا، "الشخص الذي يعرف"). وهو الساحر، الكاهن والطبيب القادر بقواه الخارقة للتواصل والتفاهم مع الأرواح التي تهيمن على العالم وتحرّكه. وقامت كل قبيلة بتجسيد هذه الأرواح بشجرة أو حيوان وغيرهما. وعملوا لها التماثيل وقدّسوها. وتدلّ الأبحاث أن كل القبائل البدائية مارستها (وما زلنا نجدها لدى بعض القبائل، حتى يومنا هذا). إلّا أن الدراسات أثبتت انتشارها الجارف في أديان شمال آسيا. وكان أبرز مميّزاتها، الإيمان بوجود عالم أرواح غيبي، يملك قوة خارقة، والتي تتواصل مع الشامان لأنه الوحيد القادر على تحقيق طلبات أفراد قبيلته، مثل شفاء المرضى، استحضار أرواح السلف، منع الكوارث ونجاح مشاريعهم.

إن ظاهرة ممارسة الطقوس السحرية والمعتقدات الشعبية، ما زالت فئات كثيرة من كل شعوب العالم، تؤمن وتتعلق بها وتمارسها من منطلق الاعتقاد أنها تملك قوة خارقة، يجب التعامل معها بوسائل وطقوس وممارسات غيبية مختلفة، بهدف التخلّص من ورطة أو ضائقة، أو تيمنًا بأن ذلك سيحقّق لها الخير، البركة والنجاح. إلّا أن الدراسات والتحليلات لكل ممارسات السحر والمعتقدات الشعبية، تؤكّد بأن محرّكها ومصدرها الجهل والضعف، والذي يؤدّي لعجز الفرد عن إدراك أو فهم وتحليل الظواهر والأحداث بربطه بين أسبابها ونتائجها، ولا يبقى أمام جهله لمعالجتها والسيطرة عليها سوى ربطها بقوى سحرية غيبية، ظنّا منه أن ذلك أقصر الطرق لتحقيق مبتغاه. ولقد أعلن "جيمس راندي" والذي كان يحترف عروض خفة اليد المسرحية "أنه على استعداد أن يدفع مليون دولار لأيّ شخص يأتي بدليل علمي واحد على صحة من يزعم أن لديه قوى سحرية خارقة، وفقط الضعيف والجاهل، يؤمن بالسحر كعامل يؤثر في حياته".

ويفرض "فريزر"، بأن السحر، يرتكز على نسقين يحكمان ترابط الأفكار في ذهن من يمارسه أو يُؤْمِن به، وهما: قاعدة التشابه، وقاعدة الاتصال. فالسحر التواصلي، يرتكز على فكرة أن الكائنات والأشياء المتصلة والمتواصلة تتأثّر ببعضها، حتى بعد انفصالها عن بعضها. لأن الجزء يُؤثر على الكل، والكل على الجزء. وممارسات السحر بالعدوى والأثر، عديدة، مثل حصول الساحر على شعرة، اظفر، صورة، للقيام بالتأثير على صاحبها سلبًا أو إيجابًا حسب رغبة طالب السحر. أما السحر التشابهي، فيمارس عن طريق المحاكاة (بحكم التفاعل والتأثير والتشابه) مثل حرق دمية شخص معين، انطلاقًا من الإيمان بأنه سيصيبه ما أصاب دميته. وتنطلق هذه الممارسة السحرية، من التصوّر بأن الشبيه يُؤثر في شبهه، أي محاكاة وقوع الحدث والفعل، سيؤديان حتما إلى وقوعه. ويرتكز الطبّ السحري، وطقوس الاستغاثة بالمطر، ودرء الكوارث والنكبات، وطقوس الإخصاب على إجراءات رمزية تستند على التأثير السحري بالمحاكاة. وهناك الكثير من الطقوس والعادات التي ما زالت فئات من شعوب العالم تمارسها تعتمد على نوعي السحر المذكورين أعلاه. مثلاً نجد الكثير منّا يمتنع عن زيارة بيت أيّ شخص بعد الانتهاء من مشاركته في مراسيم جنازة أو دفن. ومصدرها التراث البابلي الذي ساد فيه الاعتقاد بانتقال الموت إلى البيت الذي سندخله بفعل أثر تراب المقبرة الذي التصق بأقدامنا. كما أن التفسير لظاهرة تغييرنا أسمائنا في حالة مرضنا أو تورطنا في مشاكل، لإيماننا أن اسمنا هو السبب، فنتوجه إلى مشعوذ ليختار لنا اسما بديلا يحقّق لنا التوفيق. أما سكبنا الماء على الصبية الذين يجوبون الشوارع مستجدين المطر عند انحباسه، هو سحر تشابهي، لأننا بفعلنا هذا نحاكي عملية هطول المطر (أي الاعتقاد بأن تقليد عمل معين سيؤدي إلى حدوثه). وهناك عادة تحرّم على المرأة غرس بذور الخضروات، وترتبط بالسحر بالعدوى. وتوارثناها منذ الانتقال من مرحلة الصيد وجمع الطعام إلى مرحلة الزراعة، والتي أدّت إلى تدنّي مكانة المرأة، وحرمانها من حقوق ووظائف وممارسة طقوس كثيرة. مثل منعها غرس البذور بادعاء أن الأرواح الشريرة الساكنة فيها ستمنع أنباتها. كما أن هذا المعتقد أدّى لحرمانها أن تلمس ثياب صياد، منعا لفقدان كلبه حاسة الشم.

ومن العادات المرتبطة أو مصدرها السحر بالعدوى، ونمارسها بكثرة، رشّ الملح، للحماية من "صيبة عين". ولقد ورثناها عن البابليين، لأنهم اعتقدوا بأن الملح بمثابة كائن حيّ يملك القدرة لإبطال السحر. ويؤكد ذلك الشعر البابلي: "أيّها الملح، يا من خلقت في مكان نظيف - أنا فلان ابن فلان - وقعت أسيرا للسحر - وقعت محموما في أحابيله - أيّها الملح حلّ العقدة عني - ارفع السحر عني". (كما اكتسب الملح في التراث القديم رمز الولاء والصداقة، وما زلنا نقول لضيفنا مالحنا، وبيننا عيش وملح). ومن العادات التي ترتبط بنوعي السحر (المحاكاة والأثر)، منع نقل السُلم وتنظيف البيت ليلا، لارتباطهما بحصول وفاة فجائية (لاستخدام السلم كنقالة وكنس البيت ليلا، فقط في حالة وفاة). ومن العادات التي كانت سائدة في قرانا، ومصدرها السحر بالأثر، حرق صورة أو ملابس شخص بهدف الانتقام منه. وهي متوارثة عن الحضارة البابلية، إذ كانوا يعتقدون أن المرء قادر على الانتقام من عدوه بحرقه تمثالا، رسما له أو ملابسه. فكان البابلي عند قيامه بذلك يخاطب النار: "أيها اللهب اللّاظي - يا من أنت أشدّ إخوتك بطشا - احرق الرجلين والمرأة اللذين قد سحراني". وهناك من يربط الوشم بالسحر بفعل الأثر والعدوى. ويفسر علماء الاجتماع عملية الوشم أنها بمثابة عملية افتداء للمراهق، بعمل شطوب ورسوم رمزية في جسمه، لإكسابه المناعة ولتقوية عزيمته لمواجهة المصاعب مع انتقاله إلى مرحلة الرجولة.

أما الإيمان "بصيبة العين"، فمرتبط "بالسحر بالأثر"، وطُرق الوقاية منه. وتعود إلى سكان مصر الفرعونية، حيث اعتقدوا بأن للعين تأثيرًا سحريًا جارفًا على الإنسان. وقد تمّ العثور في التنقيبات الأثرية في معبد الإله حورس (إله الشمس)، على برديات سُجلت فيها تعاويذ ورُقيات، للحماية من "صيبة العين". أخصّ بالذكر منها أنشودة تُردد: "إلهي حورس، إذا كنت ستحميني، فلا تبقِ لي حاجة للخوف من العين". ونجد أيضًا في هذه البردية الكثير من الوصفات التي اتبعت لإبطال تأثير العين، وأبرزها والتي ما زالت تُمارس لدى غالبية الشعوب" الكفّ" (الخمسة) . فلقد اختار الفراعنة كفّا بلون ازرق تتوسّطه العين (واللون الأزرق كان يرمز في حضارتهم للقوة القاهرة للحسد، وطرد الأرواح الشريرة). واختيار كفّ اليد يُؤكد قدسية العدد خمسة، هو ليس وليد الصدفة، لأن كل واحد من أصابع اليد الخمسة، كان يرمز لواحد من الآلهة الخمسة التي كانت مسؤولة عن حماية البشر من قوى الشرّ. (أوزوريس/اله البعث، إيزيس، ست/اله العواصف، حورس وأنوبيس/اله الموت). ونقل اليهود هذا المعتقد عن الفراعنة. وهناك من يُرجعها إلى الفينيقيين بادعاء أن الدائرة في مركز الكف رمزت لقوة إله القمر والذي كان مسؤولا عن وقاية البشر. واستعانت الشعوب القديمة أيضًا، وخاصة الفراعنة، بالتمائم كوسيلة لطرد أرواح الشرّ الخفية. واعتاد المصري القديم أن يعلق تميمة زرقاء بشكل عين لإبعاد تأثير الحسد عنه. وانتشرت التمائم لدى القبائل العربية، واهتم البدوي بتسمية كل تميمة باسم خاص حسب وظيفتها، مثلا "العطفة "كانت خرزة وظيفتها أن يعطف الرجل على زوجته إذا قسا عليها، "والسلوانة" كانت بمثابة خرزة مسحوقة، تطمس في الماء، ويشربها من سلاه (هجره) محبوبه ليعود اليه. (ما زال البعض منا يصدق خرافة مدلولات رفة العين فنجدهم مقتنعين أن حصولها في العين اليمنى، يبشر بحادث مفرح للشخص، أما إذا كان ذلك في اليسرى فنعتبرها مؤشرا لحصول شرّ. والتفسير لتوارث هذه الخرافة هو تزامن ارتباط رفة العين مع حدث معَيّن).

أما الإيمان بالتشاؤم والتفاؤل، فمصدره تفادي تورّط الإنسان البدائي في مصائب، نتيجة فتك قوى الطبيعة به. لذا اعتاد الإنسان الأول تقسيم الأيام إلى سعيدة، وأخرى تعيسة ومنحوسة، وكان الفراعنة أول من مارس هذا المعتقد. فمثلا كان الرابع عشر من شهر طوب (من ٩ كانون الثاني حتى التاسع من شباط) الفرعوني يومًا منحوسًا، لأنه ارتبط ببكاء إيزيس على أوزوريس. فنجد المصري كان يمتنع عن القيام فيه بأيّ نشاط. وما زال بَعضُنَا، يتناقل ذلك مثل الامتناع عن شراء كسوة عروس يوم ثلاثاء، إيمانًا بأن ذلك سيؤدي إلى موت العروس، ونجد تأكيد ذلك في مثلنا الشعبي " الثلاثة للوراثة". أما الشاعر الروماني "أوفيد" (عاش في عصر أغسطس قيصر) فيذكر في كتابه "فن الهوى" أن العامة في روما امتنعت عن الزواج في شهر أيار، لأن كل أيامه سيئة الطالع في اعتقادهم (ما زال بعض البريطانيين يطبقون ذلك)، بينما يكره البعض في شرقنا عقد القران في شهر تشرين الثاني للاعتقاد بأنه شهر الأموات "شهر أيلول هو ذكرى موت الألة الخصب البابلي تموز، وكلمة أيلول سريانية مصدرها ولول يولول". لكن هناك عادة تحاشي احتفال الزواج في شهري كانون، لأسباب واقعية ترتبط بالمناخ القاسي، وعبّروا عنه في أمثالهم "عرس المجانين في كوانين". وما زلنا نتشاءم من الغراب لكونه يرمز إلى ظاهرة سلبية كما جاء في قصة الطوفان. واعتبر العرب، الغراب الطير الأكثر شؤما. لذا اعتادوا الرحيل فورا إذا نعب ونعق في مكان جديد أقاموا فيه. ولكراهيتهم له سموه غراب البين، بينما تفاءلوا لرؤية النسر والعقاب لكونهما رمز القوة. أما عادة تحريم بيع إبر الخياطة بعد الغروب، ارتبطت بالسحر التواصلي، وهي تعود إلى أسطورة فرعونية، زعمت أن الخياطة هي مهنة الفقراء، وان الإله المسؤول عن تقسيم الأرزاق يقوم بها بعد الغروب، ولذلك احترسوا عدم مزاولتها ليلاً وإذا كان في ضائقة زادته بؤسًا. فعليه تشاءم المصري من اقتنائها واستعمالها ليلا، لاعتباره الخياطة أسوأ مهنة. ونتشاءم من نعيق البومة، كرمز لكارثة، لربطنا إقامتها في المباني المهجورة. أما الفراعنة فتفاءلوا لرؤية قط، لأن الإله رَع، صاحب السبعة أرواح تشكل بهيئة قط ودفعهم هذا لتقديسه والتفاؤل به. وما زلنا نتداول هذا الموروث بقولنا "مثل القط بسبع أرواح". أما التشاؤم لسماعنا عويل الكلب ليلا، واعتباره نذير شؤم، وربطه بحصول وفاة، فمصدره مصر الفرعونية، لأنهم اعتقدوا أن إله الموت يتشكل ليلا بهيئة ابن أوى (الشبيه بالكلب).

ومن العادات التي ما زلنا نتمسّك بها، تحريم أن ندوس على كسرة خبز. ومصدرها بابلي، لأن أساطيرهم خَصت القمح بقوى خارقة، واعتبرته كائنًا حيًّا يملك إرادة وقوة مقدسة، تحافظ على البقاء. فآمنوا أن الدوس عليه، بمثابة تدنيس للأرواح المقدسة الساكنة فيه ويؤدّي لغضبها. فكانوا لإرضائها، يُقدّمون قربانًا لها من الحنطة، ومشفوعا بهذه الصلاة: "سأرسلها إلى إلهتي الساخطة - فقد امتلأ غضبها عليّ - اصلح بيني وبين إلهتي الساخطة".

وما زال البعض يمارس من منطلق قدسية الخبز وضع كسرة خبز تحت وسادة المريض ظنّا أن ذلك سيطرد الأرواح الشريرة التي أدّت إلى مرضه. ونقوم أيضا بختم القربان بصور ورموز دينية لإبعاد قوى الشرّ عنه. ونمارس عادات في طقوس الزواج مصدرها موروث قدسية الخبز. مثل قيام الزوجين عند دخولهما لأول مرة بيتهما الجديد بإلصاق عجينة مخمرة على الباب كرمز لاستمرارية الزواج والتناسل، وهذه عادة ورثناها من حضارة الشرق القديمة. ولقد نقلنا طقس الحناء بكل مدلولاته عن المصريين القدماء. فلقد استخدموه في رسوماتهم لقدرته على الثبات، وأيضا في صبغ الأظافر والشعر، كوسيلة للتحصّن والوقاية من العين والحسد. ويرتبط استعماله بأسطورة قتل "ست "لأخيه" أوزوريس"، وقيام الزوجة "إيزيس" بجمع أشلائه وغمسها يدها بدمائه، فأصبح ذلك دلالة رمزية لوفاء كل زوجة لزوجها، وكتأكيد لهذا الوفاء بدأت النساء في مصر الفرعونية، صبغ الأيدي بالحناء. وهناك من يُرجع ممارسة طقس الحناء في مناسبات الافراح للاعتقاد بقدرته السحرية لاكتساب رضى قوى الشرّ وتهدئتها، ليصبح رمز دوام التفاؤل، الجمال والسعادة. اعتادت نساء العرب منذ العصور القديمة خضب رؤوسهن بالحناء يومي الاثنين والجمعة، بينما اعتقدوا أن استعماله في بقية الأيام كان شؤما.

ومن العادات والطقوس المنتشرة في عالمنا العربي، عادة الذبح على عتبة منزل جديد سنسكنه. وهذه موروثة عن القبائل العربية قبل الإسلام. لأن البدوي كان يُؤْمِن أن المنطقة التي سيسكنها يرتع فيها الجن، وعليه إكرامه بذبيحة، لترضيته ليبتعد عنه ويقيه شرّه. ومن الطبيعي أن تدفع الظروف الصحراوية وخاصة رياحها العاتية، للإيمان بالجِّن، باعتباره أرواحا غير مرئيّة، تستوطن عالم الخفاء وموجودة في كل مكان، وعند تقريرها الحلول في عالمنا كانت تتقمص أشكال حيوانات فتّاكة. واعتقدوا أنها تسكن الأماكن المهجورة. (يسود الاعتقاد بأن الجِن لا يتعرض للإنسان إلّا عندما يكون وحده). وهناك من يربط التشاؤم من رؤية حيوان أسود ليلا وبشكل خاص القط، لارتباط حلول الجن في حيوان. وهناك من يفسّر الاعتقاد بالجنّ نتيجة معتقد ربط قوة الرياح العاتية في الصحاري الشاسعة، بأرواح شريرة وفتَّاكة تحرّكها.

ومن العادات التي ما زال الكثير منا يمارسها لطرد الأرواح الشريرة، تعليق الحدوة بشكل تكون فتحتها إلى أعلى فوق الباب، لمنع روح الشرّ من دخول المنزل، واستمراره يدور في حلقة مفرغة فيقينا بذلك شرّها. هناك من يربط هذا المعتقد بالفينيقيين، لكونه أقرب أدوات عمل الإنسان القديم، وشكلها هلال، والذي كان العلامة المميزة لعشتار الكنعانية آلهة الحبّ والإخصاب والرحمة، فعلّقوا رمزها فوق أبوابهم للتقرّب منها وإبعاد قوى الشرّ عنهم. وهناك من يفرض أنها هندية. والبعض يربطها بأسطورة يونانية تروي مجيء قوة الشرّ إلى حرفي بارع في مهنة نعل الخيل، فقرّر هذا ردعه، فربطه بوثاق قوي إلى الحائط وبدأ يؤلمه، والشرّ يستغيث لتحريره، ويستجيب الصانع لطلبه بعد تعهّده بعدم الاقتراب من أيّ منزل، يُعلّق عليه نعل الخيل.
ومن العادات والطقوس الشعبية التي تعتمد على الإيحاء واستحضار الأرواح بالفتح بالمندل (اصلها فارسي) للكشف عن جريمة أو معرفة السارق. وتطبق بتحضير المشعوذ، صحن زيت وماء ويفرض على المتوجّه لمعرفة الجاني أن يطيل التحديق في هذا الصحن، حتى يتمكن من تحقيق مبتغاه، أي رؤية الجاني ليبدأ تخيله رؤية الجاني.

وتجربة عالم النفس الاجتماعي "كيرت ليفين" والتي تتوفر فيها شروط المندل بتركيز النظر لفترة طويلة في نقطة واحدة، أدت لإصابة من أجريت عليهم التجربة بالهلوسة والتخيلات، وهذا ما يُصيب من يمارس المندل لأنه ينحصر نظره ودماغه في مشاهدة مؤثر وحيد، فيؤدّي إلى المسّ بالتوازن بين عَصب الرؤية والدماغ، فتكون نتيجة ذلك الهلوسة والتخيّلات والتوهّم.

أما عادة التبصير بواسطة قراءة الفنجان، فهي لا يرتبط بتفسير الخطوط العشوائية في فنجان القهوة، أنما في شخصية قارئة الفنجان. والتي تتميّز بشخصية واسعة الإلمام بأمور الناس والحياة، ويتمحور معظم ما تدعي التنبؤ به مواضيع حياتية عامة (مرض، حبّ، خيانة إلخ). ومن المحتمل، بل من الطبيعي أن يحصل بعض ما تذكره، ليدفع للإيمان بأنها قادرة على قراءة المستقبل، متناسين عدم حدوث أكثر من تسعين بالمائة مما ذكرته.

وقراءة الأبراج والتنجيم (السحر الكلداني) تعود جذورها إلى بابل، لاعتقادهم، أن السبعة كواكب السيارة التي عبدوها، هي المدبّرة للعالم والمسؤولة عن الخير والشرّ. ويرجع إليهم تقسيم دائرة السماء إلى ١٢ قسما متساويا. ولقد ربطوا أوضاعها بالنسبة للأجرام السماوية، بتفاصيل يمكن توفّر معلومات عن شخصية المولود في برج معين، وغيرها من الأمور الدنيوية. لقد دحض البحتري التنجيم بقوله: "السيف أصدق أنباءً من الكتب..". ومن يرغب بكشف زيف الأبراج والاسترولوجيا (علم الفلك) في التنبؤ، ليقم باختيار عدد من الصحف ومقارنة ما ورد في صفحة أبراجها ليكتشف تناقضاتها وأنها مجرد أمنيات وأحلام نتوق لتحقيقها (دغدغة مشاعر). وهناك من يقرأ المستقبل بورق "الكوتشينا"، الكفّ وحساب الأرقام وجميعها ألوان دَجَل. أوجد اليونانيون (خاصة فيثاغورس) قراءة المستقبل بالأرقام، إذ نسبوا لكل رقم أسرارًا ورموزًا (الرقم واحد هو رمز الألوهية والقداسة، اثنان رمز اتحاد الرجل بالمرأة، والمعرفة، ثلاثة رمز الكمال إلخ). وتتمّ عملية التنبؤ بالأرقام بتحليل وتفسير علاقة تكون محض صدفة بين مجموعة أرقام، بالاعتماد على الرمز الذي خُصّص لكل رقم. ولَم يثبت حتى اليوم أيّة علاقة، أو رابط بين الأرقام، لكشف مستقبل الفرد.

الحرز (الحجاب)، هو أكثر العادات شيوعًا لدى الفئات الشعبية. وهو عبارة عن سحر مكتوب بحروف وأرقام وأشكال، أي هو تعاويذ سرية وغامضة لا يفقهها إلّا كاتبها وهي مجرد سفسطة وترّهات كلامية. تكتب على ورقة، أو قطعة طعام، يُؤْمر طالبها طمسها بالماء وشربها لتحقيق مبتغاه. وهناك حرز متداول يروّج له بأنه يصلح لكل شيء ويعلّق على الجسم. إلّا أن كل ألوان الحجاب (الحرز) مجرد دَجَل وهراء، هدفه ممارسة، تحقيق الكسب الرخيص والسريع، باستغلال ضعف البشر ونوائب الحياة. فيستغلون بذلك المثل القائل "الغرقان بترتح بحبال الهوا".

وفي الختام: لماذا نقول لمن يعطس "فرجه". هناك من يربط ذلك بإيمان الإنسان في العصر الحجري، خاصة في مصر الفرعونية، بأن روحه تفارقه عندما يعطس، وبعدها تعود إليه، فيحتمل مع عودتها أن تتسرّب معها أرواح شريرة تسبب المرض، فعبارة "فَرَجُه" تقيه شرّ ذلك. ما زالت قبائل الزولو تعتبر العطس دليلا لحلول روح الجدّ في العاطس، لتمنحه البركة والعافية. أما أرسطو فاعتبر العطس من فعل الآلهة وأنه بشير خير. وما زلنا نؤمن أنه إذا عطس المريض أثناء عيادته فهذا مؤشر بشفائه القريب، وما زال الكثير منّا يتفاءل بـ "عطسة طفل".


مصادر ومراجع
1. أحمد كمال زكي، دراسة حضارية مقارنة، دار العودة، بيروت، ط١.١٩٧٩.
2. ابراهيم محمود، الضلع الأعوج (المرأة وهُويتها الجنسية الضائعة)، رياض الريس للكتب والنشر، بيروت، ٢٠٠٨.
3. جيمس فريزر الفولكلور في العهد القديم د. نبيلة ابراهيم، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، ١٩٧٤
4. جيمس فريزر، الغصن الذهبي، دراسة في السحر والدين، ترجمة احمد ابو زيد، الجزء الأول، الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر، مصر،١٩٧١
5. د. خليل أحمد خليل، مضمون الأسطورة في الفكر العربي، مكتبة الأسوار، عكا.
6. شوقي عبد الحكيم، الفولكلور والأساطير العربية، ط١، دار ابن خلدون، بيروت،١٩٧٨.
7. د. صموئيل كريمر، أساطير العالم القديم، ترجمة احمد يوسف الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة،١٩٧٤.
8. صموئيل هنري هوك، منعطف المخيلة البشرية، بحث في الأساطير، ترجمة صبحي حديدي، دار الحوار للنشر والتوزيع، ط١، ١٩٨٣.
9. د. صبحي أنور رشيد، الموسيقى في العراق القديم، دار الشؤون الثقافية، بغداد،١٩٨٨.
10. علي الزين، العادات والتقاليد في العهود الإقطاعية بيروت، دار الكتاب اللبناني، ١٩٧٦.
11. فراس السواح، مغامرة العقل الأولى، دار الكلمة للنشر بيروت ١٩٨١
12. فراس السواح، لغز عشتار الألوهة المؤنثة وأصل الدين والأسطورة، دار علاء الدين١٩٩٣.
13. فردريك أنجلز، أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة، دار الفارابي، بيروت، ١٩٨٥.
14. د. كمال صليبي، التوراة جاءت من جزيرة العرب، مؤسسة الأبحاث العربية، الطبعة الثانية.
15. لنتون رالف (تحرير)، الأنتروبولوجيا وأزمة الإنسان الحديث، ترجمة عبد الملك الناشف، مؤسسة فرانكلين للطباعة والنشر، بيروت - نيويورك ١٩٦٧.
16. السيد القمني - الأسطورة والتراث، المركز العربي لبحوث الحضارة، ط٣، القاهرة١٩٩٩.
17. هيربرت ريد، الفن والمجتمع، ترجمة فارس شاهر، دار القلم، بيروت،١٩٧٥.
18. هـ. فرانكفورت وآخرون، ما قبل الفلسفة (الإنسان في مغامرته الفكرية الأولى)، ترجمة جبرا ابراهيم جبرا، المؤسسة العربية للأبحاث والنشر ط٢ بيروت ١٩٨٠.
19. مارغريت ميد، الشعوب والبلدان، ترجمة غادة السمان، مكتبة أطلس، دمشق.
20. م. نادل، التوراة وثقافات العالم القديم، مكتبة هبوعليم، ١٩٦٢ (باللغة العبرية).
21. محمود الحوت، في طريق الميثولوجيا عند العرب، مطبعة دار الكتب، بيروت ١٩٥٥.
22. ملحمة چلچامش، ترجمها عن الأكادية، د. سامي سعيد الأحمد، دار الجيل بيروت، دار التربية بغداد ١٩٨٤(النص الأكادي يُقابله ترجمته بالعربية).
23. الجديد حول الشرق القديم، لمجموعة مؤلفين روس، ترجمة جابر أبي جابر، دار التقدم موسكو
24. و. م فلندر بتري، الحياة الاجتماعية في مصر القديمة ترجمة حسن جوهر وعبد المنعم حليم، الهيئة المصرية العامة للكتاب، مصر١٩٧٥.
25. السيد القمني - رب الثورة أوزوريس وعقيدة الخلود في مصر القديمة (كتاب إلكتروني).








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فرنسا: القيادي اليميني المتطرف إريك زمور يتعرض للرشق بالبيض


.. وفد أمني إسرائيلي يزور واشنطن قريبا لبحث العملية العسكرية ال




.. شبكة الجزيرة تندد بقرار إسرائيل إغلاق مكاتبها وتصفه بأنه - ف


.. وزير الدفاع الإسرائيلي: حركة حماس لا تنوي التوصل إلى اتفاق م




.. حماس تعلن مسؤوليتها عن هجوم قرب معبر -كرم أبو سالم- وتقول إن