الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


جمهورية البؤس

عبدالله محمد ابو شحاتة

2021 / 12 / 17
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


علامات البؤس ها هنا تعلن عن نفسها عبر كل شيء، عبر وجوه الناس، عبر ملابسهم المتحفظة صيفاً وشتاءً، عبر النكات التي يسخرون فيها من أنفسهم، عبر الطرقات الضيقة والشوارع ذات التخطيط السيء، وعبر القمامة والقذارة في الشوارع وفي النفوس. عبر تدين مسموم ووطنية هزلية وروح متداعية.
إن الحياة هنا ليس لها أي طابع يميزها سوى اللاطابع، إن أولها كآخرها، فلا فرق هنا أن تكون شاباً أو شيخاً، فلا الشاب ينعم بحيوية الشباب وشهواته ولا الشيخ ينعم بهدوء الشيخوخة وصفاء الذهن. الجميع هنا يعيش ذات الحياة البائسة الخاوية من كل شيء. إن جميع الاوضاع هنا في جمهورية البؤس تصبح سواء، ويصبح الفرق بين الطفل والشاب والشيخ ليس إلا فارقاً حسابياً، والفارق بين المدني والعسكري ليس إلا بدلة مموهة يرتديها المرء لعام ثم يخلعها.
إن هذا الشعب البائس لم ينجح في تحقيق أي متع من أي نوع، فلا هو نجح في أن يكون روحانياً ولا هو نجح في أن يكون شهوانياً، إنه لا يملك لا متع الروح ولا متع الجسد. فلا تذوق ديني تصوفي حقيقي ولا تذوق موسيقي وفني ولا مشاعر حية، بل إن كل ما سبق ليس عندهم سوى هامشيات تشكل مادة للتهكم والتندر. أما المتع الدينيسيوسية من جنس وسكر وحب وتقدير للجسد فهي ها هنا من علامات الانحطاط يجب أن يبتعد عنها المرء طوعاً أو كرهاً. فالجنس هنا ليس إلا أمراً هامشياً يقتصر دوره في كونه محفزاً ثانوياً مع الزواج والانجاب، وبمجرد قدوم الاطفال فإن طلب الجنس بين الأزواج يصبح نوعاً من الصبيانية يترافق مع بعض المناسبات.
تلك النظرة الدونية للجنس تترافق ونظرة دونية للجسد، فالجسد عار، وظهوره جريمة، والملابس أكثر أهمية من مرتديها. كل هذا الانحطاط الروحي والجسدي يترافق والفقر والفاقة ليحدث مثلثاً من حديدياً يستوطن من خلاله البؤس تلك البقعة ولا يتركها.
لقد حكى أحد الأصدقاء ذات مرة عن زيارته لكوبا في فترات الحصار، وأبدى لي عجبه من السعادة التي كان يعيشها البسطاء من الشعب في ظل فقر مدقع وظروف غير إنسانية. إن الشعب الكوبي وإن نهشه الفقر فإنه لم يخسر روحه وجسده، فالأرواح مليئة بالمشاعر والاجساد الحرة بملابسها الخفيفة لا تكف عن الرقص. وقد تخسر بعض الشعوب اجسادها وتكسب ارواحها، وقد تخسر أخرى ارواحها وتكسب اجسادها، وقد تخسر أخرى الاثنين بينما تنعم برفاهية مادية كما هو الحال في الخليج العرب. ولكني لم أرى شعباً خالي الوفاض من كل شيء مثلنا. إننا فقراء جبناء بلا مشاعر ومتزمتون، نكره مرح الأطفال وعنفوان الشباب وهدوء الشيخوخة، نكره كل ما هو ممتع ونحرم منه أنفسنا ثم نحسد عليه الآخرين، إنه نوعاً غريبا د من المازوخية ورغبة خفية في تعذيب الذات.
إن كل شيء ها هنا أصبح يصيبني بالاختناق، الوجوه العابثة والمزاح الذي يخفي وراءه البؤس، الغرائز السجينة التي تصرخ بحثاً عن محرر أو ضحية. إن رائحة الموت هنا تفوح من الأحياء أكثر من الأموات، ولعل أكثر ما تدب فيه الحياة هنا لهى الشمس والصخور والرمال لا البشر. لقد أصابتني كل تلك المظاهر بعسر الهضم فلم أعد أتمثلها دون أن أشعر بالغثيان أو الرغبة في التقيؤ، ولكنها لا مهرب منها، فهي تحيط بي من كل حدباً وصوب. ولكن احياناً اجد اماكن لم تفقد عافيتها وأُجالس أشخاصاً اصحاء ترى من خلالهم الحياة كما يجب أن تكون، ولربما أتنفس حتى اليوم بفضل تلك اللحظات القليلة مع بعض الامل في تكرارها والاستزادة منها.
إن الحلم الحقيقي هنا لم يعد سوى أن تتمكن من أن تحيا حراً كإنسان لا يضطر لأن يتنكر لأوثق متعه ورغباته. إن دواء تلك البقعة التعيسة يبدو بسيطاً بقدر ما هو معقد ( أن يتوقف الإنسان عن لعن ذاته ).








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فيديو يتسبب بإقالة سفير بريطانيا لدى #المكسيك #سوشال_سكاي


.. فيديو متداول لطرد السفير الإسرائيلي من قبل الطلاب في جامعة #




.. نشرة إيجاز - مقترح إسرائيلي أعلنه بايدن لوقف الحرب في غزة


.. سلاح -إنفيديا- للسيطرة على سوق الذكاء الاصطناعي




.. -العربية- توثق استخدام منزل بـ-أم درمان- لتنفيذ إعدامات خلال