الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مرحلة الاتزان

الياس خليل نصرالله

2021 / 12 / 18
المجتمع المدني


توجد مرحلة في الحياة يمكن تسميتها "مرحلة الرزانة"، يميّزها الإصْغاء والتمعّن أكثر من النقاش والانتقاد، التروّي الصبر، الحلم والتسامح مع المختلف عنّا.

ستدرك في هذه المرحلة، أنّه لا أمل أو إمكانيات لتحقيق أحلامك وتطلّعاتك بأحداث تغييرات جذرية في مجتمعك، وستجد بقاء الكثيرين من أفراده على ما فُطروا عليه. بل المأساة التي ستقهر وتُخيِّب آمالك، هي النكوص والتقهقر في مجتمعك. ورغم ذلك سيفعمك الإحساس والتصميم أنّه ليس مستحيلاً أن تشهد ومضات وبصيص براعم التغيير. ستصل إلى قناعات، ليس كل مشكلة صغيرة وكبيرة ستوتّرك وتقلقك وتستنزف طاقاتك، لأنّك تعايش مرحلة الوقت السريع، المتسارع والثمين، ولا يستحقّ أن تهدره، بل أن تبذل وتوظّف بشكل بناء كل الإمكانيات والطاقات المتوفّرة لك، للعيش بسعادة، نجاعة، استقرار وطمأنينة، مردّدًا قول الشاعر "وتمتع بالصبح ما دمت فيه، لا تخف أن يزول حتى يزولا". نعم ستفكر وتناقش وتحلّل مواضيع تضايقك من وقت لآخر... ولكن لا تقلق؛ سترجع لمرحلة الرزانة والاتزان. وتناجي نفسك ويوجهك عقلك هازئًا بتفاهة الكثير من الناس المنزلقين في وحل الجشع المادي، حيث يتلاعب بهم بريق الجاه والسلطة والمكانة والتباهي بالشكليّات، فلا يدركون أنّهم تافهون، عقولهم خاوية ومستقبلهم بائس ومحبط، عندها سيتردّد في نفسك: يا ليتهم يتّعظون بقيمة الحياة المتّزنة، المثمرة، الكريمة والمتفائلة والمفعمة بالسعادة - قبل فوات الأوان - وعندها ما نفع الندم والبكاء على ما فات.

عندما تبلغ هذه المرحلة، اعرف أنّك الآن "سيّد نفسك" وتملك الوعي والطمأنينة والثقة، بكل ما تسلكه وتمارسه. لأنّك أصبحت واعيًا أنّ السعادة الحقيقية لا يتمّ تحقيقها بتكديس الثروة، إنّما بالقناعة، السمعة الحسنة، الكرامة، لأنّها هي فقط الكنز الذي لا ينضب معينه. وستعلمك تجارب الحياة ضرورة غرس، تنمية وتذويت القيم والأخلاق السامية، الغيرية، الثقة بالنفس، المثابرة، التحدّي والشجاعة، نبذ العنف والاحتراب على الماديات والمناصب، وغرسها في تربية الابناء، وتوجيههم لمعرفة طاقاتهم ليتعلّموا ويمارسوا ما يناسب ميولهم وقدراتهم، ليتفتحوا كما تتفتح الأزهار.

عندها ستوفّر عليهم عناء ومخاض آلامك ومعاناتك التي عكّرت حياتك قبل بلوغك مرحلة الاتزان. تذكر دوما أنّ الأيام تجري ولا تتوقّف، تجري غير عابئة أو مكترثة بِنَا، لذا أناشدكم ‎ أن تحِّثوا أولادكم على نبذ الجشع وتكديس الثروة من ناحية، وتنمية وتطبيق آليات عدم الاقتراب منها، التعامل معهم بحكمة واتزان، وترسيخ الوعي والثقافة الإنسانية من ناحية أخرى. بل علّموهم من تجاربكم الحياتية كيف سيصبحون متميّزين بالثقة بالنفس، المثابرة، نضوج الشخصية الرزينة والمتوازنة، التي تمقت الأنانية، فعندها سيكبرون وهم ينظرون إلى قيمة وجوهر الأشياء لا إلى شكلها.

نعم، علينا الاهتمام بخلق جيل يثق بنفسه، صاحب تفكير نيّر، يعتزّ بانتمائه الوطني، ويقوّم الإنسان حسب قيم ومعايير، محورها حقوق الإنسان ورفاهيته وسعادته، احترام الجنسانية، المساهمة في تعزيز نشاطات المجتمع المدني، نبذ كل أنماط التعصّب والعنصرية، التزمّت والقولبة، ويُؤمن بكل جوارحه أنّ "الدين لله والوطن للجميع".

ان نجاحنا بتحقيق ذلك هو بداية المسيرة للرقي والتعايش في مجتمع تتوفّر فيه فرص النجاح لتربية أجيال صالحة، معطاءة، تملك الوسائل البناءة لتحقيق ذاتها، آمال شعبها والإنسانية. والسؤال الذي يعصف بفكري ويُقلقني: هل ما تقدّم، قابل للتحقيق من الناحية العملية؟ وجوابي نعم ممكن، وهو الشرط لتجاوز وتفادي آلام المخاض التي عايشتها واكتويت بنارها، حتى بلغت مرحلة الرزانة، توجهك معايير واقعية بأنّ الأجيال الصاعدة تعيش في واقع معقّد يعجّ بالتحدّيات، الإغراءات، والمعضلات. مما سيحتم عليك برأيي، المبادرة والمثابرة بمنهجية وعقلانية، لتخطيط، غرس تغذية وتأصيل قيم إنسانية مصدرها الحبّ والتضامن، التكافل، العطاء والانفتاح، لتساهم وتثمر بتنمية وتعزيز وتدعيم وتحفيز ثقتهم وصدقهم مع مخزونهم القيمي – الذي يضع الإنسان حياته كرامته وحريته في المركز - مما سيُوفّر لهم المناخ الداعم لكشف وتفجير طاقاتهم لتوظيفها واستغلالها لتحقيق النجاح في أعمالهم ومسيرتهم، نحو آفاق حياتية مكللة وزاخرة بالتطور، الرقي، التحرّر. والأهمّ، تحقيق الحصانة والمناعة من مخاطر الانزلاق في آتون الاحتراب الديني، الطائفي، القبلي، التعصّب القومي الشوفيني، الفكر المقولب، الأنانية والنفعية. فعندها سننجح بأنّ نذوّت في وعيهم أنّ هذه الآفات يحركها ويفجرها ويوجها طغمة لا يمكنها ابتزاز خيرات الوطن الا بتطبيق سياسة "فرق تسد".؟








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مع مادورو أكثر | المحكمة الدولية لحقوق الإنسان تطالب برفع ال


.. أزمات عديدة يعيشها -الداخل الإسرائيلي- قد تُجبر نتنياهو على




.. وسط الحرب.. حفل زفاف جماعي بخيام النازحين في غزة


.. مظاهرة وسط تونس تدعو لإجلاء المهاجرين من دول جنوب الصحراء




.. ميقاتي ينفي تلقي حكومته رشوة أوروبية لإبقاء اللاجئين السوريي