الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تفكيك دعوى غياب الكهنوت في الإسلام؟ (الشيخ محمد عبده مثالاً)

فارس إيغو

2021 / 12 / 22
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


حينما أتحدث عن دعوى غياب وجود الكهنوت في الإسلام، لا أعني الإسلام في النص، فهو جانب نتركه للمفسرين والمؤولين من شتى الاتجاهات والأطياف التي تحتويها كلمة الإسلام، فالإسلام واحد في النص (لكن فهم النص يخضع لروايات متعددة، بصرف النظر عن الآيات التي لا يمكن التصرف فيها بالتفسير والتأويل) وهو متعدّد في التدين، في ممارسات المسلمين، في اجتماع المسلمين، لكن تبقى نسخة من التدين مسيطرة في عصر ما ومكان ما، عن طريق تأثير المؤسسة الدينية الرسمية والسلطة السياسية، اللذين غالباً ما يكونان في تناغم لقضم حريات المواطنين في العالم العربي والإسلامي.
هناك نقطة مهمة في ردود الشيخ محمد عبده (1849 ـ 1905) على فرح أنطون (1874 ـ 1922) في المحاورة الشهيرة التي جرت بينهما عام 1903 على صفحات مجلة المنار التي كان يرأسها ويديرها تلميذه الشيخ محمد رشيد رضا (1865 ـ 1935) ومجلة الجامعة التي كان يملكها ويدير تحريرها فرح أنطون. يقول محمد عبده في هذه المحاورة بأن المسيحية فيها كهنوت، وهي كنسية تراتبية، مع وجود البابا على رأس الكنيسة، وهو معصوم عن الخطأ (في المسائل التي تخص العقيدة)، ونحن في الإسلام ليس عندنا كل ذلك، والخليفة هو خادم (الأمة) وليس معصوماً عن الخطأ، ولا متحكماً برقاب الناس (1). بالطبع، لم يعش محمد عبده قرناً آخر ليرى (البابا) يوسف القرضاوي و(الخليفة) أبو بكر البغدادي، وغيرهم كثيرون.
لا شك، بأنّ هناك الكثير من الحداثيين من دافع عن سلفية محمد عبده (التنويرية)، ونحن لا ننكر هذه التسمية الجدلية (2)،ولكن هناك أيضاً من اعتبر هذه المحاورة الشهيرة مع فرح أنطون هي من أسوأ ما قاله الشيخ محمد عبده في حياته القصيرة؛ والمشكلة أن تلك الأفكار جاءت في مرحلة النضج، أي في آخر سنتين من حياته. لقد اكتفى الشيخ محمد عبده في هذه المحاورة بالهجوم على المسيحية بدلاً من الرد على الأسئلة والتساؤلات التي طرحها فرح أنطون. ويأتي هجوم الشيخ محمد عبده على المسيحية مثيراً للإستغراب كون فرح أنطون لم يكن يقوم بالدفاع عن المسيحية، بل بالدفاع عن العلمانية، دون أن يذكرها بالاسم ، فالعلمانية كمصطلح لم تكن معروفة عام 1903 تاريخ المحاورة الشهيرة بين الشيخ محمد عبده وشيخ العلمانية فرح أنطون.
صحيح، أن الفكر السياسي في الإسلام السني يرفض الدولة الدينية (الثيوقراطية) كما هي الحال في الجمهورية الإسلامية في إيران، ولكنه لا يقول بفصل الدين عن الدولة، والمؤسسة الدينية عن المؤسسة السياسية، بل يقول في نسخه المعاصرة بالدولة المدنية بخلفية أو مرجعية إسلامية. وهنا في مصطلح الدولة المدنية، ليس المقصود بالمدنية سوى الرجال والنساء الذين يسوسون هذه الدولة، وليس مدنية الدولة ذاتها ودستورها ومدونتها القانونية، هي دولة مدنية بمعنى أنها لا تُدار من قبل رجال الدين المعممون.
نأتي الآن الى الكهنوت، يقول الشيخ محمد عبده، ومعظم السلفيين بأنه لا يوجد كهنوت في الإسلام، ولكن من دون أن يضعوا على هذا الحكم الإطلاقي بعض الاستثناءات، وكأنهم لا يرون في الشيعة مسلمين كاملين، ربما يرونهم كما رآهم الجابري في مشروعه لنقد العقل العربي على اعتبارهم أول من تهرمس في الإسلام. فالشيعة الذين يشكلون 10 ـ 15% من مجموع المسلمين في العالم لديهم كهنوت رسمي، وكنيسة رسمية، وفاتيكان يقع في مدينة قم في إيران، ومدينة النجف في العراق، وهم يعتبرون الأئمة الاثني عشر معصومون فيما يخص تفسير وتأويل النص القرآني. أما في الفرع السني من الإسلام، فلا يوجد كهنوت ولا كنيسة واحدة جامعة، هذا كله صحيح، ولكن لنعترف بوجود كنائس وكهنوت بعدد كبار العلماء المسلمين الذين يتصدرون لائحة التويتر العالمية في المشاهدة. إن كان معظم الدعاة والمفتين والفقهاء والإسلاميون من الكتاب يرددون بصورة ببغائية عدم وجود كهنوت في الإسلام، فماذا نسمي إذن الفتوى الرسمية وغير الرسمية؟ والتي أصبحت مع القنوات الفضائية في كل حركة يقوم بها المسلم في يومه. إن البعض من هؤلاء أصبح يتدخل حتى في ملابس النساء الداخلية، فكيف يسمح البعض لنفسه بالاسترسال بترداد أن لا وجود للكهنوت في الإسلام، وهؤلاء الذين يملؤون الشاشات ويتدخلون في كل شاردة وواردة من حياة المسلم ماذا نسميهم؟ وأين نضع منصب الخليفة في الإسلام؟ أليست وظيفته الأساسية في كتب السياسة الشرعية هي حراسة الدين وسياسة الدنيا. وأين نضع خدمة الأمة الإسلامية هذه؟ والأمة الإسلامية بالتعريف هي جماعة من الناس التي تعتقد عقيدة واحدة، وإنما المؤمنون أخوة، ويد على من سواهم. والخليفة في واحد من شروط تعيينه (الاجتهاد)، فكيف نقول إن الحكم مدني في الإسلام السني، ومن شروط الخليفة بحسب الفقه الشرعي السياسي أن يكون مجتهداً.
إن الخلفاء المسلمين كانت لهم السلطة في إقرار مدرسة عقائدية وفقهية معينة وإلغاء مدرسة عقائدية أو فقهية أخرى، هل هذا عمل حكام سياسيين، وحكومات مدنية في الإسلام السني؟ فقد كانت الخلافة الإسلامية حتى مجيء المأمون على عقيدة أهل السنة والجماعة، ثمّ قلبها المأمون نحو المدرسة الكلامية الاعتزالية، ثمّ جاء الخليفة المتوكل بعد ثلاثة عقود وأعادها الى عقيدة أهل السنة والجماعة، وفي عهد الخليفة القادر صدر مرسوماً دينياً سمي بالاعتقاد القادري تُليّ في كل مساجد الخلافة، اعتُبر فيه أهل الاعتزال زنادقة وكفار، وطُلب منهم الاستتابة وإلا تعرضوا للاضطهاد والقتل، كذلك جرى في هذا المرسوم تكفير بعض فرق الشيعة. وبلد مثل مصر غيرت مذهبها عدة مرات، فقد بدأت سنيّة على المذهب الشافعي، ثم عندما جاء الفاطميون أصبحت شيعية مغالية. وعندما حكم مصر الناصر صلاح الدين الأيوبي عادت سنيّة، وكانت مرة مالكية، ثمّ أصبحت شافعية، وعندما جاء العثمانيون أصبح الزواج والطلاق على مذهب الإمام أبو حنيفة النعمان، وباقي الفقه بقي على مذهب الإمام الشافعي.
إذن، فالخليفة هو الذي يقرر المذهب الفقهي الذي يتعبّد عليه الناس، فكيف يدّعي علماء الدين والفقهاء، ومن بينهم الشيخ محمد عبده، بأنه لا وجود للكهنوت في الإسلام، ولا وجود لسلطة دينية في الإسلام إلا عند الشيعة الإمامية. والشيخ محمد عبده الذي قال الكلام نفسه، كان مفتي الديار المصرية، وكان يفتي في كل شيء من لباس الرأس الى الفوائد في البنوك.
واليوم استفحلت آفة الكهنوت والسلطة الدينية في الإسلام، فتجد الدعاة والمفتون والمفكرون الإسلاميون على كل الشاشات يفتون في السياسة والاقتصاد وعلم الجنين وفي الفلك ولبس النساء الداخلي وفي الماكياج وحمرة الشفاه وكيفية أداء الفعل الجنسي الحلال بين الزوجين، دون الرجوع الى أحد الأطباء المختصين في نقل الأمراض الجنسية لكي يدلي برأيه العلمي في الموضوع.
إذن، كفانا ترداداً لمقولة أن لا وجود للكهنوت في الإسلام بصورة بديهية وإطلاقية، والإكتفاء بالقول بأنه في النص القرآني لا دليل على وجود الكهنوت، ولا دليل على وجود الدولة الدينية، ولا على الخلافة الإسلامية كما أوضح ذلك الشيخ علي عبد الرازق عام 1925 في كتابه ((الإسلام وأصول الحكم))، ولكن تاريخ المسلمين وتاريخ التدين الإسلامي كما مورس منذ أربع عشر قرناً يشي بوجود هذا الكهنوت وبسلطته المتعاظمة على المؤمنين في كل مكان في العالم تواجد فيه المسلمون، حتى في البلدان التي يكون فيها المسلمون أقليات، مثل الجاليات المسلمة في الغرب مثلاً، وغيرها من البلدان الغير إسلامية.
الهوامش
(1) محمد عبده حول هذه المجادلة الشهيرة ((الإسلام والنصرانية بين العلم والمدنية))، هذا الكتاب موجود في ((الأعمال الكاملة لمحمد عبده))، إشراف محمد عمارة، الجزء الثالث، الرد على فرح أنطون، وفي النصرانية والإسلام، وبالخصوص ص: 257 ـ 259، ص: 368.
(2) كان لدى الشيخ محمد عبده مشروعاً للإصلاح الديني في الإسلام لم ينجح بسبب عدة عومل، منها تاريخية، حيث أن هذا المشروع تقاطع مع وجود الاستعمار الكولونيلي في المنطقة، وكذلك لتناقضات داخلية في المشروع ذاته، وأما السبب الثالث فهو قصر حياة الشيخ، حيث توفى عن عمر لا يتجاوز الخامسة والخمسين سنة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. يهود يتبرأون من حرب الاحتلال على غزة ويدعمون المظاهرات في أم


.. لم تصمد طويلا.. بعد 6 أيام من ولادتها -صابرين الروح- تفارق ا




.. كل سنة وأقباط مصر بخير.. انتشار سعف النخيل في الإسكندرية است


.. الـLBCI ترافقكم في قداس أحد الشعانين لدى المسيحيين الذين يتب




.. الفوضى التي نراها فعلا هي موجودة لأن حمل الفتوى أو حمل الإفت