الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الدولة الفاشلة والبحث عن الهوية

عيسى مسعود بغني
(Issa Baghni)

2021 / 12 / 27
الثورات والانتفاضات الجماهيرية


لا شك أن كل دولة فشلت في أن تصنع نظام حكم رشيد، وتفرض سيادتها على أرضها، هي دولة فاشلة، ولأسف ليبيا ضمن هذه المجموعة. بعد زوال الحكومات الشمولية، وانتهاء القبضة الحديدية، بأفول شمس الطغاة والمستبدين، أصبحت الشعوب أمام تحدي كبير وهو استحداث مواثيق وأعراف متفق عليها للتعايش السلمي بين مكونات الأمة كبديل لصهر تنوعات المجتمع بالقوة الأمنية للدولة.
هناك دول استطاعت أن تجد لها دساتير جديدة ومواثيق شرف توافقية بني عليها التحول الديموقراطي، وهناك شعوب لم تسطيع القيام بذلك، فانقسمت إلى دول قزمية أصغر مثل ما حدث في الاتحاد السوفيتي ويوغسلافيا والسودان وغيرها وهناك دول لم تصل لذلك الميثاق فأصبحت بؤر للحروب مثل العراق واليمن وليبيا وسوريا والصومال واثيوبيا والسودان وحتى كتالونيا. ظاهرة القلاقل والحروب هي جزء من البحث عن الهوية ضمن النزعة إلى النظام الديموقراطي الجديد عن تلك الدول بين قوى التغيير والمنتفعين من الأنظمة السابقة أو الحكومة العميقة إضافة إلى تنازع المجموعات القبلية والجهوية على ممتلكات الدولة، مع فرض أمر واقع بالقوة بسبب عدم وجود دستور يحترم له السيادة أو قوة رادعة.
هذا كان في أوروبا منذ قرنين من الزمان أخرها الحرب الأهلية الاسبانية، وبذلك توصلت الدول الغربية إلى دساتير حاكمة يحترمها الجميع رغم وجود مكونات اجتماعية مختلفة ولغات متنوعة في الدولة الواحدة، فمثلا بريطانيا لها أربعة مجموعات عرقية ولغتين، ولكنها لم تحدث بينها حروب مند قرون، وبالمثل ألمانيا وفرنسا وسويسرا وإيطاليا وغيرها.
في ليبيا رغم ان الجغرافيا فرضت نفسها قديما وحديثاً وهي ركيزة الهوية الليبية التي تميزها عن غيرها، والممتدة من سيوه شرقا إلى خليج قابس غربا، والشعب الليبي بتاريخه الطويل يختلف عن شعب النيل ويختلف عن شعب نوميديا؛ شمال تونس والجزائر، إلا أن الجزء الثالث من الدولة وهو نظام الحكم والسيادة قد فشل الليبيون على مدي سبعون عاما من الوصول إليه؛ وهو السبب في التطاحن الخفي خلال الحقبتين الملكية والجمهورية والتطاحن العلني خلال العشرة سنوات الماضية، وهو الإخفاق الذي لم يحقق تصور واضح للدولة الليبية، ولم يصل إلى هوية جامعة تختص بها ليبيا دون غيرها.
في الشرق الليبي توجد قبائل عربية حافظت على عاداتها وثقافتها العربية، والتي تتحرك ككثله واحدة سواء كانت عند إنخراطها في الجيش السنوسي أو عند مطالبتها بتكوين إمارة برقة أو حتى إرسالها وفد للأمم المتحدة لنقل رأيها بعد الوصاية الإنجليزية، بل تنصيب الملك كان بناء على تغييره من أمير إمارة برقة إلى ملك ليبيا بمساعدة البريطانيين، وبقيت هذه الكتلة لها قوة في صنع القرار خلال فترة الملكية وحتى إنقلاب 1969م الذي سحق الجميع وقضي على أي معارضة له.
بالمقابل هناك كثلة سكانية كبيرة في الغرب الليبي، لها جذور عرقية مختلفة من عرب وأمازيغ وأتراك وأفارقه داخل مدن وقرى لا سيادة لساسة القبيلة في شئونها، هذا التداخل السكاني المدني أبعد شبح القبلية وجعل الانصياع للدولة أسهل رغم وجود بعض المجموعات القبلية المنغلقة في الغرب الليبي التي لا تقل استحواذا عن غيرها والتي تتمسك بنظام ما قبل الدولة. أما الجنوب فمعظمه من أصول ليبية من الأهالي أو أفريقية، فهو أقل عددا في السكان وأكثر توافقا وتسامحا وأبعد عن القبلية المقيتة وهو جزء من الغرب الليبي على مر التاريخ سوى بعض السنوات عند تكوين ممالك محلية.
بعد زوال القبضة الحديدية في فبراير 2011م شعرت المجموعات القبلية والجهوية بعدم مقدرة الدولة على توفير احتياجاتها وتحقيق أمالها أو حصولها على غنائم الدولة فعادت إلى قواعدها الأساسية عرقيا أو جهويا وأصبحت القبيلة هي الديدن والوسيلة لقضاء المصالح والغلبة، مما أضعف كثيراً من هيبة الدولة وأوقف جزء أساسي من السيادة وهو فقدان سلطة القرار وفقدان حصرية امتلاك السلاح، انعكس ذلك سلبا على المنشاة النفطية بجعلها عرضة للإغلاق والتدمير، والضغط على الدولة لتمرير طلبات قبلية، مثل تعيين أشخاص لا كفأه لهم أو توفير أموال أو إرساء عقود فاسدة. ومما زاد الأمر تعقيدا هو استنجاد الخصوم الليبيين بالخارج والاستقواء بهم إعلاميا وسياسيا وعسكريا حتى أصبحت القبائل والمجموعات المسلحة التابعة لها، ذيول وعملاء للقوى الإقليمية ومنها مصر والإمارات والقوى الدولية مثل روسيا وفرنسا وتركيا.
ما يصاحب هذا، حالة الفساد لسد ديون الدعم الخارجي، والنهب المبرمج من القوى المتناحرة لإفراغ خزائن الدولة في عمليات نهب لم يشهد لها التاريخ. والغريب في الأمر أن هذه المجموعات المتناحرة وبمساعدة الإذاعات الموجهة التي تقوم بالتزييف المبرمج استطاعت تكوين حاضنة شعبية في الشرق الليبي من الفقراء والمعوزين اللذين دفعوا بأبنائهم الى أتون الحرب والدمار، فدمروا مدنهم مثل بنغازي ودرنه ودمروا جزء كبير من جنوب طرابلس وهجروا أهلها.
الواضح للعيان أن لا حركة الجهاد المنفصلة بين الشرق والغرب الليبي ولا السعي لتكوين إمارة أو للاستقلال بمبعوثين منفصلين ولا بوجود فيدرالية في العشرية الأولى للملكية ولا للمملكة المتحدة في العشرية الثانية استطاعت تكوين ثقافة سياسية جامعة ولا رؤية موحدة لطبيعة الدولة ولا توافق على أساسيات بناء الدولة بين شرق البلاد وغربها، بل أن هناك تباين كبير حتى في هوية الدولة بين من يرى أن ليبيا لها هوية أمه ليبية وبين من يرى أن هويتها وتبعيتها وانتمائها للدول الإسلامية أو العربية أو حتى أنها جزء من السيادة المصرية.
هذا المشهد انعكس على المؤسسات بعد 2011م فالمؤتمر الوطني تم الاعتداء عليه لأكثر من 200 مرة، والانقسام في معظمه بين الشرق والغرب، ولجنة الدستور تشكلت تحث تهديد السلاح وقفل المليشيات الفيدرالية للطريق بين الشرق والغرب الليبي عند الوادي الأحمر، ومجلس النواب ثم انتخابه بناء على مخرجات لجنة فبراير غير الدستورية، والذي انقسم من يوم ولادته، ولم يكون سوى مجلس رئيس مجلس النواب وقبته بيت عقيلة صالح، وقراراته جلبت قوات الفاغنر الروسية وغيرها من المرتزقة، وباركت الهجوم على العاصمة، ناهيك عن قفل الحقول النفطية من المليشيات القبلية ومن حفتر بخسائر تتجاوز مئة مليار دولار خلال السنوات الماضية.
هذه الكوميديا السوداء تؤكد صعوبة تبني النظام الديموقراطي البرلماني المركزي للدولة الليبية ، والذي لا يؤدي إلا الى الكثير من الفوضى وإنتهاك مؤسسات الدولة والتسابق على الغنيمة، وإيقاف عجلة الحياة، بديلا عن ذلك إحدى المسارين: إما العودة إلى النظام الشمولي تحث قيادة رئاسية طاغية تُسكت كل الأصوات وتُكمم كل الأفواه وتزج بالسجون كل من يفكر في أن ينتهك مقدرات الدولة أو المساس بسيادتها، وهي جزء من سيادة الحاكم، وهذه نكسة كبيرة لأمال وأحلام أحرار الشعب الليبي الذين خرجوا في فبراير 2011م للقضاء نهائيا عن الحكم الشمولي ورموزه. أو تبني الديموقراطية المصغرة (Micro democracy) أو اللامركزية الديموقراطية التي تتمثل في النظام الفيدرالي ربما للثلاثة أقاليم أو لإقليمين الشرقي والغربي على اعتبار أن الجنوب الشرقي مع الشرق أو ما يسمى ببرقة الحمراء والبيضاء، بالمقابل الجنوب والوسط الغربي مع الغرب الليبي. هكذا نظام يمكن أن يوقف التعطيل الممنهج للدولة بإيجاد نوع من التجانس الثقافي بين المكونات في كل إقليم، ويخلق تنافس بين الأقاليم ويحد من غلو وتعجرف المجموعات القبلية من أهلها ويوقف ثقافة الغنيمة والفساد أو يحدها في الإقليم، ويجعل المجتمع أكثر حرصا على مخصصات الدولة، كما أن الممارسات الخاطئة تصبح عائقا للإقليم وليس للدولة، إضافة إلى أن المؤسسات الأمنية للدولة ستعمل على ترسيخ مفهوم السيادة وإعمال القانون على الجميع.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. محمد نبيل بنعبد الله يستقبل السيد لي يونزي “Li Yunze”


.. الشيوعيون الروس يحيون ذكرى ضحايا -انقلاب أكتوبر 1993-




.. نشرة إيجاز - حزب الله يطلق صواريخ باتجاه مدينة قيساريا حيث م


.. نشرة إيجاز - حزب الله يطلق صواريخ باتجاه مدينة قيساريا حيث م




.. يديعوت أحرونوت: تحقيق إسرائيلي في الصواريخ التي أطلقت باتجاه