الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الدين والمجتمع

بن مهدي صالح

2022 / 1 / 2
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


في العصور القديمة كان الدين لا يمكن تمييزه عمّا يُعرف اليوم بإسم "الأساطير" وكان يتألف من طقوس منتظمة تستند إلى الإيمان بالكيانات الخارقة للطبيعة الأعلى التي خلقت واستمرت في الحفاظ على العالم والكون المحيطة به.

أنشأت كل أُمة إلهاً يعكس صورتها، حيث كانت آلهة الشعوب العدائية لا تقلُّ عدائيةً عنها.

قياساً على ذلك يمكنك تخيّل آلهة الشعوب التي تميل إلى السلم.

شعرَ القدماء بضرورة وجود أكثر من إله لأنه لا يمكن لأي إله واحد أن يهتم بجميع احتياجات الفرد، فلا ينفع أن يذهب المرء إلى إله الحدادة ليعالج كلبه المريض، ولا يمكنه اللجوء إلى إله الحرب إذا كان واقعاً بالحُب.

قام العديد من آلهة العالَم القديم بهذه الوظيفة كمتخصصين في مجالاتهم.

لا بدَّ من الإشارة إلى أن الشِرك يعني عبادة العديد من الآلهة، بينما التعددية الدينية تعني عبادة إله واحد بأشكال عديدة.

كان هذا التحول في الفهم نادراً جداً في العالَم القديم، وربما تكون الإلهة إيزيس والإله آمون أفضل مثال على الصعود الكامل للإله من واحد إلى عدّة إلى الخالق الأسمى للكون المعترَف به في الكون بأشكال مختلفة.

تمارس كل ثقافة قديمة شكلاً من أشكال الدين، لكن حيث بدأ الدين لا يمكن تحديده بأي قدر من اليقين. لا يزال الجدل دائراً حول ما إذا كان دين بلاد ما بين النهرين قد ألهمَ ديانة المصريين، لكن على الأرجح أن كل ثقافة قد طوَّرت إيمانها بالكيانات الخارقة لشرح الظواهر الطبيعية كالليل والنهار والفصول الأربعة، أو للمساعدة في فهم الحياة وحالة عدم اليقين التي يجدها البشر في حياتهم اليومية.

من المثير للاهتمام التفكير في مسألة التبادل الثقافي أثناء تتبُّع أُصول الدين، إلا أن المثير أكثر هو التفكير بأن الدافع الديني هو ببساطة جزء من الحالة الإنسانية والثقافات المختلفة في أجزاء مختلفة من العالَم وأن البشر قد توصلوا إلى نفس الاستنتاجات حول معنى الحياة بشكل مستقل.

بلاد الرافدين :

كما هو الحال مع العديد من التطورات والاختراعات الثقافية، تمَّ وصف بلاد الرافدين بأنها "مهد الحضارة" وبالتالي فهي مهد الدين أيضاً.
بداية الدين في بلاد ما بين النهرين غير معروفة، ولكن أول سجلات مكتوبة للممارسة الدينية تمَّ العثور عليها في سومر، وتعود إلى عام 3500 قبل الميلاد.
تبيّن المعتقدات الدينية في بلاد ما بين النهرين أن البشر كانوا زملاء عمل مع الآلهة وتعاونوا معهم لكبح جماح قوى الفوضى التي تسبَّبت بها الآلهة العليا أصلاً.
تمَّ إنشاء نظام الفوضى من قبل الآلهة، وواحدة من الأساطير الأكثر شعبية التي توضح هذا المبدأ هي أُسطورة حرب مردوخ مع تيامات وقوى الفوضى التي تسبَّبت بخلق العالَم. يقول المؤرخ د. بريندان ناغل :

على الرغم من انتصار الآلهة الظاهر، لم يكن هناك ما يضمن أن قوى الفوضى قد لا تستعيد قوّتها وتقلب الخلق المنظَّم للآلهة. شارك الآلهة والبشر على حدٍ سواء في النضال الدائم لكبح جماح قوى الفوضى، وكان لكل منهم دوره الخاص في هذه المعركة الدرامية، حيث كانت مسؤولية سكان مدن بلاد ما بين النهرين تزويد الآلهة بكل ما يحتاجونه لإدارة العالَم.

دفعت الآلهة البشر لخدمتهم من خلال رعاية احتياجاتهم اليومية في الحياة.
في الواقع، تمَّ خلق البشر لهذا الغرض بالذات: العمل مع الآلهة من أجل نهاية مفيدة للطرفين.
إدّعى بعض المؤرخين بأن كون سكان بلاد ما بين النهرين عبيداً لآلهتهم هو أمر لا يمكن الدفاع عنه لأنه من الواضح تماماً أنهم فهموا موقفهم كزملاء في العمل.
دفع الآلهة البشر لخدمتهم من خلال رعاية احتياجاتهم اليومية في الحياة مثل تزويدهم بالبيرة وشراب الآلهة والحفاظ على العالَم الذي عاشوا فيه.
هؤلاء الآلهة عرفوا احتياجات الناس عن قرب لأنهم لم يكونوا كيانات بعيدة تعيش في السماوات بل سكنوا في منازل على الأرض بناها شعبهم، وكانت هذه المنازل هي المعابد التي نشأت في كل مدينة من بلاد ما بين النهرين .
كانت الزقورات الشاهقة تُعتبَر المنازل الحرفية للآلهة التي يتمُّ تغذيتها وإلباسها يومياً بينما كان الكهنة يعتنون بها.
لنأخذ الإله مردوخ على سبيل المثال، تمَّ تنفيذ تمثاله ووضعه في معبده، كما كان يتمّ الاحتفال بتكريمه والسير بتمثاله في مدينة بابل لكي يُقدَّر جماله بينما يستمتع بالهواء المنعش وأشعة الشمس.

كانت الجليلة إنانا (عشتار) إلهاً قوياً آخَر، وكانت تُقدَّر كثيراً كإلهة الحُب والجنس والحرب، وكان الكهنة يعتنون بتمثالها ومعبدها بأمانة.
تعتبر واحدة من أوائل الأمثلة على شخصية الإله التي تموت وتحيى وتنزل إلى العالَم السفلي وتعود إلى الحياة، فتجلب الخصوبة والوفرة إلى الأرض.
كانت عبادتها شائعة جداً ومنتشرة في جميع أنحاء بلاد ما بين النهرين إبتداءً من منطقة سومر الجنوبية.
أصبحت عشتار إلهاً أكدياً ثم آشورياً، وعبَدها الفينيقيون والحوريون والحثّيون، وارتبطت مع أفروديت الإغريق، وإيزيس المصريين، وفينوس الرومان.

كانت المعابد مركز حياة المدينة عبر تأريخ بلاد ما بين النهرين من الإمبراطورية الأكدية (2334 - 2150 قبل الميلاد) إلى الآشوريين (1813 - 612 قبل الميلاد)، وبعد ذلك قامَ المعبد بخدمة الشعب في قدرات متعددة، حيث قام رجال الدين بتوزيع الحبوب وفائض البضائع على الفقراء وساهموا بتقديم المشورة للمحتاجين، وتقديم الخدمات الطبية للعامة، ورعاية المهرجانات الكبرى.
على الرغم من أن الآلهة اهتموا كثيراً بالبشر أثناء عيشهم، إلا أن تصوُّر سكان بلاد الرافدين لحياتهم في العالَم الآخر كان كئيباً كئيباً، عالَمٌ يقع أسفل الجبال البعيدة، حيث شربت النفوس مياه قديمة من البرَك وأكلت الغبار إلى الأبد في أرض اللاعودة.
هذه النظرة القاتمة لمنزلهم الأبديّ كانت مختلفة بشكل ملحوظ عن وجهة نظر المصريين.

بلاد النيل :

كانت المعتقدات المصرية مشابهة للمعتقدات الرافدينية، حيث إن البشر كانوا زملاء عمل مع الآلهة للحفاظ على النظام.
كان مبدأ التناغم ذا أهمية قصوى في الحياة المصرية في العالَمين الدنيوي والأُخروي، وتمَّ دمج دينهم بالكامل في كل جانب من جوانب الوجود.
كان الدين المصري مزيج من السحر والأساطير، العلوم، الطب البدني، الطب النفسي، الروحانية، الأعشاب، وكذلك الفهم الحديث للدين باعتباره الإيمان بقوة أعلى وحياة بعد الموت.
كانت الآلهة أصدقاء البشر ولم يسعوا إلا لتحقيق الأفضل لهم من خلال تزويدهم بأكثر الأراضي مثالية للعيش فيها ومنزلًا أبدياً للاستمتاع بها عندما تنتهي حياتهم على الأرض.

يأتي أول سجل مكتوب للممارسة الدينية في مصر القديمة منذ حوالي 3400 سنة قبل الميلاد، أي في فترة ما قبل الأسرات في مصر (3150 - 6000 قبل الميلاد).

أُسطورة الخلق المصرية تشبه بداية قصة بلاد ما بين النهرين حيث لم يكن هناك في الأصل سوى مياه فوضوية بطيئة وكان المحيط بلا حدود، بلا عمق، صامتاً، وكانت هناك تلة من الأرض تعرف بإسم بن بن (التل البدائي) والإله العظيم أتوم (الشمس) يقف على بن بن ويتحدَّث ويخلق الإله شو من الهواء وآلهة تيفنوت من الرطوبة والإله جيب من الأرض وإلهة البندق من السماء.
بجانب أتوم وقفت هيكا مجسِّدةً السِحر، والتي أنجبت الكون.

كان أتوم يعتزم الزواج بـ نوت، لكنها وقعت في الحُب مع جيب. غضب أتوم من هذه العلاقة وقام بفصل العاشقان.
على الرغم من انفصال العاشقين أثناء النهار، فقد اجتمعا ليلًا وأنجبت نوت ثلاثة أبناء هُم أوزوريس، سيت، حورس، وابنتين هُما إيزيس ونفتيس.

بعد ولادة أوزوريس أُعلن بأنه الأكبر سناً وهو رب الأرض كلها، بعدها أُعطي أخته إيزيس كزوجة. قام أخوه سيت بقتله لاعتلاء العرش، فقامت زوجته إيزيس بتحنيط جسده وإعادته للحياة. بعدها أصبحَ أوزوريس قاضياً أعلى لأرواح الموتى في قاعة الحقيقة.

عُرفَت الآخرة المصرية بإسم "حقل القصب" وكانت صورة طبق الأصل عن الحياة على الأرض.
كان مصير الإنسان السيء هو العدم، يلتهمهُ الوحش عمعموت وينتهي أمره، بينما الإنسان الخيّر يحظى بالنعيم في الحياة الأبدية.

تم التأكد من المعلومات التاريخية المشار لها من خلال مراجعة المراجع الإنجليزية المستخدمة في المقال الذي نشرته موسوعة التاريخ القديم :

ج. بلاك، ا. غرين | آلهة وشياطين ورموز بلاد الرافدين القديمة - جامعة تكساس.
صموئيل كريمر | الميثولوجيا السومرية - جامعة بنسلفانيا.
صموئيل كريمر | السومريون : تاريخهم وثقافتهم وشخصيتهم - جامعة بنسلفانيا.
د. ناردو | الميثولوجيا المصرية - منشورات انسلو.
ج. بنتش | الميثولوجيا المصرية - جامعة أوكسفورد.
اتش سميث | الأديان العالمية - منش








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إسرائيل تسيطر على الجانب الفلسطيني من معبر رفح.. وتوقف دخول


.. بعد قتله جنديين.. حزب الله يستهدف مجدداً ضباطاً إسرائيليين ب




.. هل سيطرة إسرائيل على معبر رفح مقدمة للسيطرة على المدينة بكام


.. شقاق متزايد في علاقة الحليفين.. غضب إسرائيلي من -الفخ الأمير




.. ترامب يتهم بايدن بتزوير المحاكمة لأهداف سياسية