الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


اللغة كسلاح ملوث

سعود سالم
كاتب وفنان تشكيلي

(Saoud Salem)

2022 / 1 / 6
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


اللغة كائن عجيب يحتل ويستعمر وجود الإنسان من الداخل دون أن نشعر به، ودون أن ندرك مدى تغلغله في ثنايا كل ثانية وكل دقيقة من الزمان البشري، ومدى تأثيره في كل كبيرة وصغيرة من تصرفاتنا وأفعالنا اليومية. اللغة هي التي تكون صورة الإنسان وشخصيته وموقفه تجاه الآخرين وتجاه الأحداث. فاللغة ليست أداة أو وسيلة للتفكير، وإنما هي التفكير ذاته. والكلمات، المكون الأساسي للغة، تملأ الفضاء الفاصل بين الإنسان والآخر، آلاف وملايين ومليارات الكلمات تتناطح وتتصارع كذرات الغبار الذي نتنفسه، في صفحات الكتب والصحف والمجلات وملايين المطبوعات المختلفة منذ مئات السنين، والتي تملأ رفوف المكتبات والمتاحف ومراكز الوثائق والمخطوطات، تملأ لوحات الإعلانات وأجهزة البث بكل أشكالها وأنواعها وأجهزتها القديمة والحديثة. لا شك في أن الكلمة هي المخلوق الأكثر إنتشارا والأسرع تكاثرا من بين جميع الكائنات المعروفة على سطح الكرة الأرضية. الكلمات لا تموت ولا تندثر ولا تتبخر ولا تتلاشى، إنها تتراكم في طبقات فوق بعضها البعض، وكل طبقة تخفي الطبقة التي تحتها، تنتظر أركيولوجيا يأتي ويحفر وينقب ويزيل الطين والتراب عن بعضها ويعيدها كما كانت حية متألقة، حادة وصلبة أو رقيقة شاعرية أو مسمومة قاتلة. كل كلمة لها تاريخها ووجودها المتميز بالنسبة لكل فرد في هذا العالم. الكلمات أزلية، خالدة، وحياتها ليس لها حدود زمنية ولا جغرافية، وإن كان أغلبها مدفونة تحت كومة من الطين والغبار والرماد. في لغتنا اليومية نستعمل الكلمات المتوفرة في السوق، الكلمات المتعارف عليها، الكلمات التي لا تحتوي على الكثير من المعنى، لتسهيل التواصل ولكسب الوقت. غير أن هناك من يستعمل اللغة، ليس فقط من أجل وهمية الإتصال بالآخر( صباح الخير، صباح الورد، كيف الأحوال، ..إلخ)، وإنما كسلاح للسيطرة والتوجيه والتهديد، هناك من يستعملها كما يستعمل العصا والسكين أو الرصاصة، وفي بعض الأحيان تستعمل اللغة كسلاح من أسلحة الدمار الشامل لها من القوة ما يمكن أن يدمر مجتمعات بأكملها. ولكل لغة أسلوبها الخاص في خلق الدوائر اللولبية التي تلف المعنى وتعزله، ووسيلتها المتميزة في الإستحواذ على عقول الناس وتوجيههم نحو طرق معلومة منذ البداية. فاللغة العربية، إذا بدأنا بها كمثال، لا تسمح لك بأن تفتح فمك لتقول كلمتين دون أن تسقط مباشرة، مهما اتخذت من الإحتياطات، في عالم الغيب والخرافات والميتافيزيقا، وتجد نفسك مطوقا من جميع الجوانب بالشيوخ والفقهاء والأنبياء والرسل والآلهة. فالإنسان هو "مخلوق" أو "عبدا لله" أو إبنا للسيد آدم "بني آدم"، والحاضر يصبح "دنيا" والمستقبل "آخرة"، ومجرى التاريخ يسمى "القضاء والقدر" والأمثلة لا تعد ولا تحصى. وليست السلطة الدينية وحدها التي تمارس هذا التوجيه الإجباري نحو الخرافة والماورائيات، هناك أيضا المجتمع بكل تعقيداته وتشابكاته الذي يعلمنا بأن نضرب عصفورين بحجر، وبأن عصفور في اليد، خير من عشرة على الشجرة وبأن من علمني حرفا صرت له عبدا، وبأن من تمنطق فقد تزندق، وأنه علينا الإتباع وليس الإبتداع، إلى آخر القائمة المعروفة من كنوز اللغة العربية. ولكي لا نفقد الطريق وسط هذه الغابة من المصطلحات الغيبية المتناقضة، علينا أن نسير بحذر شديد وأن نفكر أكثر من مرتين قبل الإفصاح عما نريد قوله للآخرين، حتى لا يضيع المعنى في متاهة الكلمات الجاهزة المتواجدة على رفوف المحلات وحوانيت الكلام. ولكن ما أن نخرج من مأزق لغة القضاء والقدر ومنطق "إنشاء الله" و "الله أعلم"، حتى نسقط في كمين آخر، حفرة سحيقة وربما أكثر عمقا من الهاوية الإلهية، نجد أنفسنا في مواجهة هذه اللغة الجديدة التي تحدث عنها جورج أورويل في منتصف القرن الماضي، هذه اللغة التي تنقلب فيها المفاهيم ونسمي فيها الفحم "بياض"، والأعمى يسمى "بصيرا"، وحيث حرية الإستثمار والإستغلال وسرقة عرق العمال ومجهودهم يسمى "حرية"، وحيث التبعية للرأسمالية الأمريكية تسمى "ديموقراطية"، وحيث سلطة مالكي أجهزة الإعلام المختلفة من صحافة وإذاعة وتلفزيون وإنترنت تسمى دون خجل "حرية التعبير"، وإرادة الدولة بكل مؤسساتها للتحكم في حياة المواطنين وحماية الأغنياء منهم ضد غظب الفقراء تسمى"القانون" والعدالة وتكافؤ الفرص، وحيث سلطة الأمراء والعائلات الثرية تسمى "التمثيل البرلماني"، وإعطاء الشرعية لمحترفي السياسة من رجال الأعمال لحماية مصالحهم يسمى "الإنتخابات النزيهة"، وحيث وكر الذئاب يسمى "البرلمان". ولكي لا يصاب الإنسان بالإنفصام أو بالجنون، لا بد من تعلم هذه اللغة، وتقشير الكلمات من الغلاف السميك التي يغطيها، وتعلم المفردات والقواعد الجديدة التي تحكمها، وإلا فإننا لن نفهم مطلقا ما تعنيه مفاهيم بسيطة مثل "أسلحة الدمار الجماعية"، "الحرب الوقائية"، "القنابل الملوثة"، أو كلمات أكثر بساطة مثل "السلام"، "الحرية"، "الديموقراطية"، "العنف والإرهاب". الإشكالية إذا ليست في الكلمات وحدها، وإنما في الذي يستعمل هذه الكلمات وفي متلقى هذه الكلمات، مشكلة اللغة بكامل مستوياتها وتركيباتها الإجتماعية والسياسية والنفسية والتي تتطور وتتغير من لحظة لأخرى حسب المواقف وحسب طبيعة الأحداث، وحسب صراع القوى والمصالح المتحكمة في قواميس اللغة. إن كلمة "حرية" في فم رئيس أمريكي أو أوربي أو من دول العالم الثالث أو الرابع، ليس لها نفس المعنى ولا تغطي نفس الفضاء الرمزي والمادي ككلمة"حرية" في فم طفل فلسطيني أو فلاح من البرازيل، وكلمة "أمن" بدورها ليس لها نفس المعنى في فم رجل الأعمال أو في فم متشرد بلا مأوى في إحدى العواصم الأوربية أو في القرى العشوائية في العالم الفقير. هناك إذا لغة خاصة وعالمية يمارسها رجال السياسة ورجال رأس المال فيما بينهم، وبواسطة أجهزة الإعلام المختلفة، ويلعب الصحفي والمثقف والمحلل السياسي وغيرهم، دور المترجم لشرح مضمون الرسالة للمواطن العادي، حتى تتطابق مع المعنى المقصود، فتشبه اللغة في هذه الحالة وعاء فارغا يملأه هؤلاء المتخصصون بما يشاؤون من الروث.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - رسالة من غريق في برميل الرمال و الزفت
محمد بن زكري ( 2022 / 1 / 6 - 15:25 )
في برميل الرمل و الزفت ، الذي يسمونه ليبيا ؛ حيث التصحر هو العلامة المسجلة التي تسم - أو تصم - بختمها كل شيء : تصحر البيئة و تصحر الثقافة و تصحر السياسة إلخ التصحرات .. و الأخطر هو تصحر الأدمغة ، و حيث لا تسمع و لا تقرأ غير تراكيب اللغة الملوثة بالعبودية و الدونية من قبيل : الله غالب ، حسبنا الله ، لا حول و لا قوة إلا بالله ، إن شاء الله ، بإذن الله ، خير الانبياء و المرسلين ، سيد الخلق أجمعين ، الحبيب المصطفى إلخ ...
في برميل الرمل و الزفت و الأفاعي و العقارب ذاك ، يمتشقون اللغة سلاحا ميتافيزيقيا نيوليبراليا بدويا (و يا لغرابة الخلطة !) ملوثا ؛ يجعل من ملياردير توكيلات تجارية قائدا للرأي العام و منظّراً في علوم الاقتصاد ، و يجعل من ملياردير رشوة تنفيذ مشروعات عامة رئيسا للوزراء ، و يجعل من أثرياء تجارة الأغنام (يسمونهم الوجهاء و الاعيان) نوابا في البرلمان .
(حاشية : و أنا أقرأ لك - أستاذ سعود - و اعتبرك مفكرا كبيرا ، أجد كثيرا من التشابه بينك ، في المنطلقات الفكرية و المقاربات البحثية ببعدها الثقافي و أسلوب معالجة القضايا موضوع التناول ، و بين الدكتور رجب بودبوس) .
تحياتي


2 - لا تغرق .. ليبيا في حاجة إليك١-;- -
سعود سالم ( 2022 / 1 / 8 - 12:18 )
لا شك بأن الوضع الراهن في ليبيا هو بمثابة كابوس مروع وكارثة لا نعرف حدودها، ومع ذلك فإن العديد يتمنى عدم الإستيقاظ من هذا -الحلم- حتى لا يواجه الواقع الأكثر بشاعة والأكثر سوادا من هذا الكابوس. ومواجهة ظاهرة التصحر والتحجر الفكري تحتاج لسنوات عديدة من التوعية المتواصلة والتفكير والحوار بين كافة طبقات المجتمع. للأسف الشديد هذا العمل لم يبدأ بعد، رغم وجود بعض المحاولات المعزولة هنا وهناك، مما يجعل هذه الأصوات القليلة تشعر بأنها تصرخ في صحراء يسكنها الأموات والأشباح. ولكن لأننا لا نؤمن بالقضاء ولا بالقدر، فمصير الشعوب ليس مكتوبا مسبقا، فكل شيء ممكن وفي أي وقت، رغم أن هذا مجرد نوع من التفاؤل الطفولي الذي يساعد على مواصلة الحياة.


3 - لا تغرق .. ليبيا في حاجة إليك٢-;- -
سعود سالم ( 2022 / 1 / 8 - 12:20 )

أما بخصوص رجب بودبوس، فإنني لم أقرأ له سوى بعض التراجم المسرحية عندما كنت طالبا في قسم الفلسفة بجامعة بنغازي والتي كان ينشرها في مجلة قورينا، وفي السنوات الأخيرة قرأت له بحثا تاريخيا عن الإسلام ومسألة الحكم.
وبعد تعليقك هذا، قمت بالبحث عن كتب بودبوس وتمكنت من تحميل كتابه زمن الثورة المنشور سنة ١-;-٩-;-٨-;-٥-;-، ولم أجد نصوصا حديثة.
الأستاذ محمد، أشكرك على كلماتك المشجعة، فأنا مثل العديد من الذين يعيشون بعيدا عن الواقع الليبي، نحتاج لمثل هذه الكلمات حتى لا نموت مغلفين بالصمت والعزلة.
مع فائق الإحترام


4 - أستاذ سعود .. حاملو مشاعل التنوير لا يطويهم الظلام
محمد بن زكري ( 2022 / 1 / 8 - 20:58 )
أحييكم مجددا استاذ سعود . و شكرا على رفع المعنويات
رجب بودبوس - دكتوراه من جامعة فرنسية - عمل رئيسا لقسم الفلسفة بجامعة بنغازي ، كان (مغرماً) بالفلسفة الوجودية و خاصة عند سارتر (أسبقية الوجود على الماهية ، الأنا و الآخر ، الوجود و العدم .. إلخ) . التحق بالنظام السابق كمنظر لما سمي بالنظرية العالمية الثالثة ، و شغل منصب أمين (وزير) الإعلام و الثقافة . صدرت له مجموعة مؤلفات ، منها : في الطريق الثالث ، سلسلة في 14 كتابا باسم (مواقف) ، ثلاثي المثالية ، الدين و العقل ، الفوضوية ، في الحل الاشتراكي ، نحو تفسير اجتماعي للتاريخ ، سلسلة في 3 كتب باسم فلسفة الفلسفة ، نقد العقل الاقتصادي في 3 أجزاء ، الاسلام و مسألة الحكم ، محاضرات في الفلسفة المعاصرة . و أيضا صدرت له عدة ترجمات ، منها : قيام و انهيار القوى العظمى لبول كندي ، الولايات المتحدة قمة الانحطاط لروجيه غارودي ، الرأسمالية و الاشتراكية لألبيرتيني ، محاكة العولمية لغولد سميث . و نظر لارتباطه بنظام القذافي ، سجن بعد فورة فبراير ، و اطلقوا سراحه مؤخرا بعد ست سنوات سجن .
تمنياتي لكم بالسلامة و بمزيد من التوفيق و التألق


5 - اللغة والمجتمع
صلاح شومان ( 2022 / 1 / 9 - 19:17 )

نعم اللغة لها دور كبير في تطور او تأخر المجتمع
ارجوا ان تكتب اكثر في الموضوع

استاذ سعود
اسمك من بين الاسماء القليلة التي ابحث عنها عندما اتصفح الحوار المتمدن

استمر نحن نقرأ لك

اخر الافلام

.. في هذا الموعد.. اجتماع بين بايدن ونتنياهو في واشنطن


.. مسؤولون سابقون: تواطؤ أميركي لا يمكن إنكاره مع إسرائيل بغزة




.. نائب الأمين العام لحزب الله: لإسرائيل أن تقرر ما تريد لكن يج


.. لماذا تشكل العبوات الناسفة بالضفة خطرًا على جيش الاحتلال؟




.. شبان يعيدون ترميم منازلهم المدمرة في غزة