الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


(الإسلاسي) و (العُلَيْمانية) : مفهومان قيد الإنشاء

جعفر المظفر

2022 / 1 / 6
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


رغم أن الكتابة عن العَلمانية وعن الإسلام السياسي صار لها حصة الأسد في قاموس السياسة والفكر إلا أننا في إعتقادي ما زلنا بحاجة إلى المزيد منها, إذ ما زال العديد منا لا يميز بين العَلمانية بفتح العين والعِلمانية بكسرها, وفي هذا نَصير - على سبيل المثال - أمام الشيخ يوسف القرضاوي الرئيس السابق لإتحاد المسلمين وهو يصر في كتابه المعنون (الإسلام والعلمانية وجها لوجه) أن المفردتين هما في النهاية تأتيان بنفس المعنى, لذلك أجاز لنفسه الإنحياز إلى كسر العين بدلا من فتحها, ليجعل المفردة مشتقة من العِلم وليس من العالم.
كما أثارني أخيراً بعض من الشباب العراقي الذين إنضموا إلى آخرين شاركوهم تأسيس تجمع عراقي عَلماني حينما نطقوا اللفظة على طريقة الشيخ, وأظنهم لم يكونوا مدركين لما تفعله الكسرة أو الفتحة لفظاً في مجال تغيير المعنى, ولم يحسنوا حتماً نطق الكلمة التي تطلعوا للعمل تحتها كعنوانٍ لتجمعهم, فأرادوا شيئاً لكنهم لفظوا شيئاً آخر.
إن العَلمانية التي ندعو إليها هي من العالَم وليست من العِلم لأن حصرها في مجال العِلم سيخضع تعريفها ومعناها لكي يتحرك في مساحة ضيقة وكأنها مواجهة بين العِلم والدين وليس ثقافة متفتحةً على الحياة بشتى جوانبها.
وفي بداية صعود الإسلام السياسي العربي خلال العقود الأخيرة أصبح الحديث عن العَلمانية يجري بحذر بعد أن باتت عامة الشعب مشحونة تماماً بتأثيرات هزائم الأنظمة السابقة وكوارثها مما هيئها للقبول بثقافة الإسلام السياسي وهو يبشرها في مرحلة الضياع والإحباط والمرارة بأنه الحل لكل مشاكلها الكبيرة والصغيرة.
ولقد أُتيح بعدها أن تكون تجربة الإسلام السياسي على المحك بعد أن كشفت الممارسة عن عيوبها الهائلة حتى صار بإمكاننا أن نقول أن هزيمة (العُليْمانيين) كانت هزيمة سياسية بينما باتت هزيمة الإسلام السياسي أخلاقية وسياسية.
وإن من شأن مقارنة كهذه أن تضع الأولى في خانة الفشل السياسي بينما تضع الثانية في خانة السقوط الأخلاقي, منوهين إلى أهمية التمييز بين معنى الفشل السياسي ومعنى السقوط الأخلاقي.
لقد أدخلت الأولى بلادنا في مساحة سادها القمع والحروب وطغيان الحاكم على حساب تراجع دور الشعب وإلغاء رأيه. في المقابل فإن الإسلاميين لم يضيعوا دقيقة واحدة في إغراق البلد في حالة من الفوضى الأخلاقية والسياسية التي لم تسئ للناس والمجتمع والدولة الوطنية فقط وإنما أساءت أيضاً للدين الذين يدعون العمل بموجبه ولصالحه.
لقد رأيناهم في مصر وهم يدخلون بسرعة صاروخية في صراع حاد مع هوية مصر الوطنية, وبان نظامهم وكأنه نسخة سُنية لنظام نائب الأمام الغائب الشيعية في إيران. أما في العراق فقد كشف الإسلام السياسي بسرعة فائقة عن تناقضه الخطير مع حالة الدولة الوطنية وتحول البلد على يديه إلى (حقيبة يدوية) لإيران, ناهيك عن الخراب المجتمعي الكبير الذي أحدثه حكمهم على أكثر من صعيد.
ولقد إنهار حكم الإسلاميين في مصر خلال عام فقط, أما في العراق فإن إنهيارهم قادم لا محالة, إذ بعد أن سقط الحكم أخلاقيا فإن سقوطه القانوني يصبح مجرد وقت.
وربما لن تكون دواعي نشوء العلمانية في الغرب هي ذات الدواعي التي تستدعي الحاجة إليها عربياً وذلك بسبب إختلاف تطور تلك المجتمعات ونوعية صراعاتها الذاتية الخاصة بزمانها ومكانها وخصوصيات علاقتها بالدين, لكن ذلك لا يعني أنها, ولهذه الأسباب التي جعلتها صالحة هناك, تصير غير صالحة لمنطقتنا وبلداننا, فثمة عوامل خاصة بمجتمعاتنا يمكن أن تجعل العَلمانية الديمقراطية حلا للمشاكل التي جاء بها الدين السياسي وطريقاً للنهضة والتقدم والإلتحاق بالعالم المتحضر وللإبقاء على حالة الدولة الوطنية نفسها وما يتأسس عليها من مفاهيم السيادة والحرية والتقدم.
وبينما كان بإمكان الإسلاميين أن يطرحوا أنفسهم على أنهم الحل وان يتخذوا من الخصوصيات الوضعية والمكانية والزمانية دليلا على إنتفاء حاجتنا إلى العَلمانية بإدعاء أنها نظام خاص بالغرب, إلا أن فشلهم السريع على صعيد تجربتهم السياسية في الحكم وعمق التخريب الذي أحدثوه مجتمعياً جعل بالإمكان مناقشة الحل الديني السياسي كونه مشكلة, لا كونه حلا.
ولنتذكر أن (العَلمانية) في بلادنا لم تكن قد وجدت أصلا حتى يُحملوها أخطاء وكوارث المرحلة السابقة, وإنما الذي كان عندنا هو شيء آخر سمحت لنفسي أن أصفه بمفردة (العُلَيْمانية) بدلا من (العَلمانية).
وسيفهم القارئ بمساعدة تفاصيل أخرى إنني لم آتِ بالمفردة الجديدة لغرض أن أخرج (العَلمانيات) العربية سالمة من مآزقها القديمة وإنما لأنني مؤمن تماما أن أخطاء وكوارث الأنظمة السابقة يجب أن لا يجري إسقاطها على العَلمانية وذلك لسبب بسيط وهو أن هذ الأخيرة لم تكن وجدت لدينا بالأصل.
إن جميع الدول الوطنية التي تأسست بعد سقوط الدولة الإسلامية العثمانية لم تكن حقاً دولا (عَلمانية) وإنما كانت دول (عُلَيمانية) لأنها لم تتجرأ على الفصل الكامل للدولة عن الدين وظلت تتحرك ضمن مساحة توفيقية وتوافقية تصالحية فجرت إنجازاتها وإخفاقاتها في مساحة السياسة لا في مساحة المجتمع, بل ان التجربة أكدت من جانبها أن المجتمع كان مهيئاً لإستقبال البديل الإسلامي, لا لأن هذا البديل كان حلا مقنعاً وإنما لأن فشله الذريع لم يكن قد تبين بعد.
إضافة إلى أن الأنظمة العربية السابقة لم تكن لديها منفعة ولا ضرورة تحتم عليها الإنتقال من (العُلَيمانية) إلى (العَلْمانية) لكونها ظلت بعيدة عن السياقات التي أدت إلى نشوء هذه الأخيرة في الغرب العَلماني. وحتى أن الناس لم تحس بالحاجة إلى فهم حقيقي لمعنى العَلمانية إلا بعد أن باءت تجربة الإسلام السياسي بالفشل المريع.
والحال نحن نتفق مع الشيخ القرضاوي ومريديه حينما أكدوا على أن الظروف التي أدت إلى نشوء العلمانية في الغرب حينها ليست متوفرة في شرقنا الإسلامي, لكننا صرنا نتمنى عليهم أن يجعلوا فرضيتهم مفتوحة على سؤال من نوع: وماذا لو توفرت في بلدنا الظروف الموضوعية الخاصة التي تستدعي نظاما كهذا ؟!
ثم لماذا نفترض ان هناك عَلمانية واحدة ونحن نعلم أن هناك أشكالا متباينة منها تبعاً لإختلاف الخصوصيات التي أنتجتها, فالعلمانية الأمريكية ليست منتجاً لذات الظروف التي أنتجت الفرنسية لأن الأولى لم تشهد صراعاً بين الكنيسة والمجتمع كما كانت عليه الحالة الفرنسية وكانت قد جاءت كخيار وعي وليست كخيار ظرف ضاغط كما الثانية.
وسأرفق سؤالي بآخر أعتبره على غاية كبيرة من الخطورة, فالشيخ ومريدوه لا يحسنون اللعبة حقاً حينما يستثمرون معادلة الإنسجام ما بين الخاص والعام لتأسيس المبادئ فنراهم يقرون بعدم جواز الأخذ بالعلمانية لأن الظروف العربية تاريخيا غير منتجةٍ لها.
معنى ذلك من جهة أن العلمانية التي أنتجت التطور في الغرب هي نظام مقنع ولا حاجة لأهل الغرب أن يبدلوها بنظام آخر يتأسس على الإسلام كما يشتهونه ويبشرون به. ومعناه من الجهة الأخرى أن خيار العلمانية سيبقى مفتوحاً عربياً وعراقياً في حالة توفر التوليفة التي تنتجه.
وربما سيحاول أولئك الذين يتبنون هذه الأفكار الخروج من مأزق التناقض أو التوئمة ما بين الموضوعي والذاتي بدعوتهم للتمييز بين ما هو روحي وأخلاقي ورباني وقَدَري وهو الدين, وبين ما هو مادي ووضعي وأرضي وهو العلمانية, وهنا أيضاً سوف نجابه نفس الإشكالية لأن كلا الإدعائين ينقصهما مشهد حاسم, فالدين ليس روحيا بكامله وإنما تتعامل شرائعه مع قضايا حياتية وضعية متطورة ومتغيرة, فهو هنا مادي أيضاً بحدود هذا التعريف.
على الجهة الأخرى فإن العلمانية هي بالأساس منهج أخلاقي وروحي بمقدار علاقته بقضايا الحرية وحقوق الإنسان والعقل والفكر خارج إملاءات المؤسسات الكهنوتية. ولعل رجال المؤسسات الدينية يعرفون أن الدعوة إلى العلمانية السياسية لم تكن بالأصل دعوة ضد الدين وإنما كانت دعوة ضد تدخل المؤسسة الدينية في شؤون الحكم ومناهجه وعقائده.
وفي إتجاه كهذا, أي الدعوة إلى العَلمانية الديمقراطية نكون قد بيَّنا النقلة الأساسية للتحول من (العُلَيمانية) التي أجبتها ظروف (التحول الناعم) بعد سقوط دولة الإسلام السياسي العثماني, إلى (العَلمانية) التي من المفترض أن تكون بديلا لدولة الإسلام السياسي في بلدان عربية متفرقة وفي مقدمتها العراق.
لقد أوليت هذا المشهد إهتماماً رئيسا في متن كتابي المعد للإصدار حول العَلمانية لكونه يصلح كبوابة أساسية لفهم ظروف إنتصار العَلمانية في الغرب ونكوصها في المحيط العربي. ويمكنني أن ألخص مفهوم (التحول الناعم) هنا بإلإختصار الذي يقول إن خروج المجتمعات الغربية إلى العلمانية قد تم من داخلها حيث أدرك الغرب من خلال مخاضات ومواجهات فكرية وعلمية وإجتماعية حاجته الماسة لها وأكد إستعداده الدائم للدفاع عنها لأنها صارت ضمانة لتقدمه, ودونها هي العودة إلى عصور الظلام. أما في بلادنا التي كانت قد إنتقلت من حالتها كجزء من الدولة الإسلامية العثمانية إلى حالة الدولة الوطنية الحديثة فإنها إستلمت العَلمانية على شكل وجبة جاهزة ولم تصل إليها كنتاج لمخاض إجتماعي كذلك الذي حصل في الغرب, ولذلك جاءت علمانيتهم ضاربة في عمق المجتمع بينما ظلت علمانيتنا معلقة في فضاء السياسة.
ولست أعني بـ (العُليْمانية) أنها نسخة مصغرة عن العَلمانية الغربية, وإنما المعني الحقيقي بها هو الضبابية او حتى التشويه والإزداوجية والتداخل في منظومة الحكم وفي دساتيره ولوائحه ما بين الديني واللاديني والتي أدت إلى إنسدادات لم تستطع الولادات الوطنية أن تتخطاها.
وقد أعطتني العودة إلى علاقة التفاعل الإيجابي بين نشوء الدولة القومية العربية ونشوء الدين الإسلامي, أعطتني حق التأكيد على وجوب درس حاجتنا الخاصة إلى العَلمانية من خارج سياقاتها ومآلاتها الغربية
أما الآن وبعد أن توفرت لقوى الإسلام السياسي قدرات الهيمنة على الحكم في عدة بلدان عربية وفي مقدمتها العراق ومصر وتونس وبدرجات متفرقة ليبيا واليمن ولبنان فقد تأكد فشلهم عملياً على أكثرية الأصعدة وخاصة الأخلاقية منها. وسيعلمنا هذا السقوط الأخلاقي الذي تم خلال فترة زمنية قياسية أن ثمة خللٍ جوهري كبير يعاني منه هذا الإسلام السياسي.
ولقد أوليت هذا المشهد إهتماما ً خاصاً كونه يتحدث عن إشكالات المواجهة بين دولة الدين السياسي والدولة الوطنية حيث المناعة القيمية التي تبقي البلد بعيداً عن إملاءات التبعية والذيلية لهذا الطرف الإقليمي والدولي أو ذاك. وسيؤكد لنا ذلك صعوبة التوفيق بين الدين والسياسة كونهما إذا إجتمعا معاً خَرِبا معأً. وأن السياسة ليست ميكافيلية إلا إذا هيمن عليها الميكافيليون. وأما رجال الدين السياسي فلا طريق أمامهم سوى طريق العداء للدولة الوطنية. وأن المسلم الذي يصير (إسلاميا), بمعنى تدخله دينياً في السياسة, لن يعود من الدين بشيء, كما أن السياسي الذي يتزيى بالعقيده الإسلامية لن يعود سياسياً, وإنما سيكون كلاهما مخلوقاً جديداً بشعاً لا علاقة له بالدين أو السياسة. ولقد رأيت أن من الأصح أن نطلق على هذا المخلوق إسم (الإسلاسي) بدلا من (الإسلام السياسي) الذي يأتي هنا توصيفاً لحالة الشذوذ التي يجلبها دخول الدين على السياسة أو دخول السياسة على الدين.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - العَلْمانيّة تقبَل الغُلْمانيّة
ريوار ريبوار ( 2022 / 1 / 7 - 13:45 )
تشبُّه الجّنسين ومُراودَة الجّنس المِثلي ببعض؛ بخلاف الإسلام !

اخر الافلام

.. أسامة بن لادن.. 13 عاما على مقتله


.. حديث السوشال | من بينها المسجد النبوي.. سيول شديدة تضرب مناط




.. 102-Al-Baqarah


.. 103-Al-Baqarah




.. 104-Al-Baqarah