الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


التكسب بالدين تجارة في الله

عباس علي العلي
باحث في علم الأديان ومفكر يساري علماني

(Abbas Ali Al Ali)

2022 / 1 / 7
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


رجل الدين الذي يتخذ من علمه بالدين وسيلة للتعيش والارتزاق ليس افضل ولا أكرم من بائع الخضرة أو الحطاب أو سائق التكسي، فكل أولئك عمال مجدين بجهدهم البدني الخالص لا يحتاجون
إلا لشيء بسيط من المعرفة لممارسة المهنة وقد يبقون العمر كله لا يحتاجون ما أحتاجوا له في نقطة البداية، رجل الدين المتكسب أيضا ما إن يتعلم أساسيات المهنة التي يزاولها ويباشر عمله لا يحتاج بعدها أكثر من ذلك سوى التزينات واللمحات التي تزيد من زبائنه، فهو إذا يتاجر بما موجود طبيعيا ومتاح لكل الناس فلا لا يشتري من أحد ولا يحتاج لرأسمال ليبدأ عمله، فالدين موجود في عرض الحياة وطولها ويمكنك أن تأخذ منه ما تريد بلا ثمن فهو مباح ومتاح، إذا فليس من الظلم أن نقارن بين رجل الكسب الديني ونظيره من الذين يتقدمون في الحياة بخبرة بسيطة ورأسمال لا يكاد يساوي صفرا.
أما الطبيب والمهندس والمعلم وغيرهم من المهن التي تزيد في المعرفة الإنسانية وتساهم في حفظ حياة الناس فهي تحتاج لزمن وجهد وبذل وهمر مستقطع ونفقات وألام وسهر ليالي، رأسمال صعب ولا متاح لكل من هب ودب، فهذه المهن الغالب عليها العلم والغاية أكثر من مجرد الكسب وقد لا تؤمن لصاحبها ما تؤمن لرجل الدين من مردود سواء أكان ماديا أو معنويا، لكنها عندي وعند من يرى الوجود بمنظار المنطق العقلي اشرف وأجل من مهنة رجل الدين الكاسب بدينه، فغياب الطبيب والمهندس والمعلم والصيدلاني يجعل من الحياة صعبة محفوفة في المخاطر والضيق وقد تصل لحد الأزمة الإنسانية، أما وجودهم مع كثرتها التي فوق طاقة ما يحتاج المجتمع فتزيد من فرص تحسنه وتقدمه، لأنها في جميع الأحوال نفع ومصلحة لا خطر معها ولا بها، أما رجل الدين المتكسب فوظيفته لا تتعدى الشكليات التي إن حضرت لا تغني وإن غابت لا تفتقد بل قد يكون كل إنسان من جهة قادر أن يسد الشاغر، لكن الخطر يكون في كثرتهم والمزاحمة بينهم فيبتكرون من عقولهم ما لا أصل له لغرض المنافسة حتى لو أدى ذلك لضرب منطق الدين وجوهره، السبب يعود كون كل رأسمالهم هو الدين وحتى يكبر المردود لا بد من تعظيم رأسمالهم الذي هو أصلا محدود وبين ولا يحتاج إلا للفهم، فيبتكرون ما يعرف بفوقيات الدين ومنها الغيبيات والميتافيزيقيات التي تغري روادهم وتنعش سوقهم.
أما رجل الدين الذي يخدم الدين لوجه الله والإنسان بلا أنتظار منه أو أجر أو مقابل سوى أنه يريد أن يشارك المعرفة التي أدركها على سبيل النجاة مع كل الناس، فذاك هو الرجل المؤمن بأن دين الله طوق نجاة لكل الناس، ولأنه فعلا مؤمن بما أمن به وأن الله في عقله يشير له أن خير الناس من نفع الناس، فقدم الخيرية على المخيورية، وقدم الفضل من الفاضل لمن هو أهلا للتفضل عليه، فصار فاضل إليه من الله ومن الإنسان، الدين عنده رسالة طاهرة تشبه الشرف بل تتعالى عليه فهو ليس بسلعة ولا بحرفة قابلة للتجارة والمتاجرة به تماما كشرفه وضميره وعقله ووجدانه الخاص لا يمكن أن يتاجر لهم ولا بمكن أن يضعهم موضع الأسترقاق والمساومة مهما كان المبرر والعذر، هذا الرجل الذي عرف الدين كوجه من وجوه رحمة الله لا يشك للحظة أنه بعلمه يقايض الرحمة بالذهب والفضة، يل يرى ما يقوم به مجرد معونة منه لمن يحتاج الأستقامة وطلب الرحمة بل من يحتاج الى السمو والارتقاء.
ليس لدينا وجهة نظر شاذة عن رجل الدين أيا كان لو عرف حدود ما يتعاطى به تكسبا أو تقربا، لكن المشكلة التي لا بد من مواجهتها بشكل حاسم وجاد عندما يفرض عليك أن تتعامل مع المتكسب الديني على أنه ملاك مقدس لا يمس ولا ينظر له بغير نظرة التبجيل والعظمة، لكنه عندما يتعامل معك وأنت ممن لا يطلب من أحد سوى أن يقدم الخير للأخرين ويعيش كرامة وعزة نفس، يرى فيك شيء أخر لا يستحق أن يبادلك النظرة بمثلها لأنه أعظم منك وأنه لولا هو لما عرفت طريق الحياة، فهو شريك الله وشريك الوجود وعليك تقديسه، هذا النموذج محتقر صال ومضل لا يفهم الدين الذي هو رأسماله الذي يتكسب منه، مما يعني أنه عامل فاشل ومخرب لمهنته لا يجيد حتى إدارة نفسه فكيف له أن يجيد إدارة غيره، إذا لا ينبغي له أن يبقى على وهمه ولا بد من صفعة تعيده للرشد.
الحياة في عموميتها تتخذ من العمل والجد والسعي طريقا لإكمال متطلباتها وفق لشروط عديدة منها ما يتاح ومنها ما يستهدف ومنها الفرصة والتناسب، أبدا لا يلام إلا الجاهل في فهمها، ولا يحاسب إلا في كيفية التعاطي الصحيح معها، مع الإقرار بأن قوانينها ليست أفتراضية على الجميع بل هي خيارات من عدة، ما قلته ليس معناه أن نحتقر من لا يستطيع أن يتعلم ويساهم بشكل إيجابي في الحياة، فالله أصلا لا يكلف نفسا إلا وسعها، ولو أن في وسع الإنسان أن يكبر دوما لأنه يملك القوة الذاتية لذلك، لكن الظروف والمعطيات والأسباب قد تتداخل وتتضارب أو تتعاكس فتضطرب، لكن أبدا لا يمكن أن نساوي بين الجميع ونقدم الأقل في العطاء على الأغنى والأكثر بسبب أن الأول تمظهر وتستر خلف ما هو عظيم في النفوس وكبير في العقول، الدين جزء من حياتنا نتشكل في جزء منها به، لكن ليس من خلال الكسبة بل من خلال العطاء والأنتماء الحقيقي له.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الجماعة الإسلامية في لبنان: استشهاد اثنين من قادة الجناح الع


.. شاهد: الأقلية المسلمة تنتقد ازدواج معايير الشرطة الأسترالية




.. منظمات إسلامية ترفض -ازدواجية الشرطة الأسترالية-


.. صابرين الروح.. وفاة الرضيعة التي خطفت أنظار العالم بإخراجها




.. كاهنات في الكنيسة الكاثوليكية؟ • فرانس 24 / FRANCE 24