الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المجتمع المدني:: بين التأصيل والابتسار

محاسن زين العابدين عبدالله

2022 / 1 / 9
المجتمع المدني


المــــــــجتمــــــــــــع المــــــــــــــــــدنــــــــــــــــــــــــي:: بين التأصيل والابتسار (1)

محاسن زين العابدين عبدالله

لا يمكن الفصل بين صيرورة المجتمع المدني في أشكاله المتعددة وتطوره عبر السنوات عن الحراك الإنساني وتجاذب المصالح والصراع من أجل السلطة والقوة من ناحية، والسعي الجماهيري المستمر لتحسين نوعية الحياة وتوقها إلى وجوب الحق والعدالة الاجتماعية من ناحية أخرى. هذه الصيرورة مرت بمراحل تاريخية متعددة عملت كل مرحلة على بلورة وصياغة معالم مفهوم المجتمع المدني. فقد دار النقاش طويلا حول العلاقة بين السلطة والشعب وبين السلطة والكنيسة كإفراز طبيعي لأشكال ونظم الحكم، دورها وأثرها على المواطن. وقد تركزت الاجتهادات بادئ الأمر حول الوضع السائد وارتباط السلطة بالقداسة والذي روج له فلاسفة الحق الالهي ورجال الكنيسة، ولم يقتصر الأمر على فك الارتباط هذا بل تركزت النقاشات في حقوق المواطن، الحق في الإرادة والاختيار والحق في تقرير حياته ورفض ما يفرضه النظام الإقطاعي من تمييز واضطهاد.

هذه التطورات بدأت بعلماء الفلسفة اليونانية القديمة أفلاطون وأرسطو مرورا بالتحولات الاجتماعية والتغيرات في نمط الإنتاج السائد في القرنين السابع والثامن عشر. وعلى الرغم من إن مفهوم المجتمع المدني ومكوناته حينها لم يكن يعني ذات المفهوم الرائج الآن، لكن هذه المراحل وفي كل الأحوال كانت تؤسس للدور السياسي المنوط بالدولة وتأطير العلاقة بين المواطن والسلطة في مسعى لم يتوقف حتى اليوم، لكن هل كانت المنطلقات لذلك تأخذ ذات المجرى لتحقيق العدالة الاجتماعية على أسس واضحة، وغاية محددة وإن اختلفت الأليات. وهل حسمت هذه النقاشات التي دارت على مدار خمسة قرون الجدل حول ماهيته والياته، هذا ما سنحاول الوصول إليه.

المرحلة الأولى: نشأة النظام الحاكم في إطار تطور مفهوم المجتمع المدني: -
لقد ظهر مفهوم المجتمع المدني وتبلور النقاش حوله بشكل جاد أثر التحولات الاجتماعية والسياسية التي عرفتها أوروبا في القرنين السابع عشر والثامن عشر بعد انهيار المجتمع الإقطاعي وبروز عصر التنوير الذي قاده الفلاسفة والمفكرين عبر نقاشات مستفيضة هدفت إلى تأطير العلاقة بين السلطة والمواطن. في إطار البحث عن علاقة مختلفة يرتضي فيها المواطن تفويض بعض من حقوقه وحاجاته إلى الحاكم وفق نظام سمي حينها بالعقد الاجتماعي، وعلى الرغم من إن المفهوم قد ساهم في التأسيس لوجوب حقوق المواطن إلا أنه في واقع الأمر كان رافدا لمفهوم الحكومة تطورها ونشأتها وتبلورها عبر التاريخ.

هذا وينسب مفكرو العقد الاجتماعي ظهور مفهوم المجتمع المدني إلى الفلسفة اليونانية القديمة، وينوهون إلى أن ارسطو قد أشار إليه باعتباره مجموعة سياسية تخضع للقوانين، أي الحكومة فتأسيس الحكومة عند أرسطو والفلسفة اليونانية عموما يقصد بها مجتمع مدني يمثل مجتمعا سياسيا أعضاؤه هم المواطنين الذين يعترفون بقوانين الحكومة ويتصرفون وفقا لها، وعلى الرغم من أن ارسطو دعا إلى تكوين مجتمع سياسي تسود فيه حرية التعبير عن الرأي ويقوم بتشريع القوانين لحماية العدالة والمساواة. إلا أن المشاركة في هذا المجتمع السياسي تقتصر على النخبة، ويحرم منها العمال والأجانب والنساء

لقد تبلور مفهوم المجتمع المدني في أوروبا في سياق مقاومة أشكال العلاقة القائمة حينها بين المجتمع والحاكم، ودارت حولها الكثير من النقاشات التي ساهمت في تأطير الأحداث فأفرزت، تحولات اجتماعية وسياسية ومعرفية تمخض عنها ما عرف بنظرية العقد الاجتماعي، هذه النظرية التي كان لها دوراً كبيراً في بلورة مفهوم العلاقة بين الحاكم والمجتمع. وقد مثل هذه النظرية ثلاثة من أكبر مفكري أوروبا حينها (توماس هوبز، جون لوك، جان جاك روسو) وسنستعرض أفكارهم في تعريفهم للمجتمع المدني .

إن توجهات مفكري العقد الاجتماعي في تعريفهم للمجتمع المدني إذ ترتبط بالحاجة الاجتماعية والسياسية حينها فإنها تسير أيضا في سياق بلورة ونشأة الحكومة وتنظيم العمل السياسي، فالحاجة إلى الامن إذ يرى تومـــــــــــــــــــــــــــاس هــــــــــــــــــــــــــــــــــــــوبز أن المجتمع مؤلف من أفراد يحبون التملك والسيطرة، وفي مؤلفه الشهير ليفياثان Leviathan أو اللويثتان (1588-1679) ميز بين حالتين للبشر، حالة طبيعية أي فطرية الحقوق فيها متساوية ولا حاكم غير القوة ، وحالة مدنية (حضارية) يتخلى كل فرد فيها عن جانب من حقه العام وارتضاء قيام حكومة تحفظ التوازن والاستقرار وهوبز الذي يبدو أنه مهموماً بمسالة توفير الأمن، ترتكز نظريته على أهمية توافر حاكم ذو سلطة مطلقة، والعقد هو منحة من المجتمع هو ليس طرفا في فيه وليس ملزما به فالعقد في نظره هو إقرار بين أفراد المجتمع يتم بموجبه التنازل التام للحاكم مقابل تحقيق الأمن.

وفي ذات المسار سار جون لو ك (1632-1314) الذي ألف كتابي (بحث في الحكومة المدنيّة) و (رسالة في التسامح) إذ يرى بإن المجتمع المدني أو المجتمع السياسي ينشأ عندما يتفق الأفراد بإرادتهم الحرة ويتنازلون عن حق فرض القانون الطبيعي لسلطة جديدة تكون مهمتها صيانة الحقوق الأساسية للأفراد في الحياة والحرية والتملك، و يلتزم أفراد ذلك المجتمع المدني بطاعة تلك السلطة طالما هي ملتزمة بشروط الاتفاق معهم، أما إذا خرجت عليه، كان لهم الحق في أن يثوروا عليها و يحلوا محلها سلطة أخرى أكثر حرصا و استعدادا لاحترام حقوقهم. فالمجتمع المدني عند لوك بني على التعاقد والاختيار وليس الإكراه بحكم التفويض الإلهي . والمجتمع المدني عند لوك هو نفسه المجتمع السياسي.

أما جـــــان جــــــاك روســــــــــــــــــــــــو "1713 -1788" فيرى أن فكرة المجتمع المدني تعني تنازل الأفراد عن حرياتهم الطبيعية للجماعة في مقابل الحصول على حريات مدنية جديدة، يكفلها المجتمع لهم على أساس المساواة ما دام العقد الاجتماعي الذي يجمع بينهم قد تولد عن إرادة عامة، هي إرادة الجماعة المستقلة عن إرادة كل فرد على حدة، وهي مظهر لسيادة المجتمع، وتعبير عن السيادة، ولا يجوز التنازل عنها . فالمجتمع لدى روسو هو مصدر السلطات وهو الذي يضع لها الضوابط والقيود في ممارسة الحكومة لعملياتها.

ويرى الباحث أن خلاصة هذه الأطروحات الفلسفية عن نشأة وتطور مفهوم المجتمع المدني لدى فلاسفة اليونان ومفكري العقد الاجتماعي بقدر ما ارتبطت بشكل تام بتطور حركة الحقوق المدنية التي أسهمت في بلورة مفهوم ونشأة الحكومة وتنظيم العمل السياسي، والفصل بين السلطة والدين إلا أن الارتباط الأكثر أهمية هو هذا الارتباط الوريدي بين تطور الفكر السياسي من ناحية والمتطلبات الاقتصادية، فالحق لدى أرسطو قد ارتبط بالنخب من النبلاء بحكم ملكيتهم للأرض والعبيد، وجاء هوبز لاحقا منطلقا من أهمية الحفاظ على الثروات، سالبا للإرادة العامة للمواطنين في رؤيته لتكريس السلطة في يد الحاكم، وفي كل الأحوال فإن هذه الجهود كانت رافدا هاما في تطور الفكر السياسي ونشوء الديمقراطيات في الغرب، منطلقة من مناهضة سيادة فلسفة الحكم المطلق والتفويض الإلهي ومحاولات مقاومة تسلط الكنيسة والعبودية المستندة إلى نظام اقتصادي قائم على الإقطاع وطبقتين من الفلاحين الأقنان والنبلاء والتي أفرزت تحولات سياسية شكلت الأساس لوجوب حقوق المواطنة وما تمخض عن ذلك من تطورات سياسية هامة في نظم الحكم والإدارة. وقد أشار ماركس لاحقا لهذه الجهود قائلاً في إحدى رسائله "فيما يخصني ليس لي، لا فضل اكتشاف الطبقات في المجتمع المعاصر، ولا فضل اكتشاف صراعها. فقد سبقني بوقت طويل مؤرخون برجوازيين بسطوا التصور التاريخي لصراع الطبقات هذا، واقتصاديون برجوازيين بسطوا تركيب الطبقات الاقتصادي. وما أعطيته من جديد يتلخص في إقامة البرهان على أن وجود الطبقات لا يقترن إلاّ بمراحل معينة من تطور الإنتاج .

هذه المرحلة من المراحل المهمة ليس فقط لأنها تبين بوضوح الرابطة بين المجتمع المدني والعمل السياسي والذي لا زال مثار جدل بين الباحثين. بل لأنها في واقع الأمر تحدد وفق رؤى فلسفية واضحة العلاقة بين المجتمع والسلطة، وماهية حقوق المواطنة وكيفيتها وحدودها. وأن مفهوم المجتمع المدني قد انطلق في الأساس من حقيقة أن المجتمع هو مانح الحق المقيد للسلطة، وأن السلطة ما هي إلا أداة لخدمة المجتمع وتنظيم أموره. وكلا هذين العاملين لا زالا يشكلان قضايا أساسية ومثار جدل بين الباحثين.

هذا وسيتضح لاحقاً كيف أن هذا المفهوم لا زال يتبلور باستمرار في استجابة آنية للمصالح المتصارعة، والظروف الاقتصادية والاجتماعية السائدة، لتشكل سياسات توصم بها حركة المجتمع في كل مرحلة من مراحل تطوره

المرحلة الثانية: القرن الثامن والتاسع عشر:

على الرغم من أن القرنين الثامن والتاسع عشر قد شهدا انعطافا جوهريا في بلورة مفهوم المجتمع المدني في سيرورته الحالية، وانعتاقه من مفهوم الحكومة ونشأتها، إلا أن ما دار من نقاشات لا زالت مستمرة شابها الكثير من الجدل والذي لم يحسم حتى اليوم. فبينما يرى مايكل إدواردز أن انهيار النظرية التقليدية للسلطة باندلاع الثورتين الفرنسية والأمريكية وصعود اقتصاد السوق قد قادا إلى تحول في مفهوم المجتمع المدني ليصبح خطا دفاعيا ضد تجاوزات الحكومة غير المبررة على حقوق الفرد وحرياته في رأي مفكري حركة التنوير .

فإن هيجل "1770 – 1831" وهو من أبرز مفكري القرن التاسع عشر قد اهتم بالأطر المفاهيمية أكثر من اهتمامه بتاريخ الفكرة أو أصل نشأتها، وهو يرى أن الإرادة الحرة هي الأساس والأصل للحق" فلسفة الحق" وإن هذه الإرادة هي التي تنتظم في أنشطة وكيانات اجتماعية كانت أم سياسية لتشكل المجتمع المدني، ويرى أن المجتمع المدني مجال لإشباع الحاجات وهو مجال تنافس الحاجات الخاصة والمتعارضة، وأنه امتداد للفكرة الاخلاقية المتمثلة في الأسرة ويقع في إطارها الأسرة والمجتمع المدني والدولة. وهي آلية تنظيمية لحماية حقوق ومصالح الأفراد، حيث يسعى كل فرد فيه إلى تحقيق غاياته للوصول إلى الرفاهية، وينجم عن ذلك تكوين مجموعات المصالح المشتركة والمتشابهة من أجل السعي إلى تحقيق هذه المصالح.

بينما تتمثل مظلة الحماية القانونية بالدولة التي يخضع المجتمع المدني الي سلطتها. وإن هنالك علاقة مركبة بين الحكومة والمجتمع وهي علاقة تعارضيه وتكاملية حيث يميل المجتمع المدني إلى التذرر (atomization) - أي تفكك عرى الجماعة الواحدة لدى تفاعلها مع الآخر- في إطار علو المصالح الخاصة، ويؤمن هيجل بالفصل بين المجتمع المدني والسياسة فالأول يمثل الإرادة الخاصة بينما تمثل الحكومة الإرادة العامة .

أما كــــــــــــــــــــــــارل ماركــــــــــــــــــــــــــــــــس "1818- 1883" فلم يفصل بين المجتمع المدني والدولة، وإذ ينطلق ماركس من منهج المادية الجدلية التي استندت على المنهج الجدلي الذي أرسى دعائمه هيغل وطوره ماركس، فقد حدد ماركس الصراع الطبقي كمحرك رئيس لحركة التاريخ، ويرى أن الحكومة هي نتاج المجتمع عند درجة معينة من تطوره، وأن ما يقع فيه من تناقض وصراع يفرز طبقات ذات مصالح متنافرة مما يستوجب وجود قوة تعالج هذا التنافر وتحافظ على النظام، هذه القوة المنبثقة عن المجتمع هي الحكومة ،إلا أن الحكومة تحولت إلى أداة لتكريس السيطرة السياسية للبرجوازية وتكريس هيمنتها، وأن السلطة السياسية ليست إلا القوة المنظمة لطبقة في قمعها لباقي الطبقات.

ويرى أن الحكومة هي الصيغة الرسمية للمجتمع المدني، وهي ساحة لمواجهة الصراع الطبقي بين البرجوازية والبروليتاريا، فالمجتمع المدني لدى ماركس أداة لتوسيع نطاق مصالح الطبقة السائدة في ظل الرأسمالية، وأن دمج الحكومة مع المجتمع المدني يعمل على إزالة الحواجز الطبقية واضمحلال الحكومة وتحقيق العدل الاجتماعي. وعلى الرغم من أن ماركس يرى الديمقراطية البرلمانية تبدو وكأنها حكم الشعب إلا أنها في واقع الحال تتيح الفرصة للنخب البرجوازية لتمارس استبدادها على بقية الطبقات، مع الاعتراف بأنها الشكل الأكثر تقدما في إطار التطور، وأحد أهم منجزات الثورة البرجوازية .

يستطرد شعبان: وفي نقد ماركس لأفكار هيغل في كتابه "الثامن عشر من برومير- لويس بونابرت" انتقد الحكومة البونابرتية التي تلغي المجتمع المدني وتهيمن عليه، معتبرا إياه ركيزة واقعية للدولة في تمثيله للعلاقات المادية للأفراد في مرحلة محددة من مراحل الإنتاج والصراع الطبقي ونقيض لها في ذات الوقت. فالمجتمع المدني عنده ليست الجماعات الطوعية التي تتوسط بين الفرد والدولة كحل لمعضلة المجتمع الحديث، بل أنه الواقع المتبدل المتميز والمتنوع والذي يؤثر في شكل الحكومة لتتحلل لتذوب في المجتمع .

ذلك ترى النوايشة أن المجتمع المدني في الماركسية هو الأساس الذي تنبثق منه الحكومة إلى الوجود، جراء عملية انقسام المجتمع إلى طبقات . وتتجلى رؤية ماركس في نقده لفكرة الحق عند هيجل إذ يرى أن الديمقراطية هي الأمل الأسمى الذي تستطيع الحكومة أن تجسده، وفي الديمقراطية يعمل المواطنون معا على خلق دستورهم الخاص وتحديد الشروط التي بمقتضاها يعيشون، وفي نفس الوقت يصفون الشروط التي بمقتضاها ترتبط الحكومة بمواطنيها. يبدأ هيجل من الحكومة ويجعل الإنسان خاضعا للدولة، وتبدأ الديمقراطية من الإنسان وتجعل الحكومة تشكيلا للإنسان.
وقد حاول الكثير من الباحثين كل من وجهة نظره وضع المفهوم في إطار محدد، وقد وجدت الدعوة التي أطلقها الكسيس دو توكفيل (1805 – 1959) صدىً واسعاً في مشروعه عن الحياة الترابطية وحاجة الانسان إلى الآخر وتشكل المجموعات بتنوع أهدافها في دعم رأس المال الاجتماعي، بما ينطوي عليه من مفاهيم تشمل التضامن والتعاضد وشبكة العلاقات التي تؤدي إلى التعاون والالتزام تجاه الآخر وتبادل الثقة. ويرى أوجست كونت (1798 – 1857) "أ إ كل المناقشات التي تدور حول النظم غير مجدية حتى يتم تنظيم المجتمع تنظيماً روحيا أو حتى يتقدم هذا التنظيم تقدماً كبيراً" وفي إيمانه بدور المجتمع يفسر ذلك بقوله " إن الوضعية لا تقر حقا آخر غير حق القيام بالواجب ولا تقر واجبا غير واجبات الكل تجاه الكل، وأن كل حق فردي هو عبثي بقدر ما هو غير أخلاقي. ويرى كونت أن وظيفة الحكومة تقوم على مبدأ التضامن في المجتمع والحرص على وحدته "

لقد أسست هذه الفترة لعهد جديد في بلورة مفهوم المجتمع المدني، إلا أن اختلاف الرؤى حول شكل الحكومة نفسها لا زالت مصدر جدل ما بين الحكومة الديمقراطية الليبرالية في الفكر الغربي، والرؤى الفلسفية لدى الليبراليين الجدد، والديمقراطية المركزية ومراحل تطورها وارتباطها بالصراع الطبقي لدى الماركسيين. ثم رؤيتهم لدور الحكومة وأهمية اضطلاعها بكافة أشكال الرعاية، وتملكها لكافة وسائل الإنتاج إلى أن تصل مرحلة التلاشي لصالح المجتمع، هذه الاختلافات قد أثرت بلا شك في التوافق حول تحديد ماهية ومفهوم المجتمع المدني.

هذا وبمقاربة أولية بين نشأة مفهوم المجتمع المدني والطرح الماركسي فإن الرؤية الماركسية هي الأقرب لنبض المرحلة الأولى بما تحمله من إعلاء لدور المجتمع المدني. لكنه في ذات الوقت يثير الشك حول مدى قدرة هذه الرؤية في التحقق، ومدى قدرة آلياتها على إتاحة الفرصة للجميع على قدم المساواة دون أن يتخلف أحد في التنظيم والوصول إلى الموارد، خصوصا بعد أن أثبت الركون للمركزية والشمولية في التجربة السوفيتية وتجارب دول أوروبا الشرقية صعوبة تحقيقها. كما أن انهيار المنظومة بكاملها لصالح الديمقراطية الليبرالية واقتصاد السوق وتراجع القدرة على التنبؤ بإمكانية زوال الدولة، وعدم وضوح الرؤية حول دور المجتمع المدني حينها يجعل البناء على الواقع متفوقا في المقاربة على أي رؤى فلسفية أي كان مصدرها.

المرحلة الثالثة: تبلور الفكرة
شهدت المرحلة الثالثة من نهاية منتصف القرن العشرين إلى الألفية الثانية تطورات عديدة وأكثر إرباكا، ففي سياق احتدام الصراع من أجل إعادة بناء الاستراتيجية الثورية في أوروبا. طرح المفكر الإيطالي أنطونيو غرامشي (1891 - 1937) موضوع المجتمع المدني في إطار نظرية السيطرة والهيمنة الطبقية سواء كان ذلك في كتابه الأمير الحديث أو دفاتر السجن، وذكر أن هناك مجالين رئيسيين يضمنان استقرار سيطرة الرأسمالية ونظامها. المجال الأول هو مجال الدولة وما تملكه من أجهزة لتحقيق السيطرة المباشرة، وهو السياسية، والمجال الثاني هو مجال المجتمع المدني وما يمثله من أحزاب ونقابات وجمعيات ووسائل إعلام ومدارس ومساجد أو كنائس إلخ. وفيه تتحقق وظيفة ثانية لا بد منها لبقاء نظام الهيمنة الإيديولوجية والثقافية. ولذلك لا يكفي للوصول إلى السلطة في نظر غرامشي والاحتفاظ بها السيطرة على جهاز الدولة وحدها.، لكن لا بد من تحقيق الهيمنة على المجتمع.

هذا وعلى الرغم من أن كل من غرامشي وماركس يرون أن المجتمع المدني يمثل اللحظة النشطة والإيجابية في التاريخ التنموي وهي نمط علاقات اجتماعية لدى ماركس بينما تقع في البنية الفوقية لدى غرامشي، ففي منظور غرامشي المجتمع المدني هو المجال الذي تتجلى فيه وظيفة الهيمنة الاجتماعية مقابل المجتمع السياسي أو الحكومة الذي تتجلى فيها وتتحقق وظيفة السيطرة أو القيادة السياسية المباشرة. والمجتمع المدني حسب تعريف غرامشي يقع في البنية الفوقية، بين البنية الاقتصادية والدولة بتشريعاتها وقمعها. من هذا المنطلق فإن غرامشي يرى: أن لا فرق بين الدولة والمجتمع المدني إلا في النهج ، إن مفهوم غرامشي للدولة والعلاقة مع المجتمع ينطلق من رؤيته لأهمية مركزية الحكومة واضطلاعها بتقديم كافة الخدمات للمجتمع قي تصور واضح للدولة المركزية التي حسب تصوره ستغدو إلى زوال. يقول ناصر الشيخ إن مفهوم الحكومة عند غرامشي يتضمن "معنى أوسع وأكثر عضوية، ويضم عناصر تعود لفكرة المجتمع المدني. بمعنى أن تعريف الحكومة يعني أن الحكومة تساوي المجتمع السياسي مضافا إليه المجتمع المدني .

وعلى خلاف طرح غرامشي طور كل من جون ديوي “John Dewey” وحنه ارندت Hannah Arendt“ نظرية المجال العام أي التجربة التشاركية للحياة الاجتماعية والسياسية وهو مكون جوهري للديمقراطية. هذا المفهوم في رأي ادواردز أصبح أكثر وضوحا في اطروحة يورغن هابرماس الذي جمع بين التقليد الماركسي الذي يكشف عن الهيمنة في المجتمع المدني والتقليد الليبرالي الذي يؤكد على دوره في حماية الاستقلال الفردي، فيما أسماه بالفعل التواصلي، والمجال العام الاستطرادي الذي يمكن المواطنين من التحدث عن اهتمامات عامة في ظروف من الحرية والمساواة والتفاعل اللاعنيف وسيتم التعرض لاحقا إلى تعريف هابرماس للمجتمع المدني.

يقول مايكل والترز "إن التركيبة المفضلة للحياة الطيبة هي المجتمع السياسي والدولة الديمقراطية التي يمكن ان نصبح داخلها مواطنين مشغولين بأمورنا بكامل حريتنا وغاية في الالتزام وأعضاء صانعي قرار في المجتمع والمواطن، طبقا لهذه النظرية هو أفضل شيء يمكن أن نكونه، ومعنى أن نعيش جيدا أن نكون نشطين سياسيا ونعمل مع أخوتنا المواطنين العمل نفسه الذي يمكن أن نعبر من خلاله عن أقصى طاقاتنا كوكلاء أخلاقيين راشدين وحيث نعرف أفضل ما في أنفسنا كأشخاص يقترحون ويناقشون ويقررون

لقد تميزت هذه المرحلة بتبلور فكرة المجتمع المدني وانفصالها عن الحكومة أو ما سمي بالمجتمع السياسي تماما، إذ أصبحت الحكومة كينونة قائمة بذاتها علاقتها مع المجتمع محكومة بنوعية الحكم ومدى اقترابه أو ابتعاده عن الشعب أي الدمقرطة، ومساحة الحقوق والحريات الممنوحة للشعب بشكل عام، وفي الحالات المتعددة الأخرى التي تشمل انتظامه في جماعات أو مجموعات بتعدد أشكالها.

ما هو حري بالذكر هو أن كل ذلك يتشكل بتزامن مع نجاح التيارات الداعية للتخلي عن الحكومة الرعوية، ومن ثم تقليص دور الحكومة في توفير الخدمات بما فيها تلك المرتبطة بالاحتياجات الأساسية في الصحة والتعليم والحماية الاجتماعية والمأوى وغيرها من خدمات فرضت السياسات الاقتصادية وسياسات إعادة الهيكلة لصالح اضطلاع القطاع الخاص بالدور التنموي في تقليصها








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ما حدود تغير موقف الدول المانحة بعد تقرير حول الأونروا ؟ •


.. نتنياهو: أحكام المحكمة الجنائية الدولية لن تؤثر على تصرفات إ




.. الأمين العام للأمم المتحدة للعربية: عملية رفح سيكون لها تداع


.. الأمين العام للأمم المتحدة للعربية: أميركا عليها أن تقول لإس




.. الشارع الدبلوماسي | مقابلة خاصة مع الأمين العام للأمم المتحد