الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


فريديريك نيتشه ينظر إلى الجسد كسيد على الروح

أحمد رباص
كاتب

(Ahmed Rabass)

2022 / 1 / 13
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


بالنسبة للتقليد الفلسفي، سواء عند أفلاطون أو في الفكر المسيحي، تشكل الروح والجسد جزأين متميزين في الإنسان. أكثر من ذلك، يمنح هذا التقليد الفلسفي الروح تفوقا على الجسد. يتعارض فكر نيتشه مع هذه التراتبية التقليدية بين الجسد والروح. يأتي الجانب الابداعي والخاص للفكر النيتشوي قبل كل شيء من وضعه للهذا التقسيم بين الجسد والروح موضع سؤال ونقاش.
إذا كنا في الغالب تتمثل فكر نيتشه كإعادة تقييم بسيطة للجسد في علاقته بالروح، فإن فكره يعيد النظر تماما في مفهوم الجسد لأنه يسائل الفصل الكلاسيكي بين الروح والجسد.
يقوم فكر نيتشه عن الجسد على تعارض تام مع التقليد الفلسفي القديم والمسيحي: تتعارض نصوصه مع أفلاطون (الفكر القديم)، مع المسيح (الفكر الكاثوليكي) كما تتعارض مع سخافة "الحشود" وجهلها.
"بقدر ما يذهب أحدنا بعيدا في معرفة ذاته، فلا شيء مع ذلك يمكن أن يكون أكثر نقصا من صورته عن مجموع الغرائز التي يتشكل منها كيانه. بالكاد يمكنه تسمية تلك الأكثر وقاحة بالاسم"، يقول نيتشه في كتابه "الفجر"،
[Aurore, II, §119 (in OPC, IV, trad. J. Hervier, Paris, Gallimard, 1980].
يتكون الإنسان فقط من الغرائز (سوف نقف عند تعريفها لاحقا). يؤكد نيتشه أن الحشود والفلاسفة يتجاهلون الغرائز - الأخيرون (الأفلاطونيون والمسيحيون) لم يحاولوا أبدا التعرف عليها. هذا الجهل هو سبب استمرار الأحكام القبلية الخاطئة، بل الضارة، ذلك الاستمرار الذي فرض تفوق الروح على الجسد.
في التقليد الفلسفي، تمثل الروح الثبات والجسد التحول. القدماء، مثل القديس أوغسطين، التقليد المسيحي والحشود يفرضون الثبات كمعيار للقيمة من أجل ترتيب الأشياء: كلما كان الشيء ثابتا وغير متحرك، زاد تقديره. ولهذا السبب تتفوق الروح على الجسد في التقليد الفلسفي. أكثر من ذلك، بما أن الروح أكثر موثوقية من الجسد، لأنها ثابتة، بينما الجسد متحرك، فإن الاستنتاج الذي استخلصته الحشود وهؤلاء الفلاسفة من هذه الفكرة هو أن الروح أكثر واقعية من الجسد، ما يبرر مرة أخرى تفوقها على الجسد.
انكر نيتشه تماما هذا الادعاء بأن الروح أسمى من الجسد. فمن ناحية، تخلى عن معيار الثبات كمعيار للقيمة، وأعاد القيمة للتحول والحركة بدلاً منه.
من ناحية أخرى، نفى أيضا هذه التراتبية بين الروح والجسد من خلال التأكيد على أن الفكرة التي تبررها، أي كون الروح أكثر واقعية من الجسد، هي بالنسبة له حكم مسبق خاطئ وضار. على العكس تماما، وفقا لنيتشه، الجسد أكثر واقعية من الروح. الجسد ليس مسؤولاً عن سوء تأويل الواقع: إذا أخطأنا في الحكم على الواقع، يوجه اللوم للروح. عندما تؤول الروح الواقعي، أي عندما تقحم فيه ثباتا، انتظاما، تخون الواقعي، لأنها تضيف عناصر لا يمتلكها الواقع.
تقتضي ماهية الواقع بالتحديد خلوه من الثبات والانتظام؛ لأن الواقع هو التحول وعدم الانتظام. ترغب الروح، من جهتها، في إقحام الثبات، من خلال، مثلا، تحديد القوانين التي تحكم الواقعي والانتظام. إنها تبدع المفاهيم، من خلال، مثلا، إنشاء مقولات لتفكيك الواقعي من أجل تحليله وتفسيره . إن غرائز معينة تفسر ماهية الروح، وبالتالي فهي مسؤولة عن هذا التشويه للواقعي. إن غريزة الأمن على وجه الخصوص هي التي تدفعنا إلى عقلنة الواقعي ما دام ذلك يسمح لنا بالتحكم في الواقعي، وبأن يصبح الإنسان "سيد الطبيعة ومالكها" (ديكارت).
باختصار، الروح بالماهية تعقلن الواقعي لتضفي عليه ثباتا، انتظاما حتى تزيح عنه كل الغموض الذي يلفه. وهكذا، من حيث ماهيتها، التي تحملها على إقحام الثبات في حيز لا يوجد فيه، تخدعنا الروح (والغرائز التي توجهها) في شأن الواقعي.
قول نيتشه: "الحواس لا تكذب إطلاقا. هذا ما نفعل بشهادتها التي تقحم فيها الكذب، كذبة الوحدة، كذبة الموضوعية، الجوهر، الديمومة… إنما "العقل" هو سبب تزوير شهادة الحواس. طالما أن الحواس تدل على الصيرورة، على اللاثبات، على التغير، فهي لا تكذب… " (أفول الأصنام)،
[Crépuscule des idoles, “La “raison” dans la philosophie”, §2 (in OPC, VIII, trad.J-C. Hémery, Paris,
Gallimard, 1974]
إن حواسنا، التي تسمح لنا بأن تكون لنا مقاربة أولى للواقع، تخونها أرواحنا: "إن"العقل"هو سبب تزوير شهادة الحواس".
هكذا يكون الحكم المسبق، الذي يصف الروح بأنها أكثر واقعية من الجسد لثباتها وطبيعتها الأبدية، باطلا. الجسد واقعي بخلاف الروح، لأنه من خلال التعرض للتحول وعدم الانتظام يكون أقرب إلى الواقع، الذي هو نفسه عرضة للتحول وعدم الانتظام.
الوجود هو الجسد والروح مجرد جزء من الجسد. لتفسير هذه القضية التي طرحها نيتشه، يعاد ما قيل للتو من أن نيتشه يشكك بشكل أساسي في الافتراض القائل بأن الروح أسمى من الجسد. بالفعل، من خلال الاعتماد في الغالب على الحكم المسبق القاضي بأن الروح أكثر واقعية من الجسد، نقيم بعد ذلك تراتبية بين هذين الجزأين من الوجود. بدافع الجهل، أعلنت الحشود والفلاسفة الأفلاطونيون والمسيحيون على حد سواء، تفوق الروح على الجسد. نيتشه لا يكتفي فقط بانتقاد هذا التراتبية بين الروح والجسد، بل يذهب أبعد من ذلك، ويتساءل عن هذه الثنائية في الوجود المشكلة من الروح والجسد.
بالنسبة لنيتشه، الروح ليست سوى جزء من الجسد باختصار شديد، الوجود ليس سوى جسد. يؤكد زرادشت، الشاعر والنبي والشخصية الرمزية في كتاب نيتشه، هكذا تكلم زرادشت، على انتماء الروح إلى الجسد في هذا المقتطف:
"أنا الجسد كامل بالكل، ولا شيء غيري، والروح ليست سوى كلمة لتعين شيئا ما في الجسد."
[Ainsi parlait Zarathoustra, “Des contempteurs du corps” (in OPC, VI, trad. M. de Gandillac, Paris, Gallimard, 1971]
لماذا لا يتكون الوجود سوى من الجسد وحده؟ كيف نفسر كون كل هذه الأشياء مثل "العقل"، الوعي، الروح، الفكر ، الذكاء،.. إلخ، والتي عادة ما تصنف ضمن فئة "الروح" تنتمي بالتالي إلى الجسد؟ الجواب الذي يعطينا إياه نيتشه هو التالي: بما أن الإنسان يتكون فقط من الغرائز والإرادات - اللاواعية في الأغلب الأعم - فكل هذه الظواهر التي نسميها "العقل، الروح، الوعي، إلخ.." هي فقط مظاهر من الجسد.
الجسد، باعتباره مجرد رغبة، دوافع، غرائز، إرادات غير واعية، يقود ويوجه كل أفكارنا التي ليست سوى نتاج دوافع عضوية. لا توجد روح مستقلة عن الجسد؛ لأن أفكارنا كلها ليست سوى نتاج غرائزنا، سوى خدم غرائزنا.
والحال أن كياننا يتكون فقط من الغرائز، وإذا لم تكن هناك روح، أو عقول، إلخ..، فلا وجود سوى للجسد. الجسد غريزة، الغرائز توجه، سواء كانت واعية أم لا، فكرنا، أفكارنا، التحليل الذي نقوم به للواقع. (اخترنا مثال عقلنة العالم: لقد كانت غريزة الأمن هي التي حفزت هذا السلوك، هكذا يكون الجسد هو ما قرر عقلنة العالم.) لذلك، يتابع زرادشت:
"وراء أفكارك ومشاعرك ، يا أخي ، يقف سيد جبار، دليل طريق مجهول - يسمي نفسه. يعيش في جسدك، هو جسدك". (نفس المصدر).
يجب أن يكون الجسم هو الموضوع الوحيد الذي ينبغي الاهتمام به لدراسته فلسفيا. ذلك أنه حتى مع الاحتفاظ بهذه الثنائية بين الجسد والروح، فإن الجسد أكثر واقعية من الروح. وأكثر من ذلك، هذه الثنائية سخيفة لأن كل شيء هو جسد والروح ليست سوى جزء من الجسد.
وهكذا، بالنسبة لنيتشه، فإن ما يجب دراسته، وما يجب أن يكون أولا موضوع تفلسف، هو الجسد. ليست الروح هي التي يجب دراستها في المقام الأول، وليس الفكر هو الذي يجب دراسته. من الضروري دراسة سبب أسباب هذه الظاهرة، التي هي في هذه الحالة الغرائز.
ليس الفكر سوى نتيجة للغرائز، للدوافع التي تنبعث من الجسد. لهذا السبب يجب على الفيلسوف أن يدرس اولا الجسد وليس الروح.
داب التقليد الفلسفي، من سقراط إلى الحشود مرورا بالمفكرين المسيحيين، على الاستخفاف بالجسد لصالح الروح. لتبرير هذا التفضيل، يعتمدون
من ناحية، على معيار الثبات لتأسيس مثل هذا التراتبية. فبما أن الروح ثابتة والجسد متحرك، تتفوق الروح على الجسد.
من ناحية أخرى، بما أن الروح دائمة - وهذا ليس هو حال الجسد، فهي أكثر موثوقية وبالتالي فهي أكثر واقعية من الجسد. يعارض نيتشه بشكل جذري فكرة أن الروح أسمى من الجسد.
من جهة، يأخذ كمعيار تحول الأشياء وقابليتها للتغير لإقامة تراتبية بديلة (وبالتالي لقلب تلك التراتبية التقليدية)، ومن جهة أخرى، يعتبر فكرة "موثوقية الروح" لإثبات أنها أكثر واقعية من الجسد فكرة خاطئة.
بالنسبة لنيتشه، ما دام أن ماهية الواقع تقتضي أن يكون متحركا ومتغيرا، تماما مثل الجسد، ترغب الروح من جانبها، من حيث الماهية، في إقحام السكون والثبات في الروح، وبالتالي يكون الجسد أكثر واقعية من الروح.
يذهب نيتشه إلى أبعد من ذلك، إذ يعارض الثنائية الكلاسيكية المقامة بين الروح والجسد. ليس الوجود إلا جسدا، طالما ان الوجود ليس سوى غريزة. فالروح ليست سوى جزء من الجسد. فكرنا كله، أفكارنا بأسرها، إلخ..، (ما ننسبه تقليديا إلى الروح) هي في الواقع موجهة فقط من قبل الغرائز. فالروح ليست سوى جزء من الجسد: إنها خادمة للجسد ومطيعة لغرائزه.
انطلاقا من هاتين الحجتين، تفوق الجسد على الروح والروح كجزء لا يتجزأ من الجسد، أوضح نيتشه أن الهدف الأول للفلسفة يجب أن يكون الجسد وليس الروح. يجب ألا ندرس الفكر، لأنه نتيجة للغرائز فقط: لذلك يجب علينا دراسة الغرائز، أي الجسد، الذي هو سبب الفكر.
قبل ختم هذه الحلقة، يجدر بي الوفاء بما وعدت به القراء الكرام من إعطاء تعريف للغرائز. سوف أكتفي هنا بتقديم أول تعريف غامض نوعا ما للغرائز عند نيتشه، لكن بشكل عام ستفهمون تدريجيا من خلال هذه السلسلة من المقالات المخصصة لنيتشه ما هي الغرائز.
إذا أردنا إعطاء تعريف تركيبي للغرائز، يمكننا القول إنها تشكل عمليات، أشياء متحركة، تسمح بتنامي قوتها؛ فكل الأشياء الواقعية (سواء كانت بشرا، حجرا، اوراقا، إلخ..)، تتكون من الغرائز وتريد زيادة قوتها.
(يتبع)








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ألعاب باريس 2024: اليونان تسلم الشعلة الأولمبية للمنظمين الف


.. جهود مصرية للتوصل لاتفاق بشأن الهدنة في غزة | #غرفة_الأخبار




.. نتنياهو غاضب.. ثورة ضد إسرائيل تجتاح الجامعات الاميركية | #ا


.. إسرائيل تجهّز قواتها لاجتياح لبنان.. هل حصلت على ضوء أخضر أم




.. مسيرات روسيا تحرق الدبابات الأميركية في أوكرانيا.. وبوتين يس