الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


متى يُهزم الإنسان؟

داود السلمان

2022 / 1 / 17
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


الإنسان هو المخلوق الوحيد من بين ملايين المخلوقات الأخرى، الذي يفكر ويمتاز بالناطقية، أي الذي ينطق ويعبّر عن مشاعره وأحاسيسه من خلال كلام وحركات مفهومة يقوم بها بينه وبين إنسان آخر؛ وهذه الميزة أو الخاصية جعلت من الإنسان أن تسيّد على هذه المخلوقات، بل وأن يتغلب على اعتى الحيوانات قاطبة بواسطة ذكاءه، وحيله التي يستخدمها في التعامل مع هذه الحيوانات، وليس هذه فحسب، بل أنه استطاع، كذلك، أن يروّض أشرس الحيوانات المفترسة، ويجعلها تطيع أوامره فينفذها (كأصحاب السّيرك الذين يعطون الأوامر للأسود وللنمور بأن تقوم تلك الحيوانات بحركات خاصة، فتفعل) ما يدلّ على ذكاء الإنسان وعبقريته، وكذلك يدلُّ على شجاعته، وأنه لا يُهزم أمام أعظم المخاطر.
يقول أحد الأدباء: "إنَّ الانسان لم يُخلق للهزيمة.. قد يُدمر الانسان لكنه لا يُهزم". فممكن أن يُدمر الإنسان من قبل قوة أعظم منه كالبراكين والفيضانات والمعارك الشرسة وتحديات الطبيعة، لكنه في داخله لا يشعر بالانهزام، فيبقى متشبثًا بالحياة، متحديًا تلك المخاطر والصعاب، فيقف شامخًا منتصب القامة لا يخشى تلك المخاطر والتحديات التي تواجهه.
نعم، الإنسان مخلوق صعب المراس، قويّ الشكيمة، يسعى دائمًا الى تطوير ذاته وقابلياته الجسيمة، والى شق طريقه والنفاذ الى الأعال والتقدم، والى اكتشاف ما يصب في مصلحته، ويجعله في مأمن من المخاطر التي تحيق به من كل صوب. فالإنسان قبل آلاف السنين هو ليس إنسان اليوم، فقد كان يسكن المغارات والكهوف كبقية الحيوانات، ثم رويدًا رويدًا اكتشف النار وراح يطهي بها طعامه بعد أن كان يأكل طعامه كما تأكل بقية الحيوانات الأخرى، وأخذ يعالج بعض الأمراض بالأعشاب والادوية المتاحة لديه آنذاك، وطفق يبني الأبنية البسيطة التي يحتمي بها من الحرّ ومن القرّ، وهكذا أخذ بالتقدم نحو الأحسن باكتشافه الأشياء التي يساعده على البقاء محافظاً على حياته، متحديًا جميع الصعاب التي تواجهه، وكلّ ذلك عبارة عن تحديه وعدم ومخاوفه في مواجهة الأخطار المحدقة به.
وأحياناً يتعرّض الإنسان إلى هزائم نفسية وأخرى ماديّة وثالثة عاطفيّة، ويصاحب كلّ ذلك هزات داخلية قد تؤثر على حالته النفسية، وتجعله فيما بعد كقشة تتقاذفها الرياح، لا تستقر على حال، لأن الإنسان هو عبارة عن دم ولحم ومشاعر، ويتأثر في أقل صدمة يتعرض لها (أفراح أو أتراح) في عمله أو داخل أسرته أو حتى في محيطه الذي يعيش فيه، خصوصًا إذا سمع بخبر غير سار أو تعرض إلى فقد عزيز أو سُرقت أمواله أو شيء من هذا القبيل، هذا بصرف النظر عن مكانة الإنسان الاجتماعية أو السياسية أو غير ذلك، فحتى السياسي المرموق المعروف على مستوى رفيع، كأن يكون رئيس دولة مثلا أو كان ملكا وانهارت مملكته بين ليلة وضحاها، ستجد هذا الملك سينهار وربمّا يكون أشد من سواه، فيصبح ضعيفا ضعف الحمل في ملاقاة الأسد في الغابة.
فإذن، الإنسان يتعرّض الى الهزيمة كغيره من المخلوقات الأخرى التي تتعرّض إلى هزائم عندما تلاقي قوة أشد من القوة التي تحملها بين جنبيها، ولا يهمنا الإنسان الذي يأخذه الغرور، فيطغي ويظلم ويحمل على الناس بالجور والظلم والاعتداء، فهو إذا ما تعرّض الى هزة عيفة سيفقد أعصابه ولم يسيطر على نفسه، ويكون في هذه الحال أضعف مخلوق.
والنتيجة، الإنسان يحمل صفتان، هما: صفة القوة وصفة الضعف في آن واحد.
الإنسان خُلق ضعيفا كجسد، والمشاعر التي يحملها في داخله قد تنهار في أبسط موقف يتراءى له؛ لكنه كفكر، وروح وثابة لا يشق له غبارًا. وهناك هزائم كثيرة تعرّض لها طغاة وقتلة وسفاحون، ومنهم أودلف هتلر الذي هُزم هزيمة شنيعة. إذ يروي لنا التاريخ أنه في يوم السادس من نيسان - أبريل 1945. وكان الجيش الأحمر جاهز للانقضاض على برلين وتواجهه بعض وحدات الجيش الألماني وقوات الـSS التي تريد الدفاع عن العاصمة. أعلن وزير الدعاية النازي غوبلز في الحادي والعشرين من نيسان - أبريل أن برلين أصبحت مدينة الجبهة وأضاف: "ألحقت قواتنا المسلحة الباسلة ورجال الهجوم الشعبي خسائر فادحة بالقوات السوفييتية في الأيام الأخيرة في معارك دفاعية شجاعة. على الرغم من تضحياتهم اللامحدودة لم يستطيعوا منع الجيش السوفييتي من التقدم إلى خطوط الدفاع الأولى للعاصمة ولذا أصبحت برلين مدينة مواجهة.
وصلت في اليوم ذاته قوات الجيش الأحمر بقيادة المارشال زوكوف إلى محيط برلين وفي هذه الأثناء اقترب الجيش الأمريكي من العاصمة الألمانية من جهة الغرب والجيش الأحمر يتغلل بقوة في قلب الأراضي الألمانية من الشرق. وأعلنت إذاعة بي بي سي في الخامس والعشرين من نيسان/ أبريل أن القوات الأمريكية والجيش الأحمر قد التقيا بالقرب من المدينة الألمانية تورغاو على نهر إلبه. ودون أخذ هذا الحدث بعين الاعتبار حصلت معارك دامية في شوارع برلين بين القوات الألمانية والجيش الأحمر الروسي. وأعلن راديو ألمانيا: "لاتزال برلين تناضل وهي على ثقة بالقائد الفوهرر".
وصلت إلى هتلر معلومات على أن الجيش الأحمر يباشر هجومه على مستشارية الرايخ. بعدها كتب وصيته السياسية وعين الأدميرال دونيتس خليفة له. أما جوزيف غوبلز وزوجته اللذان بقيا طيلة الوقت في "مخبأ القائد"، فقد سمما نفسيهما وكذلك أطفالهما الستة.
لم يرد هتلر الوقوع في أيدي الروس لا ميتاً ولا حياً، ولذا أطلق النار على نفسه في الثلاثين من نيسان/ أبريل بينما سممت زوجته إيفا براون نفسها وتم حرق الجثتين بناء على وصية من هتلر، لكن الإذاعة أعلنت في اليوم التالي أن القائد أدولف هتلر لقي حتفه في مكتب مستشارية الرايخ وهو يكافح من أجل ألمانيا وضد الشيوعية. أما المعارك الميدانية فقد استمرت في برلين تحت قيادة جنرالات متشددين مما أدى إلى مقتل مدنيين أكثر من القصف الجوي خلال السنوات الماضية، واستسلمت القوات الألمانية في برلين في الثاني من أيار/ مايو، لكن خليفة هتلر دونيتس فأمر بمواصلة القتال لأنه أراد تجنب الاستسلام الكامل غير المشروط على ضوء أمله بعودة الجنود الألمان من غرب ألمانيا التي أصبحت في أيدي الحلفاء.
وهكذا ينهزم هتلر وينتهي كسياسي وقائد عسكري، ألّا أنّ التاريخ ظل يذكره على أن إنسان دمويّ.. أمّا الخسائر التي منيت بها البشرية خلال تلك الحرب الكارثية، فهي وصمة عار في جبين المتسببين في تلك الحرب.
وانمّا هنا نذكر هتلر كنموذج لهزيمة الإنسان القائد السياسي.. لكن ثمة أُناس لا تُعد هزيمتهم هزيمة، كالفلاسفة حين يتعرضون إلى هزات عنيفة، وعلى سبيل المثال سقراط اليوناني، وبرونو الفيلسوف الايطالي، فالأول أجبروه على تجرّع السمّ، بدعوى أنه كان يفسد الشباب ويحرضهم على افعال ثورية ضد الدولة، باعتبارها دولة غير عادلة ولا تحترم الإنسان، بل ولا تهتم بشؤون الإنسان، وتسلب حقوقه عيانًا، فانتهت تلك الدولة واصبحت من الماضي البعيد، بيمنا ظلّ سقراط حيًا في قلوب كلّ من أحبه وتأثر في فلسفته وحكمته الى يومنا هذا، ويذكره التاريخ بكل أجلال واحترام.
وامّا الثاني، أعني برونو والذي كان راهبا في البداية ولكنه انتقل من الدراسات اللاهوتية إلى الفلسفة فيما بعد. اعتنق نظرية كوبرنيكوس عن دوران الأرض على الرغم من أنها كانت محرّمة من قبل رجال الدين آنذاك، وذهب إلى أبعد منها حين ذاك بوضعه فرضية أن النظام الشمسى هو واحد من مجموعة نظم تغطى الكون في صورة نجوم وألوهية ولانهائية الكون. كما افترضت نظريته إنّ كلّ من النظم النجمية الأخرى تشتمل على كواكب ومخلوقات عاقلة أخرى، ولذلك تم نفيه ولكنه قام بالعودة بعد وفاة البابا سيكاستاس الخامس، وبدأ في تنظيم المحاضرات فلاحقوه وقبضوا عليه ثم سجنوه لمدة ثماني سنوات. وبعدئذ قطعوا لسانه وأحرقوه بتهمة الهرطقة والقول بأنّ آراءه مخالفة للكتاب المقدّس.
فهزيمة برونو لا تُعدّ هزيمة، قياسًا إلى هزيمة هتلر، فهتلر كان رجل سياسة وقائد عسكري مهمته الحروب لكسب الانتصار وتحقيق الأهداف، إلّا أنّ برونو صاحب فكر وعلم وفلسفة، وهدفه تحقيق السعادة للبشريّة بعمل نتاجه الفكر والعقلي، وأمّا هتلر فدمرّ الإنسان، بينما وبرونو بني الإنسان، والفرق متباين بين الأثنين.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. سرّ الأحذية البرونزية على قناة مالمو المائية | #مراسلو_سكاي


.. أزمة أوكرانيا.. صاروخ أتاكمس | #التاسعة




.. مراسل الجزيرة يرصد التطورات الميدانية في قطاع غزة


.. الجيش الإسرائيلي يكثف هجماته على مخيمات وسط غزة ويستهدف مبنى




.. اعتداء عنيف من الشرطة الأمريكية على طالب متضامن مع غزة بجامع