الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


اللغة العراقية ومفهوم الدلالات ح5

عباس علي العلي
باحث في علم الأديان ومفكر يساري علماني

(Abbas Ali Al Ali)

2022 / 1 / 19
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


التفسيرات الاجتماعية لنشوء اللغة
إذا اتفقنا على أن الإنسان هو من صنع اللغة وجعلها من مفردات الهوية الذاتية له السؤال هنا عن طبيعة الصنع والأليات ويكون تساؤلنا كيف صنعها؟ وكيف وجد اللغة ضرورية وطبيعية وحتم لا فرار منه؟ كيف تحدثها أول مرة بينه وبين الأخر وكيف تباينت بعدها الألسن واللهجات وتنوعت وحتى في قواعدها ومنطقها وفقهها؟ وهل نحن نتحدث أولا فنفكر بصوت مسموع؟ أم نفكر أولا بصمت فنتحدث بصوت مفهوم.. إذا أيهما أسبق اللغة كفعل حتمي أم الفكر كنتيجة طبيعية؟! وكيف تؤثر اللغة على الفكرة وبالعكس؟ سلسلة طويلة ومتصلة من التساؤلات والإشكاليات التي لا يمكن أن نجد مساحة لها إلا في مجتمع متعدد الأفراد ومتعدد الحاجات، أما المجتمع البسيط الذي لا تشغله غير قضية البقاء حيا فقط دون أن يفكر أو يتفكر، فالقضية قد لا تهمه طالما أن عوامل البقاء تساعده على الركون والثبات على المتوفر فقط.
اللغة عندما ينظر لها أنها هوية أجتماعية وفكرية وشخصية لا بد لنا أن نفسرها وفقا لما تصنف تحت عنوانها، فلولا وجود مجتمع لم تظهر العلاقات الأجتماعية الرابطة، ولم تظهر الحاجة للتواصل الأجتماعي بين الأفراد، فهي إذا أداة وحاجة وضرورة تحضر وتختفي بعلة السبب الذي كانت لأجله، فالأفراد الذين يعيشون منعزلين وهذا نادرا ما يحصل قد لا تتولد الحاجة لديهم لطريقة التواصل، خاصة إذا كان الانعزال منذ البداية وقبل إدراك وفهم اللغة، كما أن الأفراد الذين يعبشون في مع مجموعة حياتية لا ينتمون لها لا يمكنهم أن يحدوا لغة نطقية أو صوتية خارج مقتضيات الحاجة، في سلسلة أفلام كارتون "موكلي" الذي يعيش مع الحيوانات في الغابة كان لا يعرف اللغة التي يتعامل بها مع الإنسان، إنما كان يتعامل بلغة إيمائية تتناسب مع وجوده الحيواني، هذا المثال يظهر قيمة المجتمع وروابطه في تكوين ونشأة اللغة.
الملاحظة المهمة التي تستوجب الذكر قبل الدخول في محور التفسير الاجتماعي للغة هي أن أختلاف تركيبة وتنوع العلاقات الأجتماعية وأختلاف الروابط والأسباب التي تؤدي إلى الأجتماع والتجمع الإنساني، لع دور مهم وحيوي في طريقة ولادة اللغة شكلا ومضمونا تبعا لأهتمامات وشكل الروابط البينية، هذا نلاحظه مثلا في تغير نمط الأستعمال اللغوي في مجتمعات الصيد عنه في مجتمعات الفلاحة إذا كنا نتكلم في الأصول الأولى، التعابير الضرورية والملحة هي التي تتوالد في بيئتها الطبيعية هذا طبعا بعد مرحلة تحول اللغة الكونية الأولى، مثلا كلمة يزرع يحصد بيدر محراث سقي لا يمكن أن تكون مهمة في مجتمع الصيد الذي تكثر فيه مفردات فريسة اركض أصاب ناكل وغيرها، فالطبيعية الأجتماعية بهويتها التكونية تعود لتنعكس مرة أخرى على اللغة في عملية تبادل دوار بين الهوية والخصيصة.
علماء الأجتماع وجدوا في اللغة ومنشأها وتطورا ركنا مهما من دراسات وأبحاث نظريات الأجتماع لتلك العلة والسبب السابق، وفسروا اللغة على أنها ظاهرة أجتماعية طبيعية من مقتضيات الوجود الجمعي تأسيسا ونتيجة، وبذلك أسسوا لعلم اللغة الأجتماعي الذي يبحث في العلاقة التأصيلية بين المجتمع واللغة، لكنهم ووفق غالبية الدراسات يؤكدون على مبدأ المشاركة في وضع اللغة على أساس أنها نشاط جمعي وليس نشاطا فرديا في داخل المجتمع، نظرية الاصطلاح أو هكذا تسمى إلى أن اللغة قد نشأت نتيجة التواطؤ بين أفراد المجتمع فيما بينهم على تفاهم مشترك لتكوين مصطلح أو مفهوم أو مفردة محددة، حيث اقترح شخص اسما ما لمسمى، وبدأ هذا المسمى في الشيوع دون أن يرتبط الاسم بالمسمى ارتباطا منطقيا واضحا، قد يكون جزء من هذه النظرية صحيح لكن ليس أبتداء، فالتوافق والتفاهم على أمر محدد يجب أن تسبقه قاعدة تواصل وأشتراك، لكن لا تفسر منشأ اللغة الأولي والذي يهمنا هنا في البحث، إلا إذا كان الأتفاق قد مر بمراحل من الإيمائية للشكلية الصورية ليؤسس لولادة كلمة متفق عليها لاحقا *.
أول من نادى بالنظرية الأجتماعية على المستوى الفكري النظري كان الفيلسوف اليوناني ديمقريطس الذي "اعتبر منشأ اللغة عملية تواطؤية تنبع من الحاجة زائد المزاج الأجتماعي، لأن الموضوع الواحد ذاته كثيرا ما يقبل عدة مسميات، ولأن الشيء الواحد المسمى كثيرا ما يقبل عدة أسماء أو قد يتبدل اسمه ولا يتبدل هو، وتوسعا بهذا المبدأ انتهى ديمقريطس إلى القول بأن الأسماء تعطى للأشياء من لدن الإنسان لا من لدن قوة إلهية"، نافيا بذلك موضوع السبق المبرمج الذي حملته النظرية الدينية كعلامة بارزة في تكوينها العقيدي وتفسيرها لنشوء اللغة، وبالرغم من أن النظرية التواطئية لم تكن في معظم تفاصيلها نظرية ناضجة ومكتملة تعطي تفسيرا حقيقيا لكنها لقيت بعض المؤيدين لها في الوسط البحثي النظري منهم مثلا لعالم فرديناند دي سوسير وهو رائد من رواد الدراسات اللغوية الحديثة.
أتخذت المدرسة الأجتماعية منحى أخر مع دراسات الفيلسوف والباحث الأجتماعي نعوم تشومسكي الذي تميز بنظرية ومصطلحات كان لها السبق والريادة في البحث الأجتماعي واللغوي وقد دار حولها جدل معرفي واسع، فقد حاول تشومسكي تفسير اكتساب المعرفة اللغوية عند الطفل كأساس لفهم منشأ اللغة، وكان التساؤل الرئيس في أبحاثه هل التطور اللغوي هو فطري بالعلة والسبب أم أنه وليد البيئة؟ وقد ذهب إلى فرضية قوامها أن جميع البشر يولدون بقدرة فطرية على اكتساب اللغة وهو ما أسماه بجهاز امتلاك اللغة، وبالرغم من الصدى والجدال الذي أحدثته نظرية نعوم لكنها بنيت على أساس أفتراضي مخالف لقاعدة البحث، فالطفل يولد في مجتمع له لغة وله قواعد ومنظومة كاملة من التواصل، منها يتعلم ومنها يتدرب على النطق وفقا للقوة الطبيعية التي يمتلكها بالفطرة ومن خلال الإحاطة التي تجمعه بمتكلمين على مستوى عالي من الأتفاق في اللغة، هذا الواقع يختلف تماما عن محاولات الإنسان الأولى في أبتكار اللغة شكلا ومضمونا وعلل وأسباب وطبيعة.
يتبنى تشومسكي على مبدا المهارية المكتسبة من منحاها الطبيعي في تصوره باكتساب اللغة على أنه أمر أشبه بتطور الرؤية وتمييز الألوان، فهي عملية حسية أكثر من كونها عقلية تعتمد على أساس طبيعي ومنهج وأسلوب كسبي ينتج منهما ما يعرف بالمهارة الذكية، وقد عرض بياجيه هذا التصور بأن الوصول إلى اللغة مشروط بالذكاء الحسي الحركي الذي يتوفر طبيعيا في فطرة الطفل، فاكتساب اللغة عملية تدريجية ولكنها تحتاج للتكرار والتجريب والتدريب أكثر ما تحتاج للفهم والإدراك العقلي المحض، فالتمكن من اللغة هو -إذن- تعبير عن ذكاء عام يتطور على مراحل وفقا لسعة ومقدار الأكتساب التجريبي والملاحظة الحسية، لا يمكن من هنا بلوغ الفئات التجريدية إذا لم يكن الحسي موجوداً قبل ذلك، ويتكون المنطق الذي يشكل أساس المقدرات التنظيمية للغة على شكل جُمل من البسيط إلى العام، من الحسي إلى التجريدي ثم الأتفاقي المنظم بقواعد عامة.
لم يحسم علماء الأجتماع كما الفلاسفة من قبل الجدل حول منشأ اللغة وكيفية صيرورتها، نظرا لأختلاف زاوية النظر التي من خلالها يطلون على عالم اللغة، الحقيقية أن تعدد الأسباب في نظري بتعدد الأشكال اللغوية ربما نتمكن من خلالها أن نكون رؤية تقريبية أو جمع المشتركات النظرية بين المدارس خاصة وأن معظمها يشير بصورة ما إلى الطبيعة التكوينية الأساسية الموحدة للإنسان، من خلال الفطرة الطبيعية التي تدفعه للتعرف على محاولة في محاولة إدراك وفهم، هنا يمكننا أن نقول ـأضافة إلى أن الإنسان كائن معرفي فهو أيضا كائن يستخدم المعرفة مقدما الإدراك على الفهم، فهو كائن معرفي حسي أولا بمعنى أن بواعثه الأساسية حسية متأثرة قبل أن يدركها عقلا تفسيرا وفهما.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* . تعرضت هذه النظرية لانتقادات لعل أبرزها ما وجهه لها العالم الألماني ماكس مولر الذي رأى أن "اللغة الإنسانية الأولى لم تكن نتيجة تواضع واتفاق خلافا لما ذهب إليه أصحاب النظرية التواطئية؛ إذ لو كان الأمر كذلك -وهو ما تأباه طبيعة النظم الاجتماعية- لوجب أن يكون في أيدي المتواضعين وسيلة للتفاهم فيما بينهم، ولا يمكن أن تكون هذه الوسيلة اللغة الصوتية؛ لأن المفروض أن اللغة الصوتية هي موضوع التواضع".








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. -عفوا أوروبا-.. سيارة الأحلام أصبحت صينية!! • فرانس 24


.. فيديو صادم التقط في شوارع نيويورك.. شاهد تعرض نساء للكم والص




.. رمى المقص من يده وركض خارجًا.. حلاق ينقذ طفلة صغيرة من الدهس


.. انقلاب سيارة وزير الأمن القومي إيتمار #بن_غفير في حادث مروري




.. مولدوفا: عين بوتين علينا بعد أوكرانيا. فهل تفتح روسيا جبهة أ