الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


اللغة العراقية ومفهوم الدلالات ح 12

عباس علي العلي
باحث في علم الأديان ومفكر يساري علماني

(Abbas Ali Al Ali)

2022 / 1 / 24
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


لغة الناجين هي اللغة العراقية القديمة
لم يكن هناك من محيص يمكن أن نستند له عقلا ولا منطقا من أن لغة أهل العراق القديمة وأقصد بها ما قبل التنوع والتشكل التي بدأت مع قصة الطوفان التاريخية والدينية إلا أن نسلم بالحقائق التالية:.
1. لو أتفقنا تأريخيا أن حدوث الطوفان سواء بشكل عام كما تزعم التوراة والمؤرخون الذين سايروا فكرته، أو أن الطوفان حدث في منطقة السهل الرسوبي في العراق أو أكثر من مساحته ليشمل أجزاء أخرى منه، فهذا يعني أن لا أحد نجى من الأقوام التي عاصرت الطوفان، وعليه فالبقية الباقية التي خرجت من الطوفان وهم كما يظهر من الدلائل التاريخية مجموعة أو مجموعات صغيرة من البشر شكلوا المجتمع الجديد، وهذا الأمر يحتم بشكل أساسي أن هذه المجموعة لديها من أسباب التجانس والتماثل من ناحية الواقع الأجتماعي والفكري وأساسا اللغوي ما جعلتها تنظم كمجموعة واحدة.
2. نقلت هذه المجموعة معها كل إرثها الحضاري واللغوي والثقافي والديني معها إلا ما تغير لأسباب خاصة، وبالتالي فهذه المجموعة الناجية تشترك في عدة روابط مع الأقوام والجماعات التي هلكت بالطوفان، فهي الوريث الشرعي لها وتمثل بشكل أساسي طبيعة الحياة قبل الطوفان، فلا يعقل أن تبدأ هذه المجموعة حياتها الأجتماعية من نقطة الصفر لتنشأ نظاما أجتماعيا جديدا مختلف عما سبق.
3. عدم وجود مجموعات أخرى بعد الطوفان ناجية أو هاجرت ثم عادت تؤكد أن الناجين هم وحدهم من أسسوا المجتمع الجديد ولو لفترة زمنية حتى عودة الحياة الطبيعية للمنطقة، هذا يؤكد أن شعب العراق القديم الذي وجد بعد الطوفان ولفترة هم فقط من الناجين، أما الهجرات التي حدثت لاحقا والتي لم يتثبت احد منها بشكل قطعي ومحدد فهي تحمل معها إرث ثقافي مختلف إن لم يكن قريب أو شبيه بإرث الناجين.
4. مع قلة الجماعة الناجية وسعة المساحة التي غمرها الطوفان قد يكون ذلك مبررا لأنتشار الجماعة الناجية في أرجاء المنطقة تبعا للبحث عن المكان الأفضل والشروط المعيشية التي تدفع البعض للهجرة من مكان النجاة، وبذلك شكل هذا الأنتشار الطبيعي أولى ملامح تعدد المجتمعات، وهذا بدوره ساعد على تنوع في التعاطي المعرفي المرتبط بالبيئة وعوامل التفرد، فمثلا مع الأنتشار ظهرت خصائص أجتماعية جديدة، فمن سكن المناطق القريبة على مصادر المياه والتربة الخصبة أهتم بالزراعة والبناء أكثر من اللذين سكنوا على سواحل المستنقعات والأهوار الذين عاشوا على الصيد البري والمائي وتربية الحيوانات، ولكل نمط أقتصادي كما هو معلوم نمط أجتماعي ثقافي مميز، الفلاحون والمزارعون يهتمون أكثر بالأرض ومواسم الري وتنظيمها والأعتناء بكل ما يتعلق بالزراعة من شروط ومستلزمات ومنها المتاجرة بالحاصلات وتبادل السلع المنتجة، وهذا ما يجعل توفير شكل لسلطة ونظام أكثر أنضباطا وصرامة من المجتمع الأخر، كما يفرض نوعا من اللغة المرتبطة بالواقع الأجتماعي تختلف قليلا أو كثيرا من تلك التي تستخدم في حياة الصيد أو الرعي، وهذه القضية يدركها تماما علم الأجتماعي ويعرف تفاصيلها.
5. بناء على ذلك وبمرور الزمن تحولات المفردات الخاصة بكل بيئة إلى ما يشبه اللهجة المحلية، وحتى اليوم نشهد أن لغة الأهوار المحكية كلهجة لها خصائصها المميزة التي تفترق قليلا أو كثيرا عن المجتمع الفلاحي، كذلك تختلف الأولى والثانية عن مجتمع المستوطنات المدنية المتحضرة، هذا التطور هو سر تعدد اللهجات ضمن أطار العائلة اللغوية الواحدة، المؤرخون عندما يدرسون لهجة مجموعة تتميز بمفردات خاصة يسمونها لغة ويطلقون على المجتمع صفة أستقلالية عن المجتمعات القريبة أو ضمن العائلة الديموغرافية الواحدة، ولو تتبعنا مثلا تطور الأكادية بفرعيها عن السومرية القديمة نجد أن الكثير من الأخيرة كمفردات وألفاظ ما زالت تستعمل وحسب الحاجة لها أو حسب التطور المعرفي واللغوي، هذا لا يعني أن السومرية لغة أخرى، ولا السومريين قومية أو شعب أو عرق أخر بقدر ما يمثل الفرق بينهما هو عامل الزمن الذي أحكم وألقى بضلاله على تطور المجتمع العراقي، وفي فصولنا اللاحقة وخاصة في موضوع المفردات كمقارنة بين الأكادية والسومرية، سنلاحظ أن الدارسين يطلقون كلمة "دخيلة" على مفردات الأصل السومري دون أن يفهموا أو متعمدين على جعل السومريين شعب أخر وعرق جنسي مختلف بمعزل عن الزمن الذي لا يعد بالسنين البسيطة بل بالقرون والألفيات.
6. يقول الباحث علي ثويني في موضوع الوحدة العرقية أو تميز السومريين عن الأكاديين بخصائص خاصة وهم أيناء منطقة واحدة وعاشوا في إقليم جغرافي واحد تربطهم الكثير من أواصر الحياة الأجتماعية الطبيعية (أن الأبحاث الأجناسية (الانثروبولوجية) والأثنية الحديثة دحضت كل المزاعم بتقسيمات (آرية وسامية) التوراتية، ورفضت النظرية القائلة بوجود أعراق بشرية نقية ودماء صافية والأهم رفضا قاطعا لفكرة وجود شعوب متفوقة ويقتصر عليها وحدها الإِبداع وبناء الحضارة الإِنسانية)، فالحضارة الإنسانية خاصة التي تنشأ في مكان محدد وعند شعب معين ليس نتاج جنس بشري خالص بل هي فعل أجتماعي متعدد الروافد يلعب الزمن والمعرفة والتطور النوعي في وسائل الأنتاج وشيوع اللغة والتعليم والمعرفة الدور الأساسي في إنشائها، فالحضارة السومرية هي حضارة أبناء الناجين من الطوفان بمختلف تفرعاتهم من الأصل، وتراكم التجارب والخبرات التي أكتسبوها سواء من تجربة الطوفان أو الدروس المستخلصة منها، لكن هذه الحضارة لم تتوقف زمانا كما لا تتوقف مكانا طالما أن هناك تنوع ثقافي بيئي وأجتماعي، كما أن مميزات الحضارة روحها التي تشبه الحياة الفردية عند الإنسان، تبدأ من الطفولة وترتقي للشيخوخة لكنها لا تمون بل تنتقل بمجمل خبراتها ومظاهرها من مجتمع ينمو ويتحرك إلى مجتمع أكثر قدرة على النمو والتحرك من الأول، فهي تحمل إرثها معها وتبدأ دورة جديدة في زمن ومكان وحال وعنوان أخر.
7. قيم الحضارة المعرفية والدينية والثقافية لا يمكن أنتقالها من مكان لمكان لبداية دورة حضارية جديدة، ما لم تترافق بلغة حاملة وقادرة على التعامل مع التطور الذي تنتجه تلك الحضارة، فاللغة السومرية عندما بدأت تضعف في الأستجابة لشروط التطور ومفاهيم التراكم الحضارية، قد فسحت بذلك إلى تطور لغوي وتدويني أكثر مرونة مستفيدة من نتاج الحضارة ذاتها، فلو قارنا مثلا باللغة العربية التي أسست الحضارة الإسلامية في صدر الإسلام، نجدها قد تطورت بشكل أساسي كلما واجهت الحاجة لذلك، فمن وضع المنطق اللغوي وظهور مدرستي البصرة والكوفة إلى التنقيط إلى توسع مجالات الأشتقاق والبلاغة والتصوير وتطور النحو، صارت في زمن الدولة العباسية لغة أكثر مرونة في التعامل مع المعارف والعلوم والثقافة والمعرفة الجديدة، فالسومرية عندما أنتقلت كلغة من الدائرة المركزية التي كانت منتشرة في شرق ووسط الجنوب العراقي إلى غرب نهر الفرات مع ظهور المجتمعات القوية المنظمة والتي شكلت دول وممالك وحتى أمبراطوريات جديدة أنتقلت بروحها وتغيرت الكثير من ملامحها نتيجة قوة المجتمعات الجديدة وقدرتها على الإثراء الحضاري والأجتماعي والمعرفي، وهذا لا يعني أبدا أنقطاع الروح السومرية في اللغة المتطورة الجديدة، بقدر ما هو ظهور التطور الحتمي في بناء اللغة في سيرورتها التي ما زالت تنمو وتتطور نحو الأكتمال النسبي، مع تأثيرات البيئة والأختلاط وتغير المفاهيم وخاصة الدينية التي لعب دورا مهما في تطور اللغة وأنتقالها، كون المجتمع العراقي القديم مجتمع ديني طقوسي بأمتياز.
من كل ذلك نستخلص قضيتين هامتين تتعلق بنشوء اللغة العراقية القديمة وتطورها ما بعد الطوفان وهما:.
• طالما لم يجزم أحد ولم تثبت الدراسات العلمية المستندة إلى علوم حاسمة فيما يتعلق في الأجناس البشرية، إن جميع الأقوام التي نشأت بعد الطوفان في العراق، هم سلالة واحدة تنوعت في ثقافتها وقانونها الأجتماعي وحتى في لهجاتها من الناجين فقط، فلا يمكن أعتبار العراق المركز البشري المهم في العالم القديم فارغا وخاليا من السكان بعد الطوفان حتى تنحدر له الهجرات الخارجية لتملئه من جديد بشغب أخر غريب يبدأ في تأسيس حضارة عجو عن إنشائها في مكانها الأصلي.
• إن اللغة السائدة في العراق ما بعد الطوفان كما قلنا هي لغة الناجين منه تطورت ونشأت مع وجود الشعب الناجي، فأرتباط اللغة بالشعب أرتباط وجودي لا يمكن تغييره بسهولة أو تبديله نتيجة هجرة محدودة أو موسعة وإن أفترضنا وجود هجرات لها، ولو عدنا إلى اللهجات واللغات العراقية القديمة وأستنادا إلى علوم اللسانيات تؤكد الدراسات في هذا الصدد أنها جميعا تنتمي لجذر واحد سمي جزافا بالعائلة اللسانية السامية، وهذا يدل على أن تغيير اللغة واللهجة لم يكن نتيجة وفود لغات من خارج منطقة الطوفان لتحل محل اللغة العراقية القديمة، وعلى الأقل أنه لو حدثت بعض التغيرات نتيجة الهجرة فقد كان مصدرها من نفس العائلة اللغوية، والمهاجرون الجدد قد يشتركون مع الناجين ثقافيا وجنسيا وحتى أجتماعيا.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. السيسي ينصح بتعلم البرمجة لكسب 100 ألف دولار شهريا!


.. تونس.. رسائل اتحاد الشغل إلى السلطة في عيد العمّال




.. ردّ تونس الرسمي على عقوبات الوكالة العالمية لمكافحة المنشطات


.. لماذا استعانت ليبيا بأوروبا لتأمين حدودها مع تونس؟




.. لماذا عاقبت الوكالة العالمية لمكافحة المنشطات تونس؟