الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الأنا والغيرية

سعود سالم
كاتب وفنان تشكيلي

(Saoud Salem)

2022 / 2 / 6
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


أركيولوجيا العدم
١١٥ منفى الغيرية

هذا الإنسان الذي يحدثني ويسير بجانبي، أنا متأكد من وجوده المادي، أراه وألمسه وأسمع صوته، غير أن ذلك كله يبدو للبعض غير كاف لمعرفة هذا الإنسان والتواصل معه، نتيجة أسطورة الأنا الداخلية والحياة الباطنية، قدس أقداس كييركجارد. في حقيقة الأمر يجب رفض فكرة إزدواجية الأنا، فالشعور الجسدي وعلاقته بالعالم يشمل بالضرورة ما يسمى بالأنا الباطنية. التجربة الحسية التي أعيشها على شاطيء البحر عند الغسق، مع مجموعة من الأصدقاء أو مع أفراد العائلة أو الأقارب، هي تجربة فريدة نعيشها معا أنا والآخرين، ذلك أن وجود الآخر يدخل في تكوين هذه التجربة والتي تؤدي إلى ظهور وعي جديد مركب وهو الأنا الجماعية "نحن". ولا شك أن المعضلة الأساسية تأتي من أن الوعي يختلق هذه الأنا الفردية المنغلقة ويرسم عالمها الداخلي كجزيرة منعزلة، بالإضافة إلى أننا نخلط غالبا بين هذه المعضلة المتعلقة بالمعرفة وبين العزلة الأنطولوجية للوعي كمطلق.
"نحن" تدل على مفهوم يتضمن تنوعا لا متناهيا من التجارب الممكنة التي تبدو متناقضة مع وجودي كموضوع بالنسبة للآخر، وتجربة وجود الآخر كموضوع بالنسبة إلي. نحن كـ"فاعل" لا يتضمن أي شخص محدد كموضوع، بل يحتوي على كثرة من الذاتيات التي يتعرف بعضها على بعض كذاتيات. والكل قد عاش ونعيش في كل يوم إنبثاق الـ "نحن" في تجارب متعددة. مثال الرجل، أو المرأة الجالسة في أحد المقاهي، تقرأ الجريدة الصباحية وتشرب قهوتها منتظرة شخصا ما. إنها وحيدة تراقب رواد المقهى الآخرين، البعض منهم يتحدث، بعضهم وحيدا مثلها، بعضهم يشاهد مباراة كرة قدم في التلفزيون .. ليس هناك بينها وبين زبائن المقهى سوى علاقة خارجية، التواجد في نفس المكان ونفس الزمان، هذا المقهى. ولكن ها هو حدث غير متوقع، إنفجار مثلا أو حادث سيارة أمام المقهى، أو شخص يدخل ويبدأ في العزف على قيثارته والغناء، أو أي حدث من هذا النوع يوحد هذه الذوات المشتته ويوجه إنتباهها كـ"مشاهد" إلى نقطة واحدة، وهنا ستنبثق فجأة هذه الشخصية الجديده، وهذه الذات الجماعية " نحن كنا جالسين في المقهى عندما حدث .. " غير أن هذه التجربة التي نعيشها كل يوم في حياتنا العادية غير كافية لإكتشاف ذات الآخر، بل يبدو أنها تضيف طبقة أخرى من الكينونة تساهم في جعل نظرتنا أكثر عتمة. سارتر يرى أن هذه التجربة، والتي وصفها بالتفصيل في الكينونة والعدم، والتي سماها هايدغر قبله بـ "الكينونة مع .. Mitsein" لا تصلح لتكون الأساس لوعينا بالآخر، ولا يمكنها أن تشكل بنية أنطولوجية للواقع الإنساني. فوجود "ما هو لذاته - être pour soi" وسط زحمة الآخرين هو واقعة ميتافيزيقية وعرضية أي لا تتمتع بأية ضرورة من أي نوع. "نحن" إذا ليس وعيا بالذاتية الأخرى، فالآخر الذي هناك يشرب قهوته وحيدا، ما زال غريبا وليس في متناول وعيي. "نحن" هي كائن جديد يتجاوز أجزاءه ويستوعبها ككل تركيبي، على غرار الوعي الجماعي عند علماء الإجتماع، فتجربة الـ "نحن" هي تجربة خاصة وتحصل في ظروف خاصة ومحددة، ولكن بالإرتكاز على ما يسميه سارتر بـ "الكينونة للآخر" والتي تسبق بالضرورة الكينونة مع الآخر الهايدغرية وتؤسس لها. لكي يعي الوعي الفردي إنخراطه في ذات جماعية "نحن"، من الضروري أن يكون الوعي لدى الآخرين الذين يؤلفون معه "جماعة" معطى له أولا بطريقة مختلفة، أي بوصفه تعاليا - متجاوِزا، أو تعاليا متجاوَزاً، بمعنى يجب أن تكون هناك معرفة أو إدراك مسبق بما هو الآخر، كي يمكن أن تتحقق تجربة علاقاتي بالآخر عبر "الكينونة - مع". المرء لا يخجل أو يحس بالعار والإبتذال مثلا، أو بالفخر والزهو حينما يكون وحيدا، فهذه الأفعال النفسية تظهر عندما يطرق الآخر على الباب للدخول، أو حتى حين نسمع وقع خطواته في الممر، فالآخر هو الذي يكشف لي ما أنا عليه، ويكونني وفقا لنموذج "كائن جديد". هذا الكائن الجديد لم يكن مختبئا داخلي، أو موجودا بالقوة ثم ظهر مع ظهور الآخر عندما أطل برأسه من الباب، لأنه لا يمكنه أن يجد مكانا مهما كان ضئيلا في "ما هو لذاته"، حتى مع وجود الجسد كمكون ومعطى أولي وكلي قبل أن يصبح جسدا للآخر، وذلك لإستحالة أن يدخل في هذا الجسد صفات بالقوة مثل الإبتذال والخجل والخنوع وعدم المهارة .. إلخ، لأن هذه الصفات هي دلالات تتخطى جسدي وترتبط في الوقت نفسه بشاهد - أو مشاهد ـ يمكن أن يفهمها وترتبط أيضا بواقعي الإنساني بكل شموليته. هذا الكائن الجديد الذي يظهر للآخر، لا يقيم داخل الآخر، فأنا مسؤول عنه مسؤولية كاملة. فالخجل هو الخجل من الذات أمام الآخر، وجودي لذاته يرتبط بوجودي للآخر. "إذا لم يكن الآخر حاضرا لي بشكل مباشر، وإذا لم يكن وجوده مؤكدا كوجودي فكل تكهن بشأنه يصبح مجردا من أي معنى .. ولكنني لا أتكهن تحديدا بوجود هذا الآخر بل أؤكده" وذلك لمعرفتي المسبقة بوجود هذا الآخر، ووجود تفهم ضمني ولو مضمر بوجوده، وأن هذا التفهم ما قبل الأنطولوجي يتضمن معرفة بطبيعة الآخر وعلاقة وجوده بوجودي. غير أن ذلك لا يكفي لتأسيس وجود الآخر، فكما قلنا سابقا، الحدس وحده لا يكفي، لا بد من إكتشاف الكوجيتو المتعلق بالكينونة من أجل الآخر. وهو ما يقوم به سارتر بتحليله لـ"النظرة Le Regard"








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. في هذا الموعد.. اجتماع بين بايدن ونتنياهو في واشنطن


.. مسؤولون سابقون: تواطؤ أميركي لا يمكن إنكاره مع إسرائيل بغزة




.. نائب الأمين العام لحزب الله: لإسرائيل أن تقرر ما تريد لكن يج


.. لماذا تشكل العبوات الناسفة بالضفة خطرًا على جيش الاحتلال؟




.. شبان يعيدون ترميم منازلهم المدمرة في غزة