الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الشاعر الصوفي

سعود سالم
كاتب وفنان تشكيلي

(Saoud Salem)

2022 / 2 / 10
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


أركيولوجيا العدم
١١٧ - الشاعر والصوفي

والحلاج خيرمثال على هذه اللغة المبهمة العصية على إدراك دلالات الكلمات، فقد كان الحلاج يمزج بين العالمين، الواقعي والمتخيل، الإلهي والإنساني وبين التصوف والفلسفة، وبين الكرامات والشعوذة وبين الدين والثورة : فيكشف عن روحية جديدة، تتجاوز رؤية الفقهاء والثقافة الدينية السائدة جاعلا من التجربة الصوفية قوة اجتماعية وثورية تندفع نحو المطلق حسب رأي البعض ونحو العدالة الإجتماعية حسب تفسيرات وقراءات أخرى. وتبقى اللغة الرمزية هي الأداة المركزية الوحيدة المتاحة لنا لتأويلات شطحات الحلاج. وفي بعض كتبه مثل الطواسين، نراه يهتم ويعالج القضايا الدينية الكبرى مثل الإيمان والكفر، الله والشيطان، الإرادة الالهيه والإرادة الإنسانية .. ويقوم بزحزحتها وخلخلة دلالاتها المألوفة في ظل تناقضاتها الدياليكتيكية، وتتلاشى الفروق بين الكفر والإيمان، بين الخالق والمخلوق، الله والإنسان، فالوجود وحده كلية شاملة، والله هو الموجود الحقيقي والكلي وهو "البداهة الأولى". رغم ان وحدة الوجود الحلاجية كوحدة كلية مطلقة بين كل الكائنات والتي ترجع في النهاية إلى الله، هي فكرة رفضها بعض المؤرخين بإعتبارها فكرة لاحقة زمنيا للحلاج من ناحية، ومن ناحية أخرى أن الحلاج كان يؤمن بالتنزيه المطلق وهو ما يتعارض مع فلسفة الحلول ووحدة الموجودات. الحلاج في الحقيقة كان يؤمن بما يسمى "وحدة الشهود"، ورغم شطحاته العديدة، فإنه يرفع الله فوق كل الكائنات ويجعله مباينا ومغايرا لمخلوقاته. بينما الذين يؤمنون بفلسفة وحدة الوجود، مثل إبن عربي، فإنهم لا يبالغون في التنزيه لدرجة التنزيه المطلق والفصل النهائي بين الكون والمتعالي، فالحقيقة تقوم على التمازج بين التشبيه والتنزيه. ولا شك أن الإستشراق قد أعطى صورة مشوشة وبعيدة عن الحقيقة التاريخية لشخصية الحلاج، ولا سيما ماسينيون الذي أراد أن يجعله مسيحا جديدا لينقذ الروحية الإسلامية من الفقر الميتافيزيقي، وهي محاولة للأسف تتبع نفس المنهج الذي أتبعه أدونيس في محاولته الطفولية لإلباس "الخرقة" للشاعر الفرنسي آرثور رامبو. يقول ماسنيون بعد وصفه لعذاب الحلاج : «وفي وسط هذا كله، الحلَّاج نفسه مصلوبًا خارجًا عن طوره، مُظهِرًا للجميع من فوق مقصلته، وهو في حالةٍ من الوجد تجاوز ببدنه حد الموت، شخصيةَ المسيح الخالدة، كما وصفها القرآن، وكأنه الصورة المعبرة المتجلية فيها روح الله : وما قتلوه وما صلبوه.» مع أنه قتل وصلب وبترت أطرافه ونُصب رأسه يومين على الجسر ببغداد، ثم طِيف به في خراسان، ثم أخذته أم الخليفة المقتدر، فحنطته وعطرته، وأبقته في خزانتها عامًا كاملًا، أما جسده، لأأو ما تبقى منه، فقد لُف في باريةٍ، وصُبَّ عليه النفط وأُحرق، وحمل رماده على رأس منارةٍ لتنسفه الريح، في  ٢٦ مارس ٩٢٢م. وهنا نرى هذا الفرق الجوهري بين التجربة الشعرية والتجربة الصوفية، ويبدو بأنه لا إمكانية لوجود خطوط تقاطع بينهما، فكلاهما رحلة لفضاءات وقارات فكرية وروحية في غاية الإختلاف والبعد عن بعضهما البعض. الشاعر يهتم بالفضاء الأرضي والإنسان والتجربة الإنسانيةى متجسدة في تجربته الذاتية، بينما الصوفي يتوجه إلى السماء ويبحث الروح ومعرفة الذات الإلهية، الشاعر يبحث عن ذاته وذات الآخر، الصوفي يبحث عن الله وعن الإيمان والفناء في ذات الخالق، والشاعر يجعل نفسه خالقا للعالم بواسطة اللغة التي هي وسيلته الأولى والأخيرة، بينما الصوفي يلجأ لكلام الله والصلاة والتأمل والعبادة للوصول لمحبوبه. قد يلجأ الشاعر في بعض الأحيان للخمر أو المخدرات أو الأرق وعدم النوم، وحتى الإمتناع عن الحياة الإجتماعية العادية، وذلك للتعالي عن الحياة اليومية والإنفصال عن الإهتمامات المادية المعتادة للوصول للمطلق الوجودي، والذي هو معنى الإنسانية ومعنى الوجود. الخلاصة أن الشاعر يخلق ويبدع نصوصه الشعرية التي تعكس رؤيته للعالم وللأشياء، بينما الصوفي لا يقوم سوى بالعبادة وليس ضروريا أن يخلق أي شيئ، رغم أنه بدوره يلجأ إلى اللغة للتعبير عن حالاته الروحية والوجدانية. وهنا نستطيع أن نتسائل بجدية غير مؤلوفة : هل قتل الحلاج لأنه كان ثوريا أم لأنه كان مشعوذا ؟ ذلك أن الصوفي في حقيقة الأمر لا يمكن أن يزعج السلطة، سواء كانت دينية أو عسكرية أو مدنية.
الحلاج كمثال نأخذه هنا، كمقابل للشاعر، كان يؤكد على ضرورة التأويل والغوص في معاني الكلمات : "من لم يقف على إشاراتنا لم ترشده عباراتنا"، وهاهي بعض من أقواله المشهورة، والتي كانت ليس السبب المباشر، وإنما "المبرر" الديني في عملية تعذيبه وصلبه ثم حرقه :

- غاب عني شهود ذاتي، بالقرب، حتي نسيت إسمي.

- أقتلوني يا ثقاتي، إن في قتلي حياتي
ومماتي في حياتي وحياتي في مماتي
آن عندي محو ذاتي من أجل المكرمات.

- لست أنا ولست هو، فمن أنا ومن هو،
لا و"أنا" ما هو أنا، و"لا أنا" ما هو هو.

- أنا من أهوى ومن أهوى أنا، نحن روحان حللنا بدنا
فإذا أبصرتني أبصرته، وإذا أبصرته أبصرتنا.

- أنا الحق والحق للحق حق، لابس ذاته فما ثم فرق.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. في هذا الموعد.. اجتماع بين بايدن ونتنياهو في واشنطن


.. مسؤولون سابقون: تواطؤ أميركي لا يمكن إنكاره مع إسرائيل بغزة




.. نائب الأمين العام لحزب الله: لإسرائيل أن تقرر ما تريد لكن يج


.. لماذا تشكل العبوات الناسفة بالضفة خطرًا على جيش الاحتلال؟




.. شبان يعيدون ترميم منازلهم المدمرة في غزة