الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


كتاب صُنِع في الجحيم(9)

ناصر بن رجب

2022 / 2 / 11
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


محنة سبينوزا ونشأة العَصر العَلماني


الفصل الرّابع
(نهاية الفصل)

آلهة وأنبياء

يُجنِّد سبينوزا، في رسالة اللّاهوت والسّياسيّة، كلّ ما أوتي من قوّة لدحض مفهوم "النّبيّ-الفيلسوف" هذا الذي رأينا أعلاه كيف أنّ ابن ميمون دافع عنه بكلّ حماسة. إنّ إحدى غايات الرّسالة هي التّأكيد على ضرورة الفصل بين حقل الدّين وحقل الفلسفة حتّى يتسنّى للفلاسفة أن يكونوا أحرارا في المضيّ قدما في ممارسة المعرِفة الدّنيويّة دون أن تُكبِّلهم أغلال السّلطة الكنسيّة. ولهذا، فبين الحقيقة الفلسفيّة والعقيدة الدّينيّة، في مفهوم سبينوزا،لا يوجد أيّ شيء مشترك، فلا يجب أن تُستَخدَم إحداهما كأنموذج للأخرى. فلا الفلسفة عليها أن تَكفَل الدّين، ولا الدّينُ أن يتوافَق مع أيّ نظام فلسفيّ مهما كان.
على أيّة حال، ومن حيث أنّ ابن ميمون مُصيب في وصف النبوّة، وأنّ تحليله لدور العقل والمخيَّلة موجود عند فلاسفة آخرين في العصر الوسيط، فإنّ محتوى النبوّة يكون، على الأقل في جانب منه، محتوى فلسفيّاً. فالفيلسوف والنبيّ، في نظر ابن ميمون، ينقلان سويّةً وبنفس القدر حقائقَ، وهي فعليّا، نفس الحقائق. وبما أنّ حقيقة مّا تكون بالضّرورة متَّسِقة مع حقائق أخرى، يجب إذاً على الفلسفة والنّبوّة، عندما يتمّ إدراكهما إدراكا جيّداً، أن تكونا دائما متوافقتيْن. ولذلك نرى ابن ميمون يتصوّر أنّ الحقيقة الفلسفيّة والحقيقة المنزَّلة لا يدخلان مطلقا في صراع فيما بينهما. وبناء على ذلك، يجب أن تُقرَأ النّصوص النبويّة على نحوٍ لا يتعارض مع مبدإ فلسفيّ مُبرهَن. وبنفس الصّورة، يجب على الفيلسوف أن يحترِم دائما كلّ ما يجود به الوحي حتّى ولو أنّ أقوال الأنبياء يجب تأويلها أحيانا في معناها المجازي عندما تكون قراءتها الحرفيّة قد تتعارض مع حقيقة فلسفيّة مُثْبَتة.
لكي يبلُغ غايته، كان على سبينوزا إذاً أن يبيِّن وجود فارق جوهريّ (وليس فقط من حيث الطّرح) بين الأخبار التي ينقلها الوحي أو التكهّن والمعرِفة التي هي نتاج الفلسفة.
تظلّ هناك نقطة مهمّة كان سبينوزا متّفقا فيها مع ابن ميمون، نقطة يسوِّغها لصالحه الخاصّ في الجدل. صحيح أنّ أنبياء البيْبل العبري، حسب برهَنة سبينوزا، كانوا بالفعل، كما يُقِرّ بذلك ابن ميمون، رجالا وُهِبوا خيالا واسعاً، وذلك بدون أن يتلقّوا تعلُّما في العلوم النّظريّة، بل نرى الكثير منهم لم يتلقّوا أيّ بصيص من التّعليم. ولذلك، لا يجب اعتبار بياناتهم على أنّها مصادرُ لحقيقة لاهوتيّة، فلسفيّة، علْميّة أو تاريخيّة. إنّ غاية سبينوزا من وراء مناقشته للنّبوّة هي إذاً الحطّ من قيمتها المعرفيّة، وبالخصوص فيما يتعلّق بالفلسفة والعِلْم. وعليه، فإنّ الوحي كما يقدِّمه البيْبل، حتّى وإن كانت له وظيفة اجتماعيّة وسياسيّة في غاية الأهميّة، فهو لا يمكن أن يكون مصدرا للحقيقة.
يُعرِّف سبينوزا "النبوّة أو الوحي"، على أنّها "المعرفة اليقينية التي يُوحي الله بها إلى البشَر عن شيءٍ مّا"(1). من الوهلة الأولى، يبدو لنا هذا التّعريف تقليديّا جدّا بالرّغم من أنّه يبدو مُحيِّرا نوعا مّا بالنّسبة لمَن أَلِف مشروع سبينوزا الفلسفي والدّيني. فمنهجه الطّبْعي (naturalisme) الصّارم لا يعطي أيّ حظّ لأيّ ظاهرة خارقة للطّبيعة مهما كان نوعها. فكلّ ما يحدث إنّما يحدث في الطّبيعة الطّابعة وبها. وهكذا فإنّ أيّ معرِفة تَرِد إلى شخص مّا تكون متأتّية بالضّرورة من مادّةٍ طبيعيّة بشكل تامّ، لذلك ليس هناك أيّ استثناء ولا يجب له أن يكون. لا يوجد، في نظام سبينوزا، إلهٌ مفارِق يُخاطِب بطريقة خارقة للطّبيعة ووفقا للظّروف. مع ذلك، يترك سبينوزا مكانا للوحي الإلهي ولكن فقط في معنى خاصّ جدّا. فبما أنّ الرّب مطابِق للطّبيعة الطّابعة، في نظر سبينوزا، وأنّ كلّ معرفة إنسانيّة هي معرفة طبيعيّة [فطريّة]، يَنْتُج عن ذلك إذاً أنّ كلّ معرفة إنسانيّة هي أيضا معرفة إلهيّة. وإذا كان الرّب هو الطّبيعة الطّابعة من حيث أنّها العلّة الجوهريّة والفاعِلة لكلّ الأشياء، لذلك فإنّ كلّ ما تُحدِثه الطّبيعة الطّابعة وقوانينُها هو بالضّرورة ناجم عن الرّب. وبما أنّ الفكر الإنساني هو، كأيّ شيء آخر، جزء من الطّبيعة الطّابعة، فإنّ كلّ حالاته المعرفيّة تنجم في نهاية المطاف عن "الرّب أو الطّبيعة":
"ولهذا السّبب، ما إن يقع الحديث عن المعرفة النّبويّة فإنّ [العامّي] يستبعِد مباشرة المعرفة الطّبيعيّة، ومع ذلك فإن للمعرفة الطّبيعيّة الحقَّ نفسه الذي يكون لأية معرفةٍ أخُرى في أن تُسمَّى معرفة إلهية؛ لأنها بالفعل بمثابة معرفة تمليها علينا في نفس الوقت الطّبيعة الإلهيّة، بقدر ما تُشارك فيها معرفتنا نحن، وأيضا الأوامر الإلهية"(2).
بالإضافة إلى ذلك، فإنّ أعلى أشكال المعرفة التي يمكن للكائن البشري إدراكها هي ما يسمّيه سبينوزا في كتاب الأخلاق "النّوع الثّالث من المعرفة"؛ وهو يتعلّق بالعِلْم الحدْسي لماهية الأشياء وبإدراك سببيّ عميق يضعها في العلاقات الضّروريّة التي تُقيمها فيما بينها، وبالأخصّ علاقاتها مع مبادئ الكون العليا "ويرتقي هذا النّوع من المعرفة من الفكرة التامّة للماهية الصّوريّة لبعض الصّفات الإلهيّة إلى المعرفة التامّة لماهية الأشياء"(3). فنحن ندرِك ماهية شيء مّا، في هذا النّوع الثّالث من المعرفة، أو ماهية حدث مّا بطريقة من شأنها أن تقودنا إلى معرفةِ لماذا يكون الشّيء في هيئته تلك، وكيف يستحيل على هذه الهيئة أن تكون مغايرة. غير أنّ مبادئ العِلل الكونيّة للطّبيعة الطّابعة هي بالضّبط صفات الرّب (أو الطّبيعة الطّابعة): التمدُّد (بالنّسبة للأشياء الجسمانيّة وأحوالها)، والفِكر (بالنّسبة للأذهان وأفكارها). عندما نقرِن تصوّراً عن شيء مّا بالصّفة الإلهيّة المعنيّة به، عندما تكون فكرتنا، مثلا عن جسم مّا، متواجدة معرفيّا بشكل مناسِب في علاقة مع فكرةِ طبيعة التمدّد وقوانين الحركة والسّكون، فإنّنا نكون قد تحصّلنا على معرفة تامّة لهذا الشيء. إنّ طبيعة الرّب تجعل عندئذ المعرفة الإنسانيّة مُمكِنة وذلك لأنّ مفهومها يُشكِّل ركيزة لأفضل إدراك للأشياء: إذاً "يمكن أنّ تُسمّى المعرفة الطّبيعيّة بالمعرفة النبويّة"، أي بمعنى آخر يمكن أن تُسمّى المعرفة الإلهيّة، وذلك "لأنّ ما تَعرِفه بالنُّور الفطري يعتمد على معرفة الرّب وحدها وعلى أوامره الأزليّة"(3). ولذلك لا نتحصّل على معرفة حقيقيّة إلاّ عندما تكون عندنا معرفة بالرّب أو الطّبيعة الطّابعة.
عندما تُفهَم "النّبوّة" أو "الوحي الإلهي" فهماً جيّداً في هذا الفهم الواسع مثل أيّ معرفة مرتبطة بالرّب من جهة علّتها وإدراكها، فإنّها تشتمل بالضّرورة على المعرفة الفطريّة (الطّبيعيّة)، وبصورة أدّق تكون مشتملة على الفلسفة والعِلْم وأيضا نتاجات أخرى للعقل، وتكون بناء على ذلك "مشتَرَكة بين جميع النّاس". وبالرّغم من أنّ الرّب هو العلّة الأسمى للمعرفة الحقيقيّة، فإنّ العلّة المباشرة أو الفاعِل الذي تنتمي إليه المعرفة الإنسانيّة بصورة مباشرة هو دائما علّة طبيعيّة، أي العقل الإنساني نفسه:
"لذلك، لمَّا كان ذِهنُنا قادرًا على تكوين بعض الأفكار التي تُوضِّح طبيعة الأشياء والتي تُوجِّهنا في الحياة العملية، لا لشيءٍ إلَّا لأنه ينطوي موضوعيّاً على طبيعة الله ويُشارك فيها، فمن حَقِّنا أن نُسلِّم بأنَّ السّبب الأوّل لكلِّ وحيٍ يرجِع إلى طبيعة الذّهن الإنساني منظورًا إليه على أنّه قادِرٌ على المعرفة الفطرية. وكما قلنا من قبل، فإن كلَّ ما نعرفه بوضوحٍ وتَميُّز تُمليه علينا فكرة الله وطبيعته لا بالأقوال، ولكن بوسيلةٍ أرفع من ذلك بكثير، مُتَّفِقة تمامًا مع طبيعة ذِهنِنا، ومَن ذاقَ اليقين العقلي الكامل يعرف تمامًا ماذا أقصد"(4).
ومع هذا، وكما يقول ذلك سبينوزا نفسه، فإنّ هدفه في الرّسالة لم يكن يتمثّل في فحص طبيعة النبوّة مفهومةً في فهمها الصّحيح، وهو ما يفعله في كتاب الأخلاق، ولكنه ميتناولها هنا من الوجهة التي تقدّمها بها الكتب المقدّسة وتعلْن عنها، أي من حيث أنّها المصدر الأساسي لسلطة الإكليروس في ذلك الوقت، وبالتّالي كأداة للتّدخّل الدّيني في الشّؤون السّياسيّة. كما نرى توصيفا مختلفا جدّا يظهر في الكتابات المقدّسة للنّبوة من حيث أنّها تأتي فيها غير مندرجة في مجال العقل بل في مجال الخيال.
يشير سبينوزا إلى كون نبوّات البيْبل كلّها تحدث بواسطة كلام أو صور [رؤية]. فالأنبياء يسمعون أصواتا ويرون بروقا تخطف الأبصار: فهم يجدون أنفسهم في حضرة حيوانات تتكلَّم وملائكة مدجّجة بالسّيوف، وبعضهم يرى الرّب في مظهر متجسِّم. ومن البديهي أنّ تكون الرُّؤى والأصوات التي يدركها الأنبياء غير واقعيّة. حسب التّقليد اليهودي، موسى هو النّبيّ الوحيد الذي سمع حقيقةً وفعلاً كلام الرّب. وبالمقابل، يشرح لنا سبينوزا أنّ صوت الرّب الذي نادى به صموئيل، وأَبيمَلك ويشوع وغيرهم من الأنبياء، كان من صُنْع الخيال: فهو يتجلّى لهم إمّا في الأحلام وإمّا في الرُّؤى. وهذا ما يُؤكِّد لسبينوزا أنّ النّبوّة، حسب الكتاب المقدّس، لا تحدث بفعل العقل ولكن بالمخيَّلة بما أنّ هذه الأخيرة هي الملَكَة البشريّة المسؤولة عن الظّواهر البصريّة والصّوتيّة في الأحلام والرُّؤى: "وينتج عن ذلك، أنّ التنبُّؤ لم يكن يتطلّب ذِهْناً أكثر كمالا من أذهان الآخرين، بل فقط خيالا أكثر حيويّة"(5).
إذا سلّمنا بحقيقة أنّ النّبوّة البيْبليّة هي وظيفةُ مُخيِّلةِ النّبيّ فهذا يفسّر في آن واحد الطّريقة التي يتلقّى بها النّبيّ الرّسالة الإلهيّة والصّيغة السّرديّة التي يُبلِّغ بواسطتها هذه الرّسالة للآخرين. وخلافا للفيلسوف الذي تكون مَوادُّه عقليّة مجرّدة وربّما تكون مُصاغَة في شكل فرضيّات مُبَرْهَنة، فإنّ النّبيّ يتلقّى ظواهر حسيّة ويشتغل من خلالها: "لن نندهِش بعد الآن عندما يَستعمِل الكِتاب المقدّس أو الأنبياء للتعبير عن الرُّوح، أي عن فكر الله، لُغةً مَعيبَةً وغامِضة كتلك التي نجدها في سفر العدد (17:11)، وفي سفر الملوك (الأوّل، 22:21)، فلقد رأى ميخا الله مُستويًا على العرش، ورآه دانيال عجوزًا مُتلفِّحًا بالبياض، ورآه حزقيال نارًا، ورأى تلامذة المسيح الرُّوحً القدُس هابطة في صورة حمامة، ورآها الحواريُّون في صورة ألسنةٍ من النيران، وأخيرًا فقد رأى بولس نُورًا ساطعًا في لحظة تحوُّله إلى العقيدة"(6). فما يتلقّاه النّبيّ هو مجرّد رُؤى، والأفكار التي يحصل عليها من هذه الرّؤى يتمّ نقلها بدورها بواسطة أمثال واستعارات ورموز. إنّ مثل هذه القصص الخياليّة، بالإضافة إلى كونها تستطيع أن تشكِّل عائقا للإدراك العقلي للأشياء، فهي تتلاءم بالطّبع مع ما تُنتِجه الملَكَة النّبويّة، كما أنّها تتلاءم كذلك مع جمهور النّبيّ، وهو شيء على نفس الدّرجة من الأهميّة.
بالفعل، على عكس ما يذهب إليه ابن ميمون، فإنّ سبينوزا يؤكِّد على أنّ العقل لا يُساهِم في شيء بالنّسبة للنّبوّة البيْبليّة. إذ أنّ الأنبياء ليسوا أفرادا مُتَعلِّمين بصفة خاصّة. لقد كانوا عموما أناسا بسطاء من أوساط متواضعة بل نجد منهم مَن كان من شرائح الشّعب الدّنيا. لقد كانوا يفتقرون إلى المعرفة الفلسفيّة، ولم يكن لهم تكوين لاهوتي أو معارف علميّة، لذا ليس هناك من ضرورةٍ لتصديق ما يمكن أن يقولوه بخصوص هذه الموضوعات. فالنّبوّة، كما يعتبرها سبينوزا، ليست مجالا معرفيّا. فإذا كانت "هِبَة النّبوّة لا تُعطي الأنبياء علمًا أكثر ممّا كانوا عليه قبل ذلك"، كما يؤكِّد سبينوزا، فإنّه من اليقين أيضا أنّ الاستماع إلى النّبيّ لم يجعل أحدا أكثر ذكاء من ذي قبل.
وهذا يعود في جزء منه إلى واقع أنّ النبوّة هي مسالة ذاتيّة بامتياز، فهي منتوجٌ بلْورَته بصورة فرديّة الطّبيعة وأيضا تكوين النبيّ. فما يمكن أن يقوله أيّ أحد من هؤلاء الأنبياء بخصوص هذا الموضوع أو تلك المسألة، أو بخصوص الكيفيّة التي تَعرِض بها مخيّلته الشّخصيّة الرّسالةَ، وأيضا نوع الرّؤيا أو الحلم الذي يراه، كلّ هذا يتوقَّف على مداركه الفطريّة وتعلُّمِه. وكلّ هذا خاضع للحياة التي يعيشها، وللأفكار التي تختلج في ذهنه، ولوضعيّته الاجتماعيّة، بل وحتّى للطّريقة التي يتكلّم بها، ولمزاجِه وحالته الإنفعاليّة. فرُؤى نبيّ من أهل الرّيف تحتوي على صور للبَقَر والثّيران، في حين أنّ شخصا من أهل الحَضَر سيعيش تجربة نبويّة ذات محتوى يختلف اختلافا كليّا عن محتوى رؤى النبيّ القادِم من الرّيف. وليس هناك أيّ سبب لكي تكون الأفكار المُسبَقة التي تصنَع وتُقوْلِب وحي نبيّ مّا صحيحةً بالضّرورة مثلها في ذلك مثل المعتقدات التي يكتسبها شخص معيّن طيلة حياته. "ولكني سَأثُبِتُ على العكس من ذلك تمامًا، وبمزيدٍ من العناية والإسهاب، أنّ النبوَّات أو التَّمثُّلات كانت تختلف باختلاف آراء الأنبياء، وكذلك سأثُبِتُ أنّ آراء الأنبياء فيما بينهم كانت تختلِف، بل وتتعارَض، وكذلك الحالُ في أحكامهم المُسبَقة". فمثلا، نرى يشوع، بما أنّه لم يكن عالِم فلك، كان يعتَقِد في أنّ الأرض ثابتة وأنّ الشّمس تدور حولها، وهكذا فإنّه، عندما رأى نور النّهار قد امتدّ أكثر من المألوف خلال معركة كان يخوضها، عوض أن يرى في ذلك عملَ ظواهر الطّقس المختلفة، ذهب به الظنّ بكلّ بساطة أنّ الشّمس ظلّت شاخصة في السّماء إلى حين [انتصاره على أعدائه]:
"أمّا فيما يتعلّق بمزاج الأنبياء، فإنّنا نجد تأثيراته على الوحي تختلف من نبيّ إلى أخر: إذا كان النبيُّ ذا مِزاجٍ مَرِحٍ تُوحَى إليه الحوادث التي تُعطي الناس الفرَحَ مِثل الانتصارات والسّلام، وبالفعل نَجِد أنَّ مَن لهم مِثل هذا الِمزاج قد اعتادوا أن يتخيَّلوا أمورًا كهذه. وعلى العكس من ذلك، إذا كان النبيُّ ذا مزاجٍ حزينٍ تُوحَى إليه كلّ أنواع الشّرور، فيتنبّأ بالحروب والعذاب. وعلى هذا المنوال، فإنّ النبيَّ كان قادرا على تَلقِّي هذا الوحي أو ذاك حسب مزاجه في لحظة مّا إن كان لطيفاً، أو غضوبًا، أو قاسيًا، أو رحيمًا، … إلخ"(7).
يعترف سبينوزا بأنّ عدم تعلُّم الأنبياء لا يعني وجوب الخلط بينهم وبين غيرهم من النّاس. بل بالعكس، فعلى الرّغم من أنّهم لم يُروِّضوا أذهانهم لتبلُغ الكمال (وهو ما يؤيِّده ابن ميمون)، فإنّ حيويّة خيالهم المفرِطة كانت حقيقة خارقة للمألوف، وهو ما يذهب إليه ابن ميمون أيضا. يشاطِر سبينوزا كذلك صاحِبَ "دليل الحائرين" فكرة أنّ قدراتِ مخيِّلة النبيّ الهائلة تستطيع أن تمنحه تفوُّقاً على الفيلسوف. "ولمَّا كان الأنبياء قد أدركوا الوحيَ الإلهي بالاستعانة بالخيال، فلا شكَّ أنَّ مَلَكة الإدراك عندهم قد تعدَّتْ حدود الذهن"(8). في كتاب الأخلاق، نرى سبينوزا يحطّ على العموم من قيمة الخيال المعرفيّة لصالح العقل. إذ أنّ الأفكار المتولِّدة من الخيال،على غرار تلك التي تأتي من الحواسّ، ليست مصدراً للمعارف، بل هي تُستَخدَم بالأساس لتغذية الأهواء والانفعالات. وهذا موقف ثابت عند سبينوزا، فنحن لن نجد أيَّ شيء ممّا يقوله في الرّسالة من شأنه أن يفنِّد هذا الموقف. ولكنّه يُقِرّ فعلا أنّ قوّة خيال النبيّ توفِّر له صفاءَ بصيرة متميِّز بالرّغم من أنّه لا يدوم طويلا. والنبيّ يمتلك نوعا من سرعة الفهم، وقدرة تخَيُّل على استشراف تداعيات الأحداث، وهي قدرة عصيَّة على شخص لا يحتكِم إلاّ للإدراك العقلاني ويقتصِر فقط على الآليات المنطقيّة. "لأننا بالكلمات والصور نستطيع أن نُكوِّن أفكارًا تزيد عن تلك التي نُكوِّنها بالمبادئ والمفاهيم الذِّهنية التي تقوم عليها معرفتنا الطبيعية". فالنّبي، بفضل قوّة خياله، هو شخص فَطِن ثاقب البصيرة: يمكنه أن يكون غير حائز على التّعليم الذي يتلقّاه الفيلسوف الحكيم، ولا يمتلك فهمَه الميتافيزيقي العميق، ولا تكون له القدرة مطلقا على بلوغ حالة الفضيلة العقلانيّة التي يمتلكها الشّخص الكامل ذهنيّا ولا سعادته الإنسانيّة الحقيقيّة [يودايمونيا] (eudaimonia)، ولكنّه يقدر أحيانا على رؤية أشياء، وهي أشياء عمليّة، لا يستطيع هذا الشّخص الكامل ذهنيّا الولوج إليها. غير أنّ سبينوزا لا يدخل في تفاصيل هذه الموهبة الخاصّة للنّبيّ، بل يبدو أنّه يتقبّل إمكانيّة أن يُبرهِن بعض النّاس، الذين يستعينون بالصّور والأفكار الماديّة، على حيويّة ذهنيّة وحدْس عميق في أشياء تتعلّق بالأخلاق، وهي خِصال قد لا تتوفّر لمفكِّر أكثر تجريدا. ربّما يكون النبيّ، بأحكامه العمليّة المعزَّزة بالخيال، أكثر قدرة من المثقَّف على تقييم وضعيّة ملموسة أو على رؤيةِ كيف ينطق مبدأ عامّ على حالة خاصّة.
والأهمّ من كلّ هذا هو أنّ الأنبياء كانو أفرادا متفوِّقين على المستوى الأخلاقي، وهذا ما يتّفق فيه كلّ من مسبينوزا وابن ميمون. فقد كان أنبياء الكتب المقدّسة العبريّة يمتلكون إحساسا حادّا بالخير والشّر وحصافة رأي عميقة فيما يتعلّق بالمسائل العمليّة. "وهكذا نرى بوضوحٍ أنَّ ما نالَهُ الأنبياء من ثناءٍ وتقدير عظيمَين لا يرجِع إلى مزايا رُوحية عالية بل إلى تقواهم ورسوخ إيمانهم"(9). لقد كان الأنبياء أكثر من غالبيّة النّاس قُدرةً على كبح جماح شهواتهم الحسيّة والانصراف كليّة لتحسين استقامة سلوكهم. وهكذا نجد لديهم الكثير ممّا يمكن أن يقدِّموه من الدّروس المهمّة حول المحبّة والعدل. فإذا كانت هناك قيمة مّا للأمثال التي يقدّمها الأنبياء، وسبينوزا متّفق في هذا، فذلك لاحتوائها على رسالة أخلاقيّة يُبلِّغونها بنجاعة فائقة. ولذلك كانوا من أحسن أساتذة الأخلاق فاعليّة بحكم شخصيّتهم الفاضلة وموهبتهم في الإبداع القصَصَيّ. يحتجّ سبينوزا، كما سنرى ذلك لاحقا، بأنّه إذا كانت هناك وصيّة مشتركة، وهي "رسالة إلهيّة"، التي تجوب أرجاء كلّ كتب أنبياء البيْبل، هي بالأحرى الوصيّة البسيطة، ولكنّها الوصيّة الكبرى والأولى: "أَحْبِبْ قريبَك حُبَّك لنَفْسِكَ". ففي هذه النقطة، وفي هذه النقطة فقط، يجب أن نُطيع الأنبياء. لا يمكن للمرء أن يرتَفِع أو أن يتحوّل [أخلاقيّاً] باتّباع هذا الطّريق العَمليّ، المؤدّي إلى الفضيلة، الذي تشير إليه الكتابات النّبويّة إلاّ عندما يتّبِع الطّريق الذي تُوفِّره الفلسفة الذّهنيّة، ولكنّ الطّريق الأوّل يبقى بالنّسبة لأغلبيّة النّاس أفضل ما لدينا من الطّرق.
لقد اعترف قدماء بني إسرائيل بالموهبة التخيُّليّة للأنبياء وتفوّقهم الأخلاقي، وبالتّالي رفعوهم فوق مستوى الكائنات البشريّة العاديّين. ولكنّهم، بحسب رأي سبينوزا، لم يستطيعوا أن يشرحوا من خلال طرق طبيعيّة كيف كان بإمكان هؤلاء الأفراد أن يصبحوا على هذه الدّرجة من الفضيلة وحدّة البصيرة، وقد عزا بنو إسرائيل أيضا القدرات النبويّة إلى إلْهامٍ إلهيّ، أي بمعنى آخر، إلى إلهام خارق للطّبيعة: "وبهذا المعنى تَعوَّد اليهود أن يَنسِبوا إلى الله ما كان يتعدَّى فهْمَهم ويجهلون أسبابه الطبيعية في ذلك العصر". وكذلك فعلوا مع الأعمال الخارقة التي تقوم بها الطّبيعة فسمّوها "أعمال الرّبّ"، والرّجال الجبابرة الأقوياء أطلقوا عليهم "أبناء الرّب"، وكما كانوا يقولون بأنّ الأنبياء كانوا متفوِّقين في بعض الجوانب على بقيّة البشر بقدراتهم التي تثير دهشة واعجاب الشّعب، وأنّهم يمتلكون روح الرّب:
"والآن، فلنرجِع إلى موضوعنا الأوّل بعد أن اتَّضَح من هذه الأمثلة ما يجب فهمه من هذه العبارات: "كان رُوح الرّب في النّبيّ"، "أنزل الرّب رُوحه في البشر"، "البشر مَلِيءٌ برُوح الرّب، بالرُّوح القدس"؛ فهذه العبارات لا تعني سوى أنّ الأنبياء كانوا يتميّزون بفضيلة مُتَفرِّدة، وأنّهم كانوا يمارسون الفضيلة بأعلى درجة من المثابرة والثّبات"(10).
بالرّغم من أنّ رسالة الأنبياء يوجد فيها بالفعل شيء إلهيّ، يحرص سبينوزا مع ذلك على وضع الأشياء في نصابها: فالأنبياء لم يتلقّوا على الإطلاق، وبالمعنى الحَرفي، خطابا خارقا للطّبيعة من لدُن آلهة متجسِّمة على غرار الرّب الموصوف في البيْبل. فهذا ما لا يمكنه أن يكون متطابقا مع طبيعة الرّب الحقيقيّة ولا مع الأُسّ الحقيقي للنّبوّة المتمثّل في ظاهرة طبيعيّة كلّيًّا حتّى ولو أنّها ظاهرة نادرة، وهي تنبثق عن بعض ملَكَات إنسانيّة فائقة. يَلتقِي سبينوزا هنا أيضا مع وجهة نظر ابن ميمون.
ولكن، مهما كانت المكانة الرّفيعة التي حظي بها الأنبياء ومهما بلغت درجة أهميّة الدّور الذي لعبته كتاباتهم في المجتمع والتّاريخ (يشرح سبينوزا بأنّهم بالفعل لعبوا دورا هامّا جدّا)، يبقى أنّهم كانوا، من وجهة نظر عقليّة، أفرادا من مرتبة دنيا. وليس مردّ ذلك لكونهم أقلّ حكْمةً أو تعلُّماً من الفلاسفة، بل بالخصوص لأنّ مؤهّلاتهم النبويّة تجعل منهم أقلّ جاهزيّة لمواصلة المعرفة العقليّة، وهذا هو الشّيء الذي يموضِعهم في مرتبة أدنى من القاعدة المتعارَف عليها. إنّ امتلاك النّبيّ لخيال جامِح يُصبح في نهاية المطاف عائقا أمام الذّهن؛ والصّور التي يُنتِجُها هذا النّوع من الخيال تتضارَب مع الإدراك الواضح والجليّ للأفكار المناسبة. فهنا وفي هذه النّقطة بالذّات يكون ابن ميمون، حسب تقدير سبينوزا، قد أخطأ. إذ يستحيل بلوغ كمال الفهم والإدراك وفي نفس الوقت كمال المُخيَّلة. فترويض أحدهما وتنميته يستلزِم بالضّرورة إضعاف الآخر، والعكس بالعكس:
"وهذا ما يَتَّفِق مع التجربة والعقل، فكُلَّما زاد الخيال قلَّ الاستعداد لمعرفة الأشياء بالذِّهن الخاص، وعلى العكس من ذلك نَجِد أنّ مَن يَتفوَّقون في الذّهن ويحرِصون على تنميته تكون قُدرتُهم على التَّخيُّل أكثر اعتدالًا وأقلَّ انطلاقًا، وكأنّها حبيسةٌ حتى لا تختلِط بالذهن"(11).
إنّ الطّابع الذّاتي والتّخيُّلي، المتغيِّر واللّامعرفي للنّبوّة، في مفهوم سبينوزا، له تأثيرات مهمّة على جمهور النّبيّ. إذ أنّ مجال عمله محدود جدّا، وسلطته لا تمتدّ إلاّ للمسائل الأخلاقيّة، وللطّريقة التي نبحث بها للحصول على مكاسِب وممتلكات مختلفة، وكيف نُنظِّم المجتمع، وكيف نُعامِل البشر الآخرين:
"[...] إن الأنبياء كان يُمكن أن يَجهلوا، بل وجَهِلوا بالفعل، تلك الموضوعات النّظرية الخالِصة التي لا تتعلَّق بالإحسان وبالحياة العملية. وأخيرًا إنَّ آراء الأنبياء كانت مُتعارِضة فيما بينها؛ لذلك، فلا جدوى على الإطلاق من أن نلتمس لدَيهم معرفة بالأشياء الطبيعية والرُّوحية. والنّتيجة التي ننتهي إليها إذن، هي أنّنا لَسْنا مُلزَمين بالإيمان بالأنبياء إلَّا فيما يتعلَّق بغاية الوحي وجوهره، أمّا فيما عدا ذلك فيستطيع كلُّ فردٍ أن يُؤمِن بما يشاء بحُريَّة تامَّة"(12).
عندما يتحدّث النبيّ عن العدل وعن المحبّة، فهو يَعِي ما يقول ويجب أن نستمِع له بكلّ اهتمام (بالرّغم من أنّه، على عكس الفيلسوف، غير قادر على تقديم براهين لهذه الحقائق التي يصرّح بها). ولكن ليس له أيّ حقٍّ مشروع يُحتِّم علينا طاعَته حينما يتعلّق الأمر بمواضيع أخرى مختلفة.
الفصول الأولى للرّسالة في اللّاهوت والسّياسة والتي تتناول مسألة النّبوّة تقترب كثيرا من الهدف الأساسي الذي ينشده سبينوزا في مُؤَلَّفه: التّدليل على استقلاليّة المسائل العقليّة عن الشّؤون الدّينيّة، والدّفاع عن حرّية التّفلسُف ضدّ كلّ تدخُّل سياسي وديني. وهذه الفصول تسمح للعناصر المتبقّية من برهَنتِه أن تأخذ مكانها كلِّيّة، من جهةِ أنّ هذه العناصر هي عبارة على شرح جريء لأصول الكتب المقدّسة والطّريقة الصّحيحة التي يجب تأويلها بها، وكذلك إقامة الفارق بين "الدّين الحقّ" ومجرّد أداء الفرائض والشّعائر، وكذلك قراءته للعِبر التي يجب استخلاصها من التّاريخ الإسرائيلي بالنّسبة للسّاحة السّياسيّة المعاصِرة في هولندا آنذاك، والبرهَنة التي يقدِّمها من أجل تسامح واسع والسّهر عليه من طرف الدّولة فيما يخصّ الممارسات الدّينيّة العامّة. إنّ الكتابات النّبويّة، بما فيها توراة موسى، كانت في قلب الكتب المقدّسة ومصدرَ سلطتها عبر العصور. فمن خلال إظهاره أنّ الأفكار الواردة في هذه الكتابات هي حصريّا أفكار أخلاقيّة، وأنّ القصص التي ترويها هي من محض الخيال وليست من نتاج العقل، يكون سبينوزا قد ابتَكر أداة من الطّراز الأوّل تسمح بزعزعة رقابة الإكليروس على حياة النّاس العامّة والخاصّة.
صحيح أنّ النّبوّة تشير إلى الطّريق المؤدّي إلى ما يسمّيه سبينوزا "الخلاص"، أي الطّريق نحو الفضيلة، والسّعادة ورخاء العيش في هذا العالَم بالذّات. ومن هذه الجهة، فإنّ دروس الأنبياء لها قيمة هامّة، ولكنّها موجّهة بصفة رئيسيّة للعامّة من النّاس الذين هم غير قادرين، لعدم تلقّيهم دروسا فلسفيّة، على اتّباع مسار عقليّ أكثر صعوبة نحو ازدهار الذّات البشريّة.
بالفعل، ربّما تحثّ حكايات الأنبياء البسيطة والشيّقة النّاسَ أن يتقيّدوا بسهولة أكبر، على الأقلّ ظاهريّا، لشروط العدل والمحبّة، وبهذا المعنى تكون قيمة هذه الشّروط حصريّا شروطا عمليّة. يؤكِّد سبينوزا على أنّ غاية الكتابات النبويّة هي الطّاعة: الوصول بالنّاس إلى اتّباع سلوك أخلاقيّ ملائم. وهذا السّلوك يمكن بطبيعة الحال أن يجد له أسُساً أعمَق وأكثر ثباتاً في المعرفة العقليّة، والتوصّل إلى بعض الحقائق الفلسفيّة عن الرّب، عن الطّبيعة والكائنات البشريّة، وفي مقدّمتها تلك الحقائق التي نجدها في الفرضيّات المرتَّبة في كتاب الأخلاق. فحتّى وإن لم يكن هذا الإدراك موجودا في نصوص البيْبل النّبويّة، فهو غير ضروري لكي تنجح هذه النّصوص في إلهام النّاس سلوكا حسنا. إنّ بعض القصص الخياليّة تَظهَر أحيانا أكثر فعّاليّة من سلسلة من الحقائق الفلسفيّة حتّى ولو كانت مُبَرهَة بشكل صارم.
(يتبع)
-------------------
هوامش
(1) الرّسالة، ترجمة حنفي، ص 125.
(2) نفوخلاس المصدر، بتصرُّف، ص 130.
(3) نفس المصدر، ص 130.
(4) نفس المصدر، ص 131.
(5) نفس المصدر، بتصرّف، ص 140.
(6) نفس المصدر، ص 149.
(7) نفس المصدر، بتصرّف، ص 156.
(8) نفس المصدر، بتصرّف، ص 149.
(9) نفس المصدر، ص 164.
(10) نفس المصدر، بتصرّف، ص 147.
(11) نفس المصدر، ص 152.
(12) نفس المصدر، ص 173.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أسامة بن لادن.. 13 عاما على مقتله


.. حديث السوشال | من بينها المسجد النبوي.. سيول شديدة تضرب مناط




.. 102-Al-Baqarah


.. 103-Al-Baqarah




.. 104-Al-Baqarah