الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الأستاذ بين المحافظة والثورة

علاء الشرقاوي

2022 / 2 / 19
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


أخصص هذا المقال لتناول فكر وأسلوب عبدالله النديم خطيب الثورة العرابية وقت إصداره لجريدة الأستاذ عقب عودته من منفاه الأول في يافا عام ١٨٩٢ مع التركيز على مسألة المرأة عنده في ذلك الوقت.
وتناول الأمر هنا يلزمنا بالتعرض أولًا إلى النديم و شخصه ودوره في الحركة الوطنية المصرية، و حال المجتمع المصري وقت أن أصدر النديم جريدته. بالإضافة إلى خطه في تحرير جريدته حتى نصل إلى أمر المرأة ورؤيته إليها وطبيعة موقفه منها.

ولد النديم في عام ١٨٤٣ وكان إبنًا لخباز سكندري فعاش في طفولته حياة الفقر، وارتبط منذ نعومة أظافره بحياة السواد الأكبر من الشعب المصري. وتلقى تعليمًا دينيًا حيث أتم حفظ القرآن في عمر التسع سنوات ليلتحق بعد ذلك بالجامع اﻷنور ومن خلاله بدأ إهتمامه بالأدب، وهو الإهتمام الذي دفعه إلى التمرد في مراهقته على جمود التعليم الديني فيخرج إلى الحياة الواقعية ويزداد إختلاطه بالسواد الأعظم من أبناء الشعب المصري خصوصًا في الريف، ليبدأ بعد ذلك في تعلم مهنة التلغراف لتصبح مهنته وبها ينتقل للعمل في القاهرة في قصر الوالدة باشا (والدة الخديو إسماعيل)، ليزداد هنا إدراكه للفارق الضخم بين حياة الشعب المصري وحياة العائلة الخديوية وبطانتها من الأرستقراطية التركية (الإقطاعيون الأتراك). وفي القاهرة يلتقي النديم بالأفغاني ويصبح أحد الملتفين حوله في مقهى متاتيا، الأمر الذي جر عليه اللعنة في عمله نظرًا لإزعاج أفكار الأفغاني الثورية للأرستقراطية التركية والعائلة الخديوية.
فعاد النديم مجددًا إلى الإختلاط بالناس و إلى حياة الواقع، حتى عاد إلى الإسكندرية في نهاية المطاف ليساهم في تحرير جريدتي مصر والتجارة في أعقاب طرد توفيق لأديب إسحق، وبقي محررًا لهما حتى استقدم سليم النقاش محرران شاميان للعمل، فذهب النديم إلى إصدار جريدته الخاصة والتي حملت اسم ’’التنكيت والتبكيت‘‘، وهي الجريدة التي استمرت على نهج الصحف الوطنية التي هاجمت وجود النفوذ الأجنبي وإستبداد الأرستقراطية التركية وعبرت عن آراء وتطلعات البرجوازية المصرية، ولكن إختلفت التنكيت والتبكيت عن أغلب هذه الجرائد في توجهها إلى الفئات الأوسع من الشعب والحديث بلغتهم ومحتواها الفكاهي فتشابهت كثيرًا مع جرائد يعقوب صنوع التي كان يصدرها من فرنسا آنذاك.
في الوقت نفسه، أسس النديم جمعية خيرية تحت اسم ’’المقاصد الخيرية الإسلامية‘‘ والتي توجه نشاطها الأساسي إلى دعم تعليم فقراء المصريين مع ربط تعليمهم بالحركة الوطنية وبرؤى البرجوازية المصرية.
ومع تأزم الأوضاع وإنفجار الأحداث بمظاهرة عابدين في ٩ سبتمبر ١٨٨١، يرتبط النديم بالثوار العسكريين الذين وجدوا فيه معبرًا عن أفكارهم ورؤيتهم وقادرًا على الربط بينهم وبين الفئة الأوسع من الشعب، فإنتهى أمر التنكيت والتبكيت ليتم إستبدالها بجريدة الطائف والتي جاء محتواها سياسيًا تمامًا بالإضافة إلى نشاط النديم في المحافل الخطابية المؤيدة للثورة وجمعه للتوقيعات على عرائض تأييد عرابي.
ومن دون الغرق في تفاصيل الثورة العرابية ودور النديم فيها، يجب تحديد طبيعة هذه الثورة ودور النديم فيها، فوفقًا للتحليل المادي التاريخي الذي قدمه صلاح عيسى: كانت الثورة العرابية ثورة البرجوازية المصرية للحفاظ على الثروة المحلية من تسربها إلى الخارج، و للتخلص من الإستبداد التركي وتحقيق الحريات والديمقراطية على النمط الأوروبي (الفرنسي تحديدًا وهو الذي تأثر به المثقفون البرجوازيون منذ أيام الطهطاوي). وقد مثل النديم في هذه الثورة جناحها الراديكالي المتشدد وهو الذي دفع البعض إلى تصويره بأنه كان إشتراكيًا أو تعبيرًا عن تيار اشتراكي تبلور في مصر في ذلك الوقت.
ومع هزيمة الثورة العرابية عسكريًا ووقوع الإحتلال، يهرب النديم إلى الريف للإحتماء بالشعب مدة تسع سنوات كاملة حتى تم القبض عليه، وأمر هروبه هذا يمكن أن نقول عنه ملحمة أخيرة للثورة العرابية.
وفي أثناء إختفاء النديم، كان الإحتلال يتوغل في كل شئ، فيلغي الدستور و البرلمان ويستأصل أي أثر للثورة البرجوازية أو رأي متعاطف معها، كما توغل في المؤسسات الحكومية المختلفة عبر مستشارين من أصحاب النصائح المُلزمة لأصحاب الأمر في هذه المؤسسات وهو ما أطلق عليه كرومر ’’نحن لا نحكم مصر وإنما نحكم من يحكمون مصر‘‘. والأمر لم ينتهي عند هذا الحد بالطبع، إذ ساهم الإحتلال في بقاء مصر بلدًا زراعيًا وحارب بشدة أي محاولة للتصنيع، وذلك بهدف أن تكون مصر أحد مصادر المادة الخام الممثلة في القطن لمصانع النسيج الإنجليزية، كما حارب زراعة التبغ من أجل أن يبقى الإعتماد المحلي على التبغ المستورد وما كان يدره من دخل للجمارك التي تخصص دخلها لسداد الديون، ناهيك عن محاربته للدعم الحكومي للتعليم المدني وإغلاق المدارس وفرض مناهج تعليمية على النمط الإنجليزي، هذا بالإضافة لفتح الإحتلال الباب على مصراعيه للأجانب الوافدين إلى مصر بوصفهم مساهمين في عملية ’’تمدين‘‘ الشعب المصري، واستخدم عدد من الأبواق الدعائية لنشر أفكاره ورؤيته، وعلى رأس هذه الأبواق كانت جريدة المقطم التي نشرت واسعًا دعاية الإحتلال وفي القلب منها الدعاية الخاصة بالـ’’تفوق العرقي‘‘ للأوروبيين والتخلف الأبدي للشعوب الشرقية، ونشروا فكرة لا معقولية قيام الصناعة في بلاد المشرق والمستعمرات وادعو ألا بديل عن السيطرة الأوروبية على الشرقيين كطريق وحيد للتمدن.
كل ذلك أثر أشد الأثر على الشعب المصري في ذلك الوقت، إذ إنتشرت حالة اليأس في صفوف المصريين جراء هزيمة الجيش أولًا، وسياسة الإحتلال ودعايته التي نشرها، فحدث ما هو أشبه بإنسحاب جماعي من الحياة العامة لقطاع كبير من الناس الذين دخلوا فيها إبان الثورة العرابية ومع مد الحركة الوطنية، في الوقت نفسه إزداد معدل الجرائم في المجتمع المصري زيادة ملحوظة، كما إتجه قطاع آخر إلى الإنغماس في الملذات تعبيرًا عن حالة من الإحباط حينًا و رغبة في إتباع الغالب الغازي في عاداته حينًا آخر، فحتى الذوبان شوقًا إلى الثورة الذي تحدث عنه كرومر في وصفه لمصر في ذلك الوقت كان خامدًا تحت تأثير الإحباط وهو الأمر الذي دفع البعض إلى إصدار الشائعات عن مصير المجهولة مصائرهم من الثوار العرابيين مثل النديم الذي ظهرت شائعة عنه تقول بأنه هرب إلى إسطنبول ليجهز هناك جيشًا بمعاونة السلطان لتحرير مصر أو الشائعات الخاصة ببقاء محمد عبيد على قيد الحياة وهربه إلى الصعيد الخ. في تلك الأثناء أيضًا كانت الأرستقراطية التركية أخذت تستشيط غضبًا من الإحتلال ولعل هذا هو سبب تعامل توفيق اللين مع النديم عند القبض عليه والإكتفاء بنفيه مع دفع مبلغ مالي ليستعين به على نفيه.
على كل حال، تولى عباس حلمي الثاني خلفًا لتوفيق مع مطلع عام ١٨٩٢ في الظروف التي ذكرناها خصوصًا الإستبداد الإنجليزي بالأمور وإزعاجه للأتراك الذين تسامحوا (ولو في حدود) مع الوطنيين المصريين، فكان العفو عن النديم بداية أعمال الخديوي الذي ذكر في مذكراته أنه عند توليه الحكم كانت مبادئ الثورة العرابية ذات القوة والتأثير الأكبر بين المصريين، فكان الاتصال بالنديم الذي ربط هذه الحركة بالسواد الأعظم من الشعب هو الوسيلة الطبيعية لربط الحاكم الجديد بشعبه وسط هذه التحديات.
عاد النديم إلى مصر في مارس ١٨٩٢ على أساس من عدم خوضه في السياسة، فكان طبيعيًا أن يواجه الأمر بحركة التفاف فاستصدر ترخيص الجريدة باسم أخيه بوصفه صاحب الجريدة على أن يكون تحريرها من إختصاص النديم. ولإستكمال أمر الإلتفاف، حدد النديم وصف الجريدة بأنها ’’جريدة علمية تهذيبية فكاهية‘‘ مع التأكيد على عدم تعرضها للسياسة وهو ما حاول النديم في العدد الأول على وجه التحديد التأكيد عليه بصرامة ربما لإحباط أي تخوف من إشعاله الثورة مجددًا.
ومع ذلك، كانت جريدة الأستاذ تشتبك مع أمور السياسة بشكل ملحوظ:
فواجه بصرامة دعاية الاحتلال الخاصة بوجود طباع شرقية خاصة (عرقية) هي المعيقة لعملية التحديث والتحضر من دون إرشادات وتوجيهات أوربية وهو ما يجعل الإحتلال حتميًا للشعوب الشرقية البربرية، فذكر في غير مقال له وقوع أكثر من دولة أوروبية بما فيهم إنجلترا نفسها ، كما اقتطف من التاريخ العربي سواء قبل الإسلام أو بعده ما أكد به على وجود حضارة عربية أحرزت تقدمًا واسعًا في مجالات مختلفة ليؤكد أن التطور نتاج ظروف موضوعية يمكن التحكم بها وتغيرها لا أمرًا يتحقق لشعب أو عرق دون الآخر. كما هاجم النديم كذلك ابتعاد البرجوازيين المصريين (أصحاب الثروة) عن تشجيع الصناعة والتجارة الوطنيتين فدعى أصحاب الثروات إلى دعم قيام المشروعات الحرفية وتنميتها لتتمكن من منافسة البضائع الأجنبية المستوردة إعتمادًا على أن الاستقلال الاقتصادي يمثل عماد التمدن. وذلك في الوقت الذي اشتد في مهاجمة إنتشار الخمور والحشيش في المجتمع المصري وإقبال قطاع كبير من المصريين عليهم، وذلك على أساس من أن قطاع ممن انغمسوا في شرب الخمر آنذاك قد فعلوا ذلك من باب التقليد الأعمى لكل ما ارتبط بالأجانب من عادات بغض النظر عن الفائدة أو الضرر في إطار الإستسلام والشعور بالهزيمة أو أن التقليد في المظاهر هو المحقق للتمدن المنشود في نهاية الأمر (مثلما إنتقد النديم إنتشار المفردات الأجنبية في العامية المصرية بوصفه إنبطاحًا أمام الإحتلال)، فحتى لما اتخذت مهاجمته للخمور والحشيش شكلًا دينيًا ومحافظًا لم يكن المقصود بذلك فرض رؤية محافظة وإنما كان ذلك في الواقع جزءًا من عملية محاربة اليأس الذي انتشر بين المصريين وكذلك إرتباط الحانات الجديدة التي ظهرت في ذلك الوقت بالنشاط الاقتصادي الأجنبي وهو ما عبر عنه النديم في العدد السابع عندما انتقده أحد القراء في رسالة نشرها في الصفحة الأولى للعدد إذ ينتقد القارئ النديم لفضحه أخبار متعاطي الخمور مما يسئ لسمعة المصريين أمام الأجانب فجاء رد النديم عليه بأنه لو كان الأمر يتم في الحانات المحلية لكان مقبولًا ولكنه يتم في حانات الأجانب، مما يشير إلى أن النديم اتخذ الطابع الديني في هجومه عليهم في المظهر بينما الأمر كانت له أبعاد أخرى تظهر عند دراسة فكر النديم وربطه بسياق حركة البرجوازية المصرية في ذلك الوقت.
في الوقت نفسه، انتقد النديم انتشار التعليم الأجنبي في مصر على أساس من أن هذا التعليم إنما يؤدي إلى نشأة فئة من المصريين ’’المتفرنجين‘‘ (الذين وصفهم كرومر فيما بعد بأنهم مصريون إنجليز)، المنتمين في واقع الأمر إلى الأجانب من خلال الثقافة التي تربوا عليها في مدارسهم، فدعى لإستبدال ذلك بتعليم أهلي تقوم البرجوازية المصرية بتمويله يحافظ على التماسك الداخلي للمجتمع المصري ويربط التلاميذ بهموم وطنهم.
لنصل إلى نقطة مسألة المرأة عند النديم، ولبيان الأمر نجد أن ذكر المرأة في مقالات النديم جاء أولًا في المقالات العامية التي هاجمت إنتشار الخمور في المجتمع المصري على شكل من النصح وبيان تأثير إدمان الرجال من أرباب الأسر والعائلات للخمور على أحوال أسرهم.
لنجده ثانيًا في مقالات باب ’’مدرسة البنات‘‘.
وثالثًا، في إجابة سؤال وجهته إليه إحدى القارئات عن المساواة بين المرأة والرجل.
ولبيان فكر النديم بخصوص المرأة نستعرض أولًا نقطة السؤال، ثم نقطة باب مدرسة البنات.
ففي مسألة السؤال، نشر النديم في العدد الخامس للجريدة الصادر في ٢٠ سبتمبر ١٨٩٢ سؤالًا وصل إليه من سيدة تدعى زينب فواز ذكرت فيه الجدال الدائر منذ سنوات آنذاك حول مساواة المرأة للرجل عقلًا وذكاءً وقدرة على العمل، إلا أن سؤالها كان حول أيهما أشد تعبًا في الحياة الرجال في أعمالهم المختلفة أم المرأة في العمل المنزلي أساسًا والذي يتحول أحيانًا إلى مساعدة للرجل في عمله.
وجاء رد النديم طويلًا فقسمه بين العدد نفسه والعدد السابع، وبدأه بعدم صحة التساؤل عن المرأة في المطلق، حيث أن حياة المرأة تختلف باختلاف الطبقة الاجتماعية التي تنتمي إليها، فحدد ٣ طبقات اجتماعية وهي:
١ المرأة الفقيرة في الريف والمدن.
٢ المرأة المتوسطة (إمرأة الشرائح الوسطى والعليا من البرجوازية الصغيرة).
٣ المرأة الغنية (البرجوازية والارستقراطية).
ليبدأ في عرض حياة إمرأة كل طبقة من الطبقات الثلاث. ففقيرة الريف حياتها أكثر مشقة من حياة الرجل الريفي، بينما فقيرة المدينة تساوي الرجل الذي لا لا يعمل في مهن شاقة مثل الحدادة، بينما المتوسطة هي الأقل شقاءًا والغنية لا عمل لها إطلاقًا، بينما تشترك النساء في الطبقات الثلاث في الحمل والولادة فالغنية لا تشقى إلا في حملها وولادتها ولا مسئولية عليها بعد ذلك. ليصل النديم بعد ذلك إلى نتيجة أن دعاوى النساء الغنية بمساواة الرجال أمر غير مقبول لعدم عملهن، إذ يُحدد النديم المساهمة في الحياة العامة والعمل كمعيار يمكن على أساسه الحديث حول مساواة المرأة للرجل مع رفضه للحديث حول مساواة مطلقة. وهي رؤية سليمة فعلًا إلا أنها ناقصة من حيث عدم نظره إلى رجال هذه الطبقات خصوصًا الوسطى والأغنياء ليجد أن حياة المرأة في تلك الطبقات لا تختلف عن حياة رجال هذه الطبقات.

أما مقالات باب مدرسة البنات، فهي خمس مقالات منشورة بين العددين الحادي عشر والسابع عشر، جاءت في إطار ما أسماه النديم ’’تهذيب المرأة‘‘ بجانب تهذيب الرجال الذي كان ينشر مقالات خاصة به في الوقت ذاته، فهاجم في المقال الأول المنشور تحت عنوان ’’زاكية ونفيسة‘‘المدارس الأجنبية (مدارس الإرساليات) التي إزداد إنتشارها آنذاك وزاد توجه البرجوازيين المصريين إليها لتعليم أبنائهم وبناتهم فيها على أساس من الدعوة إلى المحافظة على اﻷوضاع القائمة آنذاك وما تمارسه هذه المدارس من إبعاد خريجيها عن مجتمعاتهم، فلا معنى لتعليم الفتيات اللغات الأجنبية بينما لا يُسمح لهن بالخروج إلى سوق العمل، فهو هجوم قائم على أساس مهاجمة ’’الحداثة التابعة‘‘ التي كانت تشهدها مصر في ذلك الوقت، بينما لا تلتفت هذه المدارس إلى تعليم الفتيات ما يرتبط بحياتهن الواقعية. وفي الواقع، لا يمكن قراءة هذا النقد بمعزل عن النقد الذي وجهه إلى نظام التعليم عمومًا سواء مدارس الإرساليات للبنين والمدارس الحكومية والتعليم الديني (الأزهري) أيضًا، وذلك على أساس من أن نظم التعليم المختلفة إما تبعد تلامذتها عن مجريات الأمور أو تخلو من ’’الروح القومية‘‘ في مناهجها أو جمود التعليم الديني وتخريجه فقهاء غير عالمين بحياة الواقع خارج المساجد. فالتعليم الأجنبي يربط التلامذة من بنين وبنات بعجلة الإستعمار وسياساته، فالأمر أبعد من إنتقاد المدارس على أساس من تعليمها الرقص والموسيقى للفتيات. لتكن هذه بداية باب مدرسة البنات الذي خصصه أساسًا للحديث عن مسائل التدبير المنزلي ذو المسحة الدينية، ونلمس في هذا الباب مزيدًا من الدعوة إلى المحافظة في أمر المرأة، من ذلك رفضه خروج المرأة أو النصائح التي حددها على للسان سيدة تسكن في المدينة إلى منتقلة حديثًا من إحدى القرى وعن العادات التي يجب مراعاتها مع زوجها في المدينة بعد ترك الريف الأكثر إنفتاحًا للمرأة من المدن (وهي مقالات حملت لنا صورًا عن الحياة الإجتماعية في مصر في ذلك الوقت)، إلا أن تلك المقالات والرؤى لا يمكن التعرض لها من دون إلمام بواقع الحياة في وقتها وطبيعة دعوات ورؤى الإحتلال وأنصاره من خلال ما نشروه وعبروا عنه. اﻷامر الذي تطلب أن تأخذ حركة مقاومة الإحتلال شكلًا محافظا، ومن المهم هنا الإنتباه إلى رأي الباحثة الأمريكية ليندا هيريرا عن أن هذه الإرشادات الخاصة بالتدبير المنزلي التي نشرها النديم في هذا الباب كانت خطوة أولى في سبيل الدعوة إلى المساواة بين المرأة والرجل، ونجد في هذا الباب أيضًا دعوة واضحة إلى التسامح الديني والوحدة الوطنية.

ختامًا، نصل مما سبق إلى أن النديم كان ملتزمًا بالخط الأساسي للثورة العرابية في دعواته التي نشرها على صفحات جريدة الأستاذ حتى وإن اتبع أسلوبًا محافظًا مختلفًا عما كان عليه إبان الثورة العرابية فحتى وإن أظهر رؤى دينية متزمتة لعرض أفكاره إلا أن الهدف كان إيجاد طريقًا مستقلًا للتحديث.
ومسألة المرأة إهتم بها النديم لرؤيته إليها أنها قوة أساسية في المجتمع المصري آنذاك وصاحبة مسؤولية كبرى خصوصًا المرأة الفقيرة، فدعى إلى تعليمها تعليمًا مرتبطًا بمجريات اﻷمور في المجتمع وطبيعة حياتها مثلما فعل في باب مدرسة البنين، كما استخدم صوتها في مهاجمة إنتشار الخمور في المجتمع كجزء من عملية نقد تسرب الثروة المحلية إلى الأجانب. إلا أن النقطة اﻷاهم والجديرة بالإنتباه إليها هي مسألة المساواة بين الرجال والنساء التي ربطها بالمشاركة في الحياة الواقعية وإن إنتقدناه على أساس من عدم ربطه لأسلوب حياة المرأة في الطبقات الثلاث مع رجال الطبقات الثلاث من حيث أن حياة المرأة في هذه الطبقات جاءت مماثلة لحياة رجال هذه الطبقات، إلا أنه لا يُمكننا إنكار تقدمية هذا الرأي التي تخطت حدود المرتبطين بالثقافة الأجنبية من تقدميي ذلك الوقت مثل شبلي شميل الذي أعلن رفضه للمساواة بين المرأة والرجل إستنادًا إلى الفروق البيلوجية وما صرح به العلماء الأوروبيين من وجود معوقات مطلقة لا يمكن تجاوزها للمساواة بين المرأة والرجل (تمامًا كرأي الرجعية الدينية في زماننا هذ)، وحتى قطاع كبير من الحركة النسوية في زماننا والتي تعتبر المرأة كل واحد لا ينفصل فلا حتى تنتبه لإختلاف المصالح إستنادًا إلى الإنقسام الطبقي أو تدعي عدم إرتباط تحرر المرأة بمصالح طبقة إجتماعية معينة أو بوصفه جزءًا من كل متكامل.
فالنديم وإن إتخذ وجها محافظًا، ولكن عكست محافظته ثوريته التي كانت غير ممكنة في واقع الأمر نتيجة الظروف الموضوعية في مصر آنذاك.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. قطر تلوح بإغلاق مكاتب حماس في الدوحة.. وتراجع دورها في وساطة


.. الاحتجاجات في الجامعات الأميركية على حرب غزة.. التظاهرات تنت




.. مسيرة في تل أبيب تطالب بإسقاط حكومة نتنياهو وعقد صفقة تبادل


.. السيناتور ساندرز: حان الوقت لإعادة التفكير في قرار دعم أمريك




.. النزوح السوري في لبنان.. تشكيك بهدف المساعدات الأوروبية| #ال