الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


كتاب صُنِع في الجحيم(11)

ناصر بن رجب

2022 / 2 / 19
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


محنة سبينوزا ونشأة العَصر العَلماني



المعجزات
(تابع 1)

في إحدى كتاباته الأولى، "أفكار ميتافيزيقيّة"، نُشِرت ضمن كتابه "مبادئ فلسفة ديكارت" عام 1663 وتحت اسمِه، يُقدِّم سبينوزا نُبْذة عن تصوّره الأكثر نضجا عن المعجزات، وذلك بالرّغم من أنّه كان حذِرا في عدم عرض أطروحاته بصورة صريحة فوق اللّزوم:
"هناك قُوّتَان في الرّب، إحداهما عاديّة، والأخرى خارقة للعادة. والقوّة العاديّة هي تلك التي يحافظ بها الرّب على العالَم في نظام محدَّد؛ أمّا الخارقة للعادة، فهي تلك التي يستخدمها عندما يأتي عمَلاً خارجَ نظام الطّبيعة، كإتيانه على سبيل المثال جميع المعجزات على غرار ما فعَله مع أَتانِ بِلْعام عندما فتح فاها وأنطقها: "ماذا صنَعْتُ بكَ حتّى ضربتَني ثلاث مرّات؟" (سفر العدد: 22، 28)، وظهور الملائكة ومعجزات أخرى مشابهة.
مع أنّه يجوز لنا أن نشكّ بحقٍّ في هذه القدرة الأخيرة، لأنّ المعجزة تكون أعظم لو كان الرّب يحكم العالَم وفق نظام واحد محدَّد وثابِت، ممّا لو كان يُلْغي، بسبب رعونة البشر، تلك القوانين التي وضعها بنفسه في الطّبيعة الطّابعة بكلّ امتياز وبحرّيته فقط لا غير (وهذا ما لا يمكن أن يُنكِره أحد سوى مَن عَمِيَت بصيرته تماما). لكنّنا نترك للّاهوتيّين البتّ في هذه المسألة(1).
فالمعجزات إذاً، وفي أحسن الحالات، مشكوكٌ فيها ولا تشكّل إلاّ حجّة ضعيفة على قدرة الرّب، ولكنّ سبينوزا لا يقول لنا ما إذا كانت مُمكِنة أم لا.
بعد مضيّ بضع سنوات، وفي رسالته حول اللّاهوت والسّياسة، نرى سبينوزا يخلع عنه الحيطة والحذر ويؤكِّد حينها بكلّ جرأة أنّ المعجزات في معناها التّقليدي ما هي إلاّ مجرّد "هُراء"، والإعتقاد في حدوثها هو محض "هوس وجنون" ليس إلاّ. فهي ليست فقط عديمة الفائدة بل بالأحرى مخالفة للتّقوى الدّينيّة الصّحيحة، وهي كذلك لا تتوافق مع طبيعة الرّب الحقيقيّة والتّصوّر الميتافيزيقي السّليم للكون. إنّ قصص المعجزات ما هي إلاّ أدوات سهلة ومريحة استعملها رجال الدّين منذ أمَد طويل للتّلاعب بسذاجة العامّة وحماقتهم. فلمزيدِ إحكام سلطتهم، يرفع الوعّاظ الكتب المقدّسة، ببحارها التي تنفلِق، وأحمِرتها التي تتكلّم، وموتاها الذين يعودون إلى الحياة من جديد، وذلك لكي يتمكّنوا من مراقبة الحياة الرّوحيّة للبشر ليس فحسب، بل أيضا المجتمع المدني برمّته. إنّ هجوم سبينوزا على الاعتقاد في المعجزات يمثّل إذاً عنصرا هامّا من عناصر مشروعه اللّاهوتي السّياسي العام.
يقول سبينوزا إنّ المعجزة تقع، بالنّسبة لـ"العامّي"، عندما "تتوقّف الطّبيعة عن العمَل [...] أو عندما يتعطّل مجراها لوهلة من الزّمن". وهذا الحدث لا يقع عن طريق عِلَل طبيعيّة، ولكن بفضل تدخُّل خارق للطّبيعة. فهو يمثّل فِعْلَ ربّ مفارِق، "مُشرِّع وحاكِم"، يتمتّع بصفات بسيكولوجيّة وأخلاقيّة للقدرة، والحكْمة، والعدل، والرّحمة. وحسب هذا التصوّر المشوَّش والخيالي، فإنّ مثل هذه الآلهة، وبعدما خلقت العالم من عدم، تقوم بتعلِّق أفعالها من فينة إلى أخرى لتحقيق غاية إلهيّة:
"وعلى ذلك فهم يتخيَّلون قُدرتَيْن مُتميِّزَتَيْن كلاًّ من الأخرى من حيث العدد: قُدرة الله وقدرة الأشياء الطبيعية. وإن كانت هذه الأخيرة مع ذلك تخضع على نحوٍ مّا لتحكُّم الله أو مخلوقة بوساطته (كما يفضل أكثر الناس الاعتقاد الآن). أما المقصود بهذه القدرة أو تلك، والمقصود بالله فلا يعرفون شيئًا سوى أنهم يتخيَّلون قُدرة الله كقُدرة الملك المُعظَّم، وقُدرة الطبيعة كقوَّةٍ غاشمة. يُسمِّي العامَّة إذن حوادث الطبيعة الخارقة للعادة مُعجزات أو أعمال الله، وهم يُفضِّلون أن يجهلوا العِلَل الطبيعية للأشياء، ولا يَودُّون إلَّا الحديث عما يَجهلونه تمام الجهل"(2).
والنّاس عموما يعتبرون هذا المَسْلك على أنّه مسلكُ الورع الحقيقي والأقدر على أن يبلغ بهم مرتبة رفيعة من خشية الرّب:
"وهذا يَرجِع إلى أنه ليس هناك في نظر العامّي ما يدعو إلى عبادة الله وإرجاع كلِّ شيءٍ إلى قُدرته وإرادته، إلَّا بقَدْر إلغائنا للعِلَل الطبيعية وتَصوُّرنا لأشياء تعلو على نظام الطبيعة. ولا تبدو له قدرة الله أحقَّ ما تكون بالإعجاب إلَّا إذا تصوَّر قُدرة الطبيعة وكأنَّها مغلولة بقدرة الرّب"(3).
في الواقع، يُلِحّ سبنوزا، على أنّ العامّي، أي النّاس العاديّين الذين يفكِّرون بهذه الطّريقة، "يخلِط بين أوامر الله وأوامر البشر، ويتخيَّل الطبيعة محدودة إلى درجة أنَّهُ يتوهَّم أن الإنسان هو الجزء الرئيس فيها!"(4). فأيّ إنسان يتمتّع بإدراك حقيقي يعرف أنّه من المستحيل إطلاقا لحادِث مّا أن يقع بانتهاك قوانين وسيرورات الطّبيعة، لا لأنّ الرّب، الموجود خارج الطّبيعة، يكون عاجزا على خرْق نظامه هو، ولكن لأنّ هذا النّظام بالضّبط هو التّعبير الوحيد عن قدرة الرّب.
إنّ حجّة سبينوزا الأساسيّة ضدّ المعجزات التي ضمّها في الرّسالة لا تفترِض مُسبَقاً القَبول بمفهومه الفلسفي "الرّب أو الطّبيعة" (Deus sive Natura). فهو يبدأ بتأكيد أنّ ما يفهمه الرّب، الكائن الأزلي والضّروري، بالحكمة الإلهيّة يقتضي "ضرورةً وحقيقةً أزلِيَّتيْن". ولكن ما دامت قدرة الرّب وذهنه هما شيئا واحدا وحيدا، فهذا ما يدعونا للقول أنّ الرّب يريد ذلك. ولهذا، فكلّ ما يريده الرّب يجب أيضا أن يقتضي الضّرورة والحقيقة الأزليّتيْن. إنّ مشيئة الرّب، تماما مثل حكمتِه، هي مشيئة أزليّة وثابتة. وهي لا تستطيع أن تتغيَّر، لأنّها "نفس الضّرورة التي تجعل الله وفقًا لطبيعته وكماله يتصوَّر شيئًا على ما هو عليه، تجعله أيضًا يُريده على ما هو عليه"(5). وبما أنّ كلّ ما هو حقيقي يكون حقيقيّا بالضّرورة بموجب أمر إلهي، "يترتَّب على ذلك بوضوحٍ تامٍّ أن القوانين العامَّة للطبيعة ليست إلَّا مُجرَّد أوامر إلهية تَصدُرعن ضرورة الطبيعة الإلهية وكمالها"(6). وبالتّالي، فإنّ حدوث أيّ شيئ يكون مناقضا لقوانين الطّبيعة، فإنّه يكون أيضا مناقضا لأوامر الرّب. بمعنى آخر، عندما يُحدِث الرّب معجزة خارقة للطّبيعة فإنّه يكون قد عمِل في تضادّ مع ذاته: "وإذن، فلو حدَث شيء في الكون يُناقِض قوانين الطّبيعة العامّة، كان هذا الشيء مُناقضًا أيضًا لأمر الله وعقله وطبيعته، وإلَّا فإنَّ المرء لو سَلَّم بأنَّ الله يفعل ما يُناقِض قوانين الطبيعة، لاضطرَّ إلى أن يُسلِّم بأنه يفعل ما يُناقِض طبيعته الخاصة، وهذا مُمتنِع كلَّ الامتناع"(7).
زيادة على ذلك، فإذا كانت المعجزات قد حدثت فعلاً، وسبنوزا يؤكّد على هذه النّقطة، فهي لم تكن شاهدة على قوّة الرّب اللّامتناهية والأزليّة، بل على العكس فهي تشهد على أوجُه قصوره وحتّى على عجزه وعدم قدرته. وبالفعل، فالنّظام الذي يستدعي تدخّلات من الخارج يكون بالضّرورة نظاما يفتقِر نوعا مّا للكمال، ويعكِس عدم كفاءة خالِقه أو انعدام بصيرته.
فالاعتقاد في المعجزات يتضمّن الاعتراف:
"بأنّ الرّب قد خلق الطّبيعة عاجزة وسنّ لها قوانين وقواعد عقيمة إلى حدٍّ يضطرُّ معه دائما إلى مساعدتها إذا أراد لها أن تظلَّ باقية، وتظلّ الأشياء تسير فيها حسب رغبته؛ وإنّي لأرى أنّ اعتقادا كهذا مُناقِض للعقل إلى أبعد ما يمكن أن يتصوّره الخيال"(8).
إنّ الطّبيعة، كما يصفها سبينوزا في الرّسالة، تحافظ أزليّا على "نظام ثابت لا يتغيّر"؛ وأنّ قوانينها تتضمّن وجود "ضرورة وحقيقة أزلِيَّتيْن"، أي أنّه لا يمكن خرقُهما. فكلّ ما يحدُث يَحدُث بالضّرورة حتّى وإن تَكُن تلك الضّرورة غير ظاهرة لنا دائما، وبالتّالي نحاول في بعض الأحيان البحث عن طوارئ تجري في الطّبيعة.
حتّى وإن كان سبينوزا يؤكِّد، دائما في الرّسالة، على أنّ قدرةَ وفضيلةَ الطّبيعة" هما نفسهما "قدرة وفضيلة الرّب"، وأنّ "قوانين وقواعد الطّبيعة" هي "أحكامُ الرّب الخاصّة به"، فإنّه يمتنع عن تفسير ما يعنيه كلّ ذلك بالتّحديد. وبما أنّ برهَنَتَه ضدّ المعجزات تُحيل إلى "مشيئة"، و"حكمة"، و"الأحكام" الإلهيّة، فإنّ كلّ هذا يبدو متلائما تماما مع صورة الرّب التّقليديّة. يحاول سبينوزا إقامة الدّليل على أنّ أتباع التصوّر التّجسيمي للرّب مهما بالغوا في تمسّكهم بهذا التصوّر يجب عليهم الإقرارُ بعدم إمكانيّة حدوث المعجزات ونُكرانُها. وحتّى في هذه الحالة فإنّ مفهوم "الرّب أو الطّبيعة" (Deus sive Natura)، يظلّ غير بعيد أبدا. ليس من الصّعب جدّا أن نرى خلف هذه التّأكيدات، التي تختفي بالكاد في الرّسالة، لاهوتا ميتافيزيقيّا ومفهوما "ضرورانيّا"(9) (necessitarian conception) لظواهر الطّبيعة. وهذه قضايا سيقدّمها سبينوزا ويدافع عنها بإسهاب في كتابه الأخلاق.
عند سبينوزا، وكما رأينا سابقا، الرّب والطّبيعة الطّابعة، باعتبارهما شيئا واحدا، يمثّلان بكلّ بساطة نظام الكون في شموليّته، نظام لا متناهٍ، أزليّ، ضروريّ الوجود، فاعل، يوجد فيه كلّ شيء بصفة مطلقة. تلك هي الركيزة الأساسيّة لكتاب الأخلاق، والتي نجدها في تأكيد الرّسالة على أنّ "قدرة الطّبيعة ليست شيئا آخر سوى قدرة الرّب ذاتها". نجد في كتاب الأخلاق أنّ العِلَل الأولى الضّروريّة والأزليّة لهذا الجوهر، وخاصّة العِلل الأولى لـ"صفاته" أو حالات كينونته (الفكر، التمدّد، إلخ)، هي المبادئ والقوانين التي تحكم وتسيّر كلّ الأشياء. وعلى سبيل المثال، إنّ قوانين الفيزياء، حسب صفة التمدّد، هي التي تتحكّم في حركة الأجسام. وينتُج عن هذه العِلل الأولى، بنفس ضرورة الرّب أو الطّبيعة الطّابعة، العالَمُ نفسه: سلسلة أزليّة ولامتناهيّة من أشياء متناهية وموجودة في زمن معيَّن (بمعنى آخر، سلسلة مأهولة بالأشياء المألوفة التي تحيط بنا)(10). وبما أنّ قوانين الطّبيعة وعالم الأشياء الموجودة تنتج بضروة مطلقة عن كائن أزليّ مطلق الضّرورة (الرّب أو الطّبيعة نفسها)، فإنّ العالَم وسلسلته الخاصّة من الأحداث لا يمكن أن تكون شيئا آخر بخلاف ما هي عليه.
بعبارات أخرى، الكَوْن عند سبينوزا هو حصريّا كوْن حتْمِيٌّ وحتّى ضرورانيّ. فكلّ شيء، وبدون استثناء، محدَّد بعلّته أن يكون كما هو كائن، ولا يوجد شيء، نظرا لعِلَلِه، بإمكانه أن يكون مخالفا لما هو عليه. بالإضافة إلى ذلك، ونظرا إلى أنّ العِلَل الأخيرة والعامّة أكثر (أي صفات الرّب أو الطّبيعة الطّابعة والقوانين الصّادرة عنها) التي تنجم عنها كلّ العِلل الأخرى وتوجَد بمحض ضرورة ميتافيزيقيّة أو منطقيّة مطلَقة، فإنّ سبينوزا يخلض إلى أنّه لا يوجد في الكوْن أيّ حادث، لا للكوْن في حدّ ذاته، ولا لأيّ شيء آخر يوجد فيه: "لا يوجد في طبيعة الكائنات شيء حادِث، بل كلّ الاشياء محدَّدة بضرورة الطّبيعة الإلهيّة كي تُوجَد وتفعَل على نجوٍ مّا"(11).
باختصار، العالَم الموجود، في نظر سبينوزا، هو أفضل عالَم يمكن أن يوجَد. فإذا كان من المستحيل إطلاقا على الرّب أن يُوجَد دون أن توجَد السّلاسل الخاصّة من الأشخاص وحالات الأشياء المتناهية التي يتألَّف منها العالَم، وإذا كان وجود الرّب (والطّبيعة الطّابعة) هو وجود ضروريّ في ذاته، كما يقول سبينوزا، إذاَ يكون هذا العالَم الوحيد الممكن الوجود. يبدو أنّ سبينوزا يتبنّى تماما هذه المقولة المدهِشة: "لم يكن بالإمكان أن تَنتُج الأشياء عن الرّب بطريقة أخرى وبنظام آخر غير الطّريقة والنّظام الّلذيْن نتجت بهما"(12). بإمكان عالَم آخر أن يوجَد، عالَم يكون فيه "نظام الطّبيعة" مختلِفاً وذلك فقط إذا كانت طبيعة الرّب، التي ينتج عنها نظام الأشياء هذا، طبيعةً مُغايِرَةً. ولكن، بما أنّ طبيعة الرّب ضروريّة في ذاتها ضرورة مطلَقة، فإنّ هذه الطّبيعة لا يمكن أن تكون مُغايِرة. وبناء على ذلك، فإنّ عالَم الأشياء، بما في ذلك تَتابُع الأحداث في مجرى الزّمن، وأيضا المواصفات الشّاملة للكوْن، يجب أن تكون كما هي كائنة ولا يمكنها أن تكون مغايِرة لما هي.
انطلاقا من كلّ هذا، يجب أن يكون واضحا أيضا، في كتاب الأخلاق، أنّ سبينوزا ينكر أن يكون قد حدث شيء يُشبِه "خَلْق" العالَم، إذا قصدنا من وراء ذلك أنّ الرّب كان موجودا قبل أن يَخلِق العالَم من عَدَم، بداية من حالة سابقة من عدم الوجود، وأنّ الرّب يكون أيضا باستطاعته ألّا يكون قد خلَق العالَم. فإذا كان عالم الأشياء الموجودة، كما يدّعي سبينوزا، هو معلولا ضروريّا وأزليّا جنبا إلى جنب لوجود الرّب (وللطّبيعة)، يكون مستحيلا على الإطلاق أن يوجَد الرّب دون أن يوجَد العالَم أيضا. وبهذه الطّريقة يُنْزِلُ سبينوزا فصول البيْبل الأولى إلى مرتبة الخرافات والأوهام، أي إلى عمل من صنع الخيال. غير أنّ ما ينسحِب على مسألة الخلق، ينسحب كذلك على المعجزات، كما أقرّ بذلك العديد من الفلاسفة: عالم أزليّ الوجود جنبا إلى جنب مع أزليّة الرّب غير منفتح لتدخّلات إلهيّة.
حسب ميتافيزيقا سبينوزا، نرى أنّ الضّرورة التي تحكم الكون، في أصوله كما هو الشّأن في ترتيباته الدّاخليّة، ليست شيئا آخر سوى الضّرورة المطلقة التي نجدها في حقائق الرّياضيات. وهي نتيجة لا يتورّع الفيلسوف عن إعلانها على رأس الملأ. ففي نصّه "أفكار ميتافيزيقيّة"، الذي نُشر قبل الرّسالة، يؤكِّد سبينوزا أنّه: "لو كان للنّاس معرفَةٌ بيِّنةٌ بكامل نظام الطّبيعة، لرأوا في الأشياء نفس الضّرورة التي ألِفوها في الموضوعات التي تتناولها الرّياضيات"(13). والضّرورة الرّياضيّة لا تسمح بأيّ استثناء. وبدون استثناء، ليس هناك أيّ إمكانيّة لحدوث المعجزات.
لقد كان سبينوزا على وعي بالطّريق الشّائكة والخطيرة التي سلكها في كتابه الاخلاق. فبعد أنّ برهَن أنّ "كلّ الأشياء تنتج من ضرورة الطّبيعة"، وأنّه لا عِلَل لها على الإطلاق لا تكون عِللاً طبيعيّة محضة، نشاهد سبينوزا يشجب أولئك الذين يلوذون بمشيئة الرّب كي يفسّروا بها الأشياء التي لا يفهمون عللَها الطّبيعيّة، لاجئين إلى "مأوى الجهالة" وهم يتقبّلون الثّناء والمديح على عظمة ورعهم. ولكنّ الذي:
"[...] يبحث عن الأسباب الحقيقيّة للمعجزات، ويدأب كرجُلِ علْمٍ على تقصّي الموجودات الطّبيعيّة عوض الإندهاش الأحمق أمامها [...] فهو يُنعَت مباشرة بالكُفر والزّندقة، ويُرْمى بهذه التّهمة من قِبَل أولئك الذين تقدِّسهم العامّة كمفسّرين للطّبيعة والرّب. وهؤلاء يعلمون جيّداً أنّه ما إن يَمَّحي الجهل، تَمّحي معه الحيرة الحمقاء، أي القاعِدة الوحيدة التي يبنون عليها حُجَجهم، والرّكيزة اليتيمة التي يستند إليها نفوذهم"(14).
أثار موضوع المعجزات مسائل دينيّة خطيرة وحتّى قضايا سياسيّة ليست أقلّ خطورة. وسبينوزا يعترف بذلك، وقد تأكّد له هذا من الغضب العارم الذي تسببت فيه الرّسالة، وهو بدون شكّ ما أسهَم في اتّخاذه قرار عدم نشر كتابه الأخلاق في حياته.
إنّ قُرّاء الرّسالة الأوائل لم تكن لديهم أيّة معرفة بضرورانيّة ولا بلاهوت فلسفة سبينوزا التي يقوم عليها عمله (باستثناء ما كانوا قد تلقّفوه، بكثير من الإنتباه، في طيّات نصّه "أفكار ميتافيويقيّة"). إضافة إلى ذلك، لم يكن سبينوزا يرغب في أن يكون فحوى الرّسالة عالة على أطروحات كتاب الأخلاق اللّاهوتيّة الأكثر راديكاليّة. فمعظم جمهور قرّائه لم يكونوا مُتهيِّئين بما يكفي لتقبُّل هذه المفاهيم الأكثر عمقا والأكثر صعوبة (وربّما تكون مُحيِّرة أكثر)، وبالتّالي لا يجب أن يعتمد عليها نجاح العرض اللّاهوتي السّياسي للرّسالة. لقد اضطرّ سبينوزا جرّاء ذلك أن يأخذ بعين الاعتبار هؤلاء القرّاء بعدم كشفه بطريقة سافرة تَصوّراتِه عن الرّب والطّبيعة.
وبالرّغم من كلّ هذا، نرى أنّ الخلاصة التي يستنتجها سبينوزا من الرّسالة تحتوي تماما، حتّى وإن لم يتّبع فيها الأسلوب الهندسي، على أهمّ الدّروس الميتافيزيقيّة لكتاب الأخلاق: "[...] إذ لا يحدُث شيء في الطبيعة مُناقِض لقوانينها العامَّة، أو حتى لا يتَّفق مع هذه القوانين أو لا يصدر عنها بوصفه نتيجة لها. إنَّ كلَّ ما يحدُث يحدُث حقيقة بإرادة الله وبأمره الأزلي، أي إنه لا يَحدُث شيء، كما بَيَّنَّا من قبل، إلَّا وفقًا لقوانين وقواعد تتضمَّن ضرورةً أزلية. فالطبيعة إذن تسير دائمًا وفقًا لقوانينِ قَواعدَ تنطوي على ضرورةٍ وحقيقة أزليَّتَيْن، وإن لم نكن نعرفها كلها، وبالتالي فهي تتبَعُ نظامًا ثابتًا لا يتغيَّر"(15). إنّ الاعتقاد في حدوث المعجزات هو ليس تعبيرا عن حصافة الرّأي بل بالأحرى عن الجهالة الجهلاء. أو بتعبير آخر، فإنّ سبينوزا يُسوّي بين الجهل والمعجزة إذ يصرِّح في رسالة له إلى أولدنبورغ أنّ: "المعجزات والجهل هي أشياء متكافئة"(16).
ونتيجة لكلّ ذلك، فإنّ هذا المنظور بالتّحديد هو الذي يسمح لسبينوزا أن يقبل بأنّنا يمكن أن نتحدّث عن المعجزات في هذا المعنى السّديد: فعِوَض أن نعتبر المعجزة بمثابة انتهاكٍ للطّبيعة من طرف قوّة خارقة للطّبيعة، يجب بالأحرى أن نقرأها بكلّ بساطة وبشكل أصحّ على أنّها حدثٌ لم يُعرَف بعدُ تفسيرُ عِلّته الطّبيعيّة:
"يترتَّب على هذه المبادئ بوضوحٍ تامٍّ أنَّ لفظ المُعجِزة لا يُمكن أن يُفهَم إلَّا في صِلته بآراء الناس، ويعني مُجرَّدَ عملٍ لا نستطيع أن نُبيِّن عِلَّته قياسًا على شيءٍ آخَرَ معروف، أو هو على الأقل عمل لا يمكن لراوي المُعجزة أن يُفسِّره. وأستطيع أن أقول حقيقة: إنَّ المُعجِزة حادثة لا نستطيع أن نُبيِّن عِلَّتَها اعتمادًا على مبادئ الأشياء الطبيعية كما نُدرِكها بالنُّور الفطري"(17).
قد يُوجد بالفعل حدثٌ يمكن تفسيره بالنّظر للحالة الرّاهنة التي عليها معارفنا العلميّة، وفي هذه الحالة فإنّ إصباغ صفة "معجِزة" على حدث مّا سيُعَزى فقط إلى حالة الجهل التي عليها الشّخص الذي يُخبِر بحدوث هذه المعجزة، وهو جهل يتعلّق بالمعرفة العلميّة فيما يتعلّق بالطّبيعة وأيضا بغاياتها في اللّحظة التي يُدوِّن فيها هذا الشّخص روايته عن هذا الحدث. فكتّاب البيْبل، أو "القدماء"، بحكم أنّهم، على العموم، كانوا جَهَلة في ميدان العلْم كما كانوا حريصين في نفس الوقت على غرس خوفٍ مريع في صفوف جمهورهم، فقد كانوا ميّالين إلى نسبة حوادث عجائبيّة وخارقة للعادة لمشيئة الرّب. فعندما بدأت مياه الطّوفان تنحسِر وظهر لنُوحٍ قوسُ قزح الذي هو، كما يلاحظ سبينوزا، "ليس إلاّ تعبيراً عن سقوط أشعّة الشّمس وانعكاسها الذي يَحدُث للأشعّة نفسها عندما تسقط على قطرات الماء العالِقة في السُّحب"، وقع وصف الحادثة من قِبل كاتب المقطَع على أنّ الرّب قال لنوح "تلك قوْسي جَعَلتُها في الغَمام"(تكوين، 13:9).
"لا شكَّ إذن في أنَّ كلَّ ما يَرويه الكتاب المقدّس قد حدث بالفعل، ومع ذلك، فقد نُسِبت هذه الحوادث إلى الله، لأنَّ الكتاب المقدّس [...] لا يَرمي إلى التعريف بالأشياء عن طريق عِلَلِها الطبيعية، بل إنَّ كُلَّ ما يَرمي إليه هو أن يَرسُم لوحة من الحوادث التي يُمكنها أن تُؤثِّر تأثيرا بليغا في المخيِّلة، وبأسلوب كفيل بإثارة أكبر قدْر من الإعجاب، وبالتالي يَبثُّ الخشوع في نفوس العامَّة"(18).
ولأنّ الكاتِب البيبْلي وجمهوره، العامّة من النّاس، هم عموما غير متعوِّدين على القوانين الفيزيائيّة الفاعِلة في ظاهرة قوس قزح، فهم ينسبون، دون أيّ تردّد، إلى التّدخّل الإلهي كلَّ هذه الظّواهر التي لا يمكن معادلتها بـ"بعض الأحداث المشابِهة [من الماضي] والتي تعوّدنا على تصوُّرها دون دهشة أو عجَب".
وربّما يكون الجهل غير مُنحَصِر فقط براوي المعجِزة، ولكن كذلك بالأوساط العلميّة والفلسفيّة برمّتها والتي لم تفهم بعدُ فَهماً تامّا القوانين الخاصّة التي تحكم هذه الظّواهر، أو لم يكتشفوا العِلل الطّبيعيّة السّابقة التي، حسب هذه القوانين، يمكن أن تفسِّر الحدث. فحتّى في حالة حدَثٍ "يفوق مدى الذّكاء البشري"، فهناك دائما، من حيث المبدأ، تفسير طبيعيّ(19).
(يتبع)
-------------------
هوامش
(1) سبينوزا، أفكار ميتافيزيقيّة، الفصل التّاسع، ترجمة جلال الدّين سعيد، مراجعة صالح مصباح، معهد تونس للتّرجمة، تونس، 2020، ص 126؛ خلافا لما عوّدنا عليه بعض المترجمين العرب من تلفيق وخروج عن روح النّص المترجَم وحتّى تشويهه حيث يصبِح مجرّد طلاسِم لا يفهمها إلاّ العليم الخبير، فإنّ هذه التّرجمة هي غاية في الدّقة والوضوح يُفهَم منها أنّ صاحِبها يعي ما يُترجِم وليس هو بغريب عن الموضوع المتنَاوَل، وقد اعتمدنا عليها في ترجمتنا لهذا المقطع كما اعتمدنا على ترجمته لكتاب الأخلاق في النّص الذي نحن بصدد ترجمته.
(2) الرّسالة، حنفي، فصل السّادس: المعجزات، ص 229.
(3) نفس المصدر، بتصرّف، ص 229-230.
(4) نفس المصدر، ص 230.
(5) نفس المصدر، مع بعض التصرّف، ص 231.
(6) نفس المصدر، ص 231.
(7) نفس المصدر، بتصرّف، ص 231.
(8) نفس المصدر، بتصرّف، ص 231-232.
(9) "الضرورانيّة" مذهب فلسفي يقول بأن الأحداث تقرّرها على نحو جبري نواميس لاسبيل إلى غيرها.
(10) يتعلّق الأمر هنا بطبيعة الحال بخطوط عريضة مقتَضَبة وغير مجدية كثيرا لبنيَة الميتافيزيقا عند سبينوزا. نجد عند Nadler في كتابهك
Spinoza’s Ethics: An Introduction. Cambridge: Cambridge University Press.
(11) الأخلاق، الفصل 1، قضيّة 29.
(12) كتاب الأخلاق، ترجمة جلال الدّين سعيد، قضية 33، ص 66.
(13) الأخلاق، الباب الأوّل، القضيّة 36، تذييل، ترجمة عبد الجليل سعبد، بتصرّف، ص 76.
(14) أفكار ميتافيزيقي’، مصدر سابق، ص 162.
(15) الرّسالة، حنفي، ص 231.
(16) رسائل سبينوزا، رسالة 75.
(17) الرّسالة، حنفي، ص 232.
(18) نفس المصدر، حنفي، بتصرّف، ص 239-240.
(19) معظم الباحثين في فكر سبينوزا في الوقت الرّاهن يتّبعون نفس منهجه بخصوص المعجزات، ولكن باختلافات طفيفة. فيما يخصّ موقفا مخالفا لرؤية سبينوزا، أنظر Hunter 2004، الذي يرى أن سبينوزا لم يكن يعتقد أنّ معجزات حقيقيّة كانت ممكِنة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مكتب الإحصاء المركزي الإسرائيلي: عدد اليهود في العالم اليوم


.. أسامة بن لادن.. 13 عاما على مقتله




.. حديث السوشال | من بينها المسجد النبوي.. سيول شديدة تضرب مناط


.. 102-Al-Baqarah




.. 103-Al-Baqarah