الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


محمود أمين العالم… أمي خائفةٌ منك!

فاطمة ناعوت

2022 / 2 / 20
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


يوم 18 فبراير 2022، يحتفل مثقفو مصر والعالم العربي بعيد الميلاد المائة لمفكر مصري كبير ومناضل عظيم عزّ نظيره. "محمود أمين العالم"، الفيلسوفُ الوطنيّ الذي درسَ الفلسفةَ ودرّسها، وأفنى حياتَه في الدفاع عن حق الفقراء في الحياة الكريمة والتعليم. ولد عام 1922، ورحل عن عالمنا عام 2009، وليته اليوم يشهد معنا من فردوس الله ما تحقق من أحلامه لمصرنا العزيزة مع "الجمهورية الجديدة".
اليوم أحكي لكم طُرفة مضحكة حدثت لي مع أمي بسبب الأستاذ محمود العالم، بعدما شرّفني بكتابة مقدمةً جميلة لأحد كتبي عنوانه: “الكتابة بالطباشير" صدر عام 2006 عن دار "شرقيات"، وصدرت طبعة جديدة منه العام الماضي عن الهيئة المصرية العامة للكتاب.
أمي تبدأ يومَها في السادسة صباحًا بقراءة جريدة "الأهرام" العريقة. ولا تسمحُ لأحد بأن يتحدث معها بكلمة، قبل وجبة الصحافة "الأهرامية" كما تسميها، وكما عادة جيلها؛ من الآباء والأمهات الذين كبروا مع تلك الجريدة التي هي بالفعل أحد أهرامات مصر الصحافية والفكرية.
وفي أحد أيام عام 2006، رنَّ جرسُ الهاتف في منزلي في السادسة صباحًا. استيقظتُ والقلق يعصفُ بي. فإذا بصوت أمي على الطرف الآخر يصرخُ: (العالم كلّه ضدك؟! يا نهار أسود! لييييه؟! كتبتي ايه وهببتي ايه؟!) طارت بقايا النوم من عيني وانتفضتُ من السرير فزعةً؛ لأنني أعلمُ عن أمي الجديّة وعدم المزاح، خاصةً في السادسة صباحًا! (مش فاهمة يا ماما بتتكلمي عن ايه؟ إهدي بس وفهميني بالراحة!) أجابتني أمي بنفس نبرة الصوت الغاضبة والخائفة على ابنتها في آن: (الأهرام كاتب كده في مانشيت عريض باللون الأحمر!: [العالم يُحذِّر من كتاب فاطمة ناعوت الجديد!]). خفق قلبي خوفًا لوقع العبارة المرعب، لكنني تيقّنتُ أن هناك سوء فهم بالأمر.
سألتُها: (طيب ممكن يا ماما تقرأي لي الخبر بهدوء من فضلك، عشان أفهم؟" فبدأتْ تقرأ الخبرَ بصوت مُتهدّج: (صدر مؤخرًا للكاتبة كذا، كتابٌ جديد بعنوان كذا عن دار كذا. وفي مقدمة بعنوان "تحذير ومقاربة"، يقول المفكرُ الكبير "محمود أمين العالم”: (أيـها القارئ العزيز، حـذارِ أن تصدِّقَ عنوانَ هذا الكتـاب! فكتابتُه لم تتحقّـق، كما يزعم عنوانُه، بالطباشيـر! فهي ليسـت بالكتابـة السَّطحية التي يمكن أن تُمسـحَ أو تُنسى بمجرد مغادرتِها. بل هي بالحـق، وفي غير مغالاة، كتابـةٌ بالحفـر العميـق في حقائقَ وظواهـرِ تجاربنا الثقافية القومية والإنسانيّة، التراثيـّة والمعاصـرة عامـة. كتابةٌ تظلُّ تتابعنـا وتلاحقـنا بعد قراءتهـا. ولهذا أرجو أن تتأهَّبَ أيها القارئُ في قراءتك لعمليتيْ: هدمٍ وبناء- معرفيًّا وموقفًا في وقت واحد- حول العديد من همومنـا الثقافيـة والحياتيّـة السائدة والمُهيمنة.)
كنتُ أستمعُ إليها، وأنا غارقةٌ في الضحك. ولكنّ أمي لم تنتبه إلى ضحكي وأكلمتْ قراءة الجزء المنشور من مقدمة الكتاب وهي حزينة وخائفة على ابنتها، "اللمضة"، كما كانت تنعتني دائمًا، والتي تُسبب لها دائمًا المشاكل والكوارث، وفق رأيها الدائم فيّ. بعدما أنهتِ القراءةَ قلتُ لها: (ها يا ماما، اطمنتي دلوقت؟) لكن أمي فيما يبدو كانت تقرأ بنصف وعي، لأن فكرة أن "العالَم بأسره" يُحذّر من كتابي، كانت مسيطرة عليها تمامًا، فلم تنتبه إلى أنها قرأت: "العالِم" بالفتحة: “العالَم"، وليس بالكسرة، كما هو اسم المفكر الكبير: "محمود امين العالِم". وحين نبهتُها إلى أنها قرأت اسمَ الرجل على نحو خاطئ، قالت بشيء من الخجل: (بس الخبر والمانشيت مش حاطط تشكيل على الحروف. يعني الخُلاصة، الراجل ده معاكِ واللا ضدك؟!) هنا انفجرتُ في الضحك وقلت لها: (يا ماما يا حبيبتي، المقدمة اللي كتبها الراجل ده كأنها جائزة نوبل فزتُ بها. هذه الكلمات وسام على صدر بنتك. الراجل الجميل ده أكرمَني بالمقدمة الرائعة دي يا ماما. وبعدين الكتاب بتاعي موجود على كومودينو سريرك بقاله أسبوع، لو كنتِ قريتيه، كنتي فهمتي الخبر ووفرتي على نفسك الخضّة، ووفّرتي عليا الصُحيان الساعة 6 الصبح مفزوعة على جرس التليفون وصوت غضبك!) عادت أمي لجديتها ورصانتها وشُحّ كلامها؛ وقالت باقتضاب: (هابقى أقراه لما ألاقي وقت. مع السلامة.)
وعلى طريقة "كتاب المطالعة" في مناهج مدارسنا، أجبْ على السؤال التالي: ما هي الدروسُ المُستفادة من هذه القصة الطريفة؟
1- من الخطأ الاكتفاء بقراءة "عناوين" الأخبار أو المقالات أو الكتب، دون قراءة المتن، ثم المسارعة بتكوين رأي في موضوع لم نقرأه ولا عرفنا تفاصيلَه.
2- تشكيلُ الحروف في اللغة العربية "ضرورة" حتمية، وليست رفاهية أو "تفلسف" من الكاتب، سواءً كان أديبًا او صحفيًّا أو شاعرًا، أو حتى في رسائل التليفون أو الدردشة على صفحات الانترنت.
لهذا أتمسكُ جدًّا بتنضيد مقالاتي لأن الحرفَ العربي دون تشكيل يُغير معنى الكلمة. وكم دفعتُ من أثمان باهظة من "قرّاء العناوين" الذين يتكاسلون عن قراءة الموضوع ويكتفون بالمناشيت الذي قد يكون مُخاتلا.
أيها العظيم الجميل "محمود أمين العالم"، كل سنة وأنت طيب في عيد ميلادك المائة، وانعم في فردوس الله.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. 145-An-Nisa


.. د. حسن حماد: التدين إذا ارتبط بالتعصب يصبح كارثيا | #حديث_ال




.. فوق السلطة 395 - دولة إسلامية تمنع الحجاب؟


.. صلاة الغائب على أرواح الشهداء بغزة في المسجد الأقصى




.. -فرنسا، نحبها ولكننا نغادرها- - لماذا يترك فرنسيون مسلمون مت