الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


اجتماعيات الطقس الشيعي بالعراق (-زيارة الإمام الكاظم- انموذجا)

محمد لفته محل

2022 / 2 / 23
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


هذا المقال هو ملاحظات ميدانية من داخل طقس شيعي شاركت به شخصيا في بغداد وهو مناسبة اغتيال موسى بن جعفر (128ه_183ه)، وسجلت ملاحظاتي التي جمعتها، ثم وضعتها في قالب نظري تفسيري بعد إتمام الجولة، محاولا فهمها في ضوء نظريات علم الاجتماع الديني الفرنسي نظرية دوركهايم تحديدا. مستخدما التسميات التي تطلقها الجماعة داخل الطقس وحصرها بين مزدوجين. ومحاولا وصف وفهم هذا الطقس من الداخل وما يعنيه للفرد والمجتمع دون اي حكم قيمي. هي مساهمة اولية في علم الاجتماع الديني بالعراق.
ملاحظات اجتماعية عن طقس الزيارة:
بتاريخ 2018 الموافق الجمعة، الساعة من 07:00م حتى 03:00ص تقريبا، من منطقة الشعب شارع عدن، مرورا بشارع يمر من امام منطقة الصليخ والقاهرة وصولا لجامع النداء ودخولا شارع راغبة خاتون وساحة عنتر ثم الاعظمية والعطيفية وانتهاء بالكاظمية، كانت جولتي على الأقدام في طقس "الزيارة" (التسمية الشعبية للطقس) الإسلامي الشيعي بمناسبة ما يسميه الشيعة "استشهاد الإمام الكاظم" (الامام السابع في الشيعة الاثناعشرية الذي اغتيل في السجن)، سجلت انطباعات وملاحظات ومشاهدات على الطقس من خلال المشاركة به كاملا، واضفت عليه المقابلات بالأسئلة التي وجهتها إلى الزائرين من الأصدقاء.
بمجرد ما أن يدخل الشيعي طقس المشي جماعياً إلى الضريح في مناسبة ما (ولادة أو وفاة إمام) الذي يسمى "الزيارة" يسمى من الآن وصاعداً "زائر" وجمعها "زوار"، او "زائرين" ويكتسب شيء من القداسة لكونه متوجه إلى "الإمام" يتحدد اسمه حسب المناسبة التي يتوجه فيها الشيعي إلى ضريحه، "زوار الإمام الحسين"، "زوار الامام الكاظم" الخ. المشاركين في الطقس لهم وظيفتين إما "زوّار" أو "خداّم" مفردها "خادم". وال"خادم" من يفتح "موكب خدمي": وهو خيمة منصوبة على رصيف الشارع أو منتصفه، تشبه المأتم (الفاتحه بالعامية) لها تسمية باسم ديني "موكب الزهراء"، "موكب الإمام"، "موكب الشهداء"، الخ أو اسم عشيرة مثل موكب آل فلان أو اسم منطقة "موكب الحسينية"، "موكب الشعب" الخ تكون التسمية معلقة على الموكب بشكل لافته، يقدم الموكب الطعام للزائرين على طريقة بائع الرصيف ("بسطّية" بالعامية) في الأسواق، أو يخصص "الموكب" لاستضافة الزائرين على طريقة المضيف والديوان اجتماعياً، وقد يوضع فيه سماعة مكبر صوت كهربائي تبث أناشيد شيعية "ردات" ("لطمية" بالعامية) تخص المناسبة، قد يحتوي قدور، وملاعق فافون كبيرة أشبه بالمساحي ("ﭽﻓﭽير" بالعامية)، وقناني غاز، وطباخات حديدية، وأنابيب لنفث النار("بريمز" بالعامية)، وتنور للخبز (فرن دائري من الفافون) وأواني فلين وملاعق بلاستيكية، وماطور نفث الهواء، والفحم و(هيتر) الشاورما ("كص" بالعامية) مع توفر الطماطا والخيار واللحم. وتكاليف الموكب قد تصل إلى 20 مليون بحسب قدرة صاحب الموكب المالية وبعضها يكون بسيطا يكتفي بتوزيع الشاي والكعك والماء والعصير مثلا. يحجز مكان الموكب بكتابة اسم الموكب ببخاخ اسود أو فرشاة على الحائط أو الرصيف العام الذي يمر منه "الزائرين"، ليضمن عدم نصب فيه موكب آخر. ومالك الموكب يشار له اجتماعيا "صاحب موكب" وهي من علامات الإيمان والوجاهة. بعض المواكب تضع هزاز ("كاروك" بالعامية) فيه دمية طفل ملفوف بأقمشة خضراء ترمز ل"عبد الله الرضيع" ابن "حسين بن علي" الذي قتل في معركة كربلاء، وبعضها تضع قفص حديدي فيه دمية رجل معمم جالس مقيد بالسلاسل، وبعضها يضع دمية حارس بزي إسلامي وبيده رمح خارج القفص. يرمز لسجن "الإمام" وحارسه.
يتبرع بعض رجال الاعمال والتجار بالأموال لإقامة مواكب. وتجمع الاموال كذلك من الاشخاص المشاركين في الطقوس، ويقوم صاحب الموكب بجمع اموال معينة في كل شهر. تجمع الاموال ايضا اما من تبرعات من المنطقة او موظفين حكوميين او محال تجارية. كما تعطي بعض الاحزاب السياسية الاموال الى المواكب وتتبناها. ان المواكب ذات المردود المالي العالي يكون موكبا كبيرا مجهزا بتجهيزات عديدة، ويثير اعجاب الجمهور ويستقبل من قبل منصات بحرارة عالية، وبعكسه يكون الموكب ذو المردود المالي القليل. يمتلك اصحاب المحلات التجارية صناديق يقومون بوضع الاموال فيها كل يوم او كل اسبوع وفي نهاية السنة يعطون هذه الاموال الى اصحاب المواكب.(الابيض،2017: 46،45) ويفخر الشيعة ان المواكب تكبر كل سنة بدون دعم حكومي (الحقيقة ان الدعم الحكومي موجود). ويفخرون ايضا ان اعداد الزيارة تفوق اعداد الحجيج في مكة ويرونه علامة اعجازية.
وهناك المواكب الطبية التي تقوم بها وزارة الصحة او مجموعة ممرضين، تقدم العلاج للزائرين عندما يتعرض زائر لوعكة صحية اثناء المسير. ولا ننسى المواكب الاعلامية التي تقوم بتغطية الطقوس محليا وعالميا.(الابيض،2017: ،47 48) وكل موكب يجب ان يقوم بتسجيل لدى هيئة الشعائر الحسينية التي تحصي عددهم وتخولهم بهويات رسمية بموجب أمر حكومي حتى يتسنى للمواكب التجوال خارج المحافظة، وتصرف الهوية للمواكب بعد جلب تأييد من المجلس المحلي ومعتمد من المرجعية مع المستمسكات الثبوتية.(الابيض،2017: 49)
عندما يذهب الشيعي للزيارة يوصيه الباقون "ادعيلنا وياك". تقطع معظم الطرق لأسباب أمنية خوفا من تعرض الزائرين للقتل بالعبوات أو الأحزمة الناسفة أو السيارات المفخخة أو تسميم الطعام، وتخصص شوارع كاملة لمسير "الزوار" ونصب "المواكب" فقط، وهذا الغلق يسبب للبعض مضايقة وإزعاج لأنه يقيد حركتهم. لهذا فالشارع يوم الزيارة عبارة عن نصفين نصف للمواكب الخدمية المنصوبة على نصف الشارع ونص للزوار على ما تبقى من الشارع. وبعض الشوارع يقطع سايد واحد فقط مخصص واحد للزوار واخر لمرور السيارات.
يعتقد الشيعي أن السير جماعياً على الأقدام إلى ضريح شيعي في مناسبة ما، وليس ركوب أي وسيلة إيصال، ومهما بعدت المسافة لأيام هو سلوك عليه أجر بقدر المشقة، اجر في الدنيا وفي الآخرة كرصيد للخلاص من النار (الشفاعة عند الله). اجر في الدنيا يتمثل في زيادة ماله وعمله ومعيشته ("رزقه" بالعامية)، يحميه من المشاكل ويحفظ سمعته ("الستر" بالعامية) ويجنبه الأمراض ("العافيه" بالعامية)، ويحقق له مطالبه (مراد، حاجة، حل مشكلة، شفاء مرض، نجاح، زواج، وظيفة الخ) مقابل الزيارة أو النذر (وعد بين الزائر والضريح يلتزم بتنفيذه حالما يحقق الضريح مطلبه) وهو ما اسميه التوفيق الدنيوي، أي أن ما يقدمه "الزائر" من سير على الأقدام أو تقديم الخدمات الغذائية أو الترويحية (أي "خادم" الزائرين) له جزاء عند الضريح. بل أن الله يعطي للشيعي قدرة على تحمل المشي لا يحس بها في الأيام العادية كما يقول "الزائرين".
يلبس "الزائرين" ذات الملابس المعروفة اجتماعيا مثل الجلباب والبلوز والبنطال والشماغ للرجال والعبائة والجبة والحجاب للنساء مع هيمنة اللون الأسود على أزياء الجنسين، ويجب أن لا تكون الملابس أنيقة أو معطرة كتعبيرا عن الحزن وهي كازياء اي مأتم عزاء اجتماعي، ولا يجوز لوك ألعلكه. أما الأقدام فتلبس أما النعال (تلبسه النساء غالبا) أو ال"شحاطه"(نعال جلدي مزركش للخروج به في مكان عام) أو الحذاء الرسمي أو الرياضي ("بوتين" بالعامية)، عدا أن بعض الزائرين يلفون قماش اخضر أو ابيض أو اسود يشبه الكوفية على رقابهم مكتوب على اسم "الأمام" صاحب المناسبة، وبعض الزائرين يحمل رايات سوداء أو خضراء مكتوب عليها عبارات تخص المناسبة مربوطه بوتد خشبي محمول.
الأعمار غير محددة لدى الزائرين، وغير ضروري أن يكون الزائر ملتزما بالصلاة، أو محدد بجنس أو وقت، فالأطفال والنساء تشارك الرجال في الطقس، والخروج ليلا والمبيت في بيوت الغرباء التي تستقبل الزائرين مسموح بالزيارة لكلا الجنسين.
يوزع الطعام والماء والعصائر على طاولة حديدية أو خشبية، و"الخادم" واقف خلفها يوزع الأكل والشراب على "الزائرين"، وهناك من يشوي الكباب و الشاورما ("اﻠﮕص") او يقلي الفلافل، وهي الطريقة ذاتها التي تستخدم في المطاعم، وباعة الرصيف ("بسطية" بالعامية)، وهذا يعكس الثقافة الاجتماعية في الطقس. الطعام يوزع لأكبر عدد ممكن للزائرين، والزائرين كلما أكلوا زاد أجرهم، لان الطعام مقدس ويبقى بالمعدة ليوم القيامة كما يعتقدون. ومن لا يأكل الطعام قد يفسر على انه مبغض من الطائفة الأخرى. "الخداّم" لايكتفون بتقديم الطعام بل جذب الزائرين (وهو يؤكد ان عدد الآكلين يزيد أجر صاحب الموكب) بالصراخ داعين الزائرين للأكل من مواكبهم أو شرب الماء أو الشاي أو العصائر قائلين: "هلا بزوار الإمام" وبعضهم يقف منتصف الشارع حاملا بيديه الاثنين عصائر أو ماء يقربها من بعض الزائرين كي يأخذوها، أو يقف وسط الشارع وجنبه برميل في ماء أو عصائر والزائرين يمرون عن يمينه ويساره. يعتقد الشيعة أن أصحاب المواكب كلما صرفوا على الزائرين من أطعمة وشراب سيزيد الله رزقهم أضعافا بدليل أن المواكب تتوسع وتكبر وتزيد من عام إلى آخر كما يقولون.
الأطعمة الموزعة بأنواعها (تمن، مرق، كباب شوي وقلي، شاورما، فلافل، تمر) والماء المعلب والعصائر (برتقال، ليمون، زبيب، لبن، نومي البصرة، تمر هند، آيس كريم الخ) والفواكه (موز، برتقال، رقي). يقف الزائرين في طابور إذا كان هناك كباب او شاورما، ويأخذ بعض الزائرين فواكه لأسرهم أثناء العودة من المواكب.
توجد دوريات إسعاف وخيم صيدليات صغيرة، وتفتيش امني بدني للزوار كل مسافة من قبل وزارات الحكومة الأمنية، وهناك "خداّم بيوت" يدعون الزوار بصراخ امام دورهم: "مبيت يازاير" لاستقبال الزائرين والمبيت فيها، ويقومون بتوفير الفراشات والأغطية والأكل والشراب. يفصل بين الجنسين في هذه البيوت، الاختلاط بين الزوار يؤدي لنشوء صداقات جديدة، وغالبا ما يكون تلفزيون الاستقبال في البيت يبث قناة دينية تخص المناسبة.
تستغرق الزيارة أسبوع وتبلغ ذروتها في يوم الحدث (يوم استشهاد الإمام) يصعب الوصول لداخل الضريح بسبب التزاحم والتدافع ما يضطر البعض أو الكثير إلى الاكتفاء بالسلام على الضريح "السلام عليك ياموسى الكاظم" ثم قراءة دعاء مكتوب يوزع مجانا أو يشترى وهو مستحب وليس واجبا.
كتب أحد الزائرين لي نص يصف فيه أجواء الزيارة قرب الضريح: "تكثر محلات وعربات بيع الحلاوة الشعبية ("دِهينة" حلوى مزيج من الدهن والطحين والحليب والسكر والدبس ومبروش جوز الهند) قرب المرقد وبسطيات بيع الرايات والمحابس والسبح (خيط دائري يثقب مئة خرزة سوداء أو زرقاء غالبا، تستخدم لتعداد مرات الدعاء أو الآيات المكررة) فيه وترب الصلاة (قطعة طينية من تراب مدينة كربلاء بحجم العملة المعدنية مفخورة بشكل دائري أو مربع ومنقوش عليها عبارات دينية، يسجد عليها الشيعة أثناء الصلاة وتُقّبل بعدها) التي غالباً ما يأخذها الزائر كهدية لأهله حين عودته من الزيارة، وقرب المرقد هناك أطفال يبيعون قطع قماش صغيرة بطول متر واحد خضراء اللون ليقوم الزائر بأخذها معه إلى داخل الضريح ومسحها بالشباك (وهو قفص القبر الشبكي داخل الضريح) وتعتبر قطعة مباركة و("مزورة" بالعامية نسبة لزيارة). واللون الأخضر هو لون شبيه بلون الكوفية الذي يلف به "الأئمة" رؤوسهم في الصور المتخيله، ويقوم البعض برمي قطع القماش هذه فوق الشباك،] بعدها يدعي الزائر طالبا حاجته عن بعد، أو الوصول للضريح والتمسح بقفص القبر باليد والدعاء لطلب الحاجة أو المراد والتبرك [وتصلى ركعتين مستحبة وتهدى "للإمام" وتعتبر الصلاة قرب قبور الأولياء مستحبة جداً وأجرها عظيم واقرب إلى الله، ويقوم الزائرون بالتشبث بشباك القبر والبكاء والدعاء علامة على الخشوع. المرقد من الداخل مكيف ومعطر ومريحة والجدران مكسوة بالمرايا والثريات البلورية التي تلقي في قلب الزائر شعور روحاني عالي، وتعتبر المراقد روضة من رياض الجنة وبقعة مباركة، ويقوم بعض الزائرين بكتابة حاجاتهم في قصاصة ورقية صغيرة ويلقونها في الشباك ليلبيها لهم "الإمام" وأحيانا تلقى نقود (يمكن رؤية عملات عراقية وإيرانية وغيرها حسب نوع الزائرين) من خلال فتحات القفص ("الشباك" بالعامية)، وأحيانا في حال أن رجل أو امرأة عجوز أو شخص لم يتمكن من الدخول للضريح يعطي قصاصته الورقية التي فيها حاجته إلى زائر يريد الدخول ليرميها من الشباك بدلاً عنه، وفي حال لم يتمكن شخص من الذهاب إلى الزيارة لأي سبب يقوم بالصعود فوق سطح منزله ويتوجه إلى مرقد "الإمام" ويلقي عليه السلام "السلام عليك يا..." ثم يقرأ الزيارة وينزل وبهذا يكون قد أدى زيارته.(52) من الممارسات البالغة الأهمية كتابة الرقاع وهي عبارة عن رقاع تكتب فيها شكوى الزائر الشيعي وتوضع على الاضرحة، يكتب فيها (كتبت اليك مولاي صلوات الله عليك، مستغيثا فاعني يامولاي) ومن الممارسات وضع الخد على القبر وتعفير الخد على الارض، وتقبيل اعتاب القبر بخشوع.(فياض، 2016: 53)
وعند الخروج من الضريح أو العودة منه يعتبر الزائر أنهى زيارته. في الرجوع تتوفر سيارات لنقل الزائرين العائدين لبيوتهم مجاناً، وتبدأ المواكب برفع خيامها وتترك وراءها أوساخ كثيرة (عبوات ماء وعصائر فارغة، أغلفة كارتون) عند عودة الشيعي إلى بيته تكون التهنئة من أهله وأصدقائه "زيارة مقبولة" أو "الله يتقبل الزيارة". وغالبا ما يعود الشيعي منهك جسديا، متألم المفاصل من المشي، يستغرق في نوم عميق، والسبب لان هذه المسافات لا يقطعها في أيامه العادية، ناهيك عن أن ثقافة الرياضة شبه معدومة إلا بين بعض الشباب فقط.
التحليل الاجتماعي للملاحظات الميدانية:
قبل البدء بمرحلة التحليل يجب التعرف على لمحة على علم الاجتماع الديني في المدرسة الفرنسية للدخول للموضوع معتمدا على دراسة الباحث منصف الحواشي.
تنهض الحياة الروحية والدينية للجماعات على مستويين: مستوى التمثلات والتصورات الماثلة في وعي الناس والمتصلة بالأشياء المقدّسة (كائنات بشريّة، أشخاصا مجردين، أشياء جامدة، حيوانات، أمكنة، أزمنة...) ومستوى الممارسات التي تظهر في أفعال الناس (احتفالات، ممارسات منظمة، عادات جماعية...) والتي تترجم عن تلك المعتقدات الماثلة في الوعي الجماعي والفردي من خلال الطقوس وغيرها من الممارسات. ف"المعتقدات الدينيّة تقوم في شكليها البسيط والمعقّد،- وكما يقول إميل دوركايم- على تمييز جوهريّ بين ما هو مقدّس وما هو مدنّس". فما ستعتبره الجماعة مقدّسا تفصله في نظامها الثقافي وتبعده عن المدنّس بجملة من الممنوعات والمحرّمات، وتحميه بجملة من الموانع والشعائر. فالطقوس الدينية تتمثّل "في مجموع القواعد [والممنوعات] التي يتّخذها الإنسان وتتخذها الجماعات في تعاملها وتصرّفها مع ما تعده مقدّسا"، وتترجمها في جملة من القواعد والضوابط تتقيّد بها أفعالها وممارساتها.
تصبح الطقوس، بهذا المعنى إذن، طرائق للتصرّف والفعل الجماعي الذي يتمّ بواسطتها تنشيط حالات الوعي الجمعي، وتوضع المخيلة أثناء ذلك في موضع العمل. لقد كانت الطقوس ولا تزال في جانب كبير منها، غير مفصولة عن الدين وعن المقدّس. فالفعل الديني هو فعل طقوسي بكلّ امتياز، بل لن يتّخذ الفعل الدينيّ فعاليته إلا بواسطة الطقس الذي يولّد الشحنة الرمزية ويملؤه بها. وبواسطة هذه الطقوس الدينية، تتمّ الإحالات الرمزية، وينتقل الفعل الرمزي من الدلالة المباشرة إلى الدلالة المنزاحة.
ومن المميزات الخاصّة التي تعطي للطقس فرادته أنّه يتمّ وفق مميّزات يمكن تحديدها في ثلاثة: أولاها التقعيد بحيث يخضع الطقس لقواعد منتظمة متعارف عليها لدى أفراد الجماعة، وثانيتها التكرار حيث يعاد إنجاز الطقس في مناسبات تتتالى في أوقات مضبوطة من حياة الجماعة، وحسب "توزيعيّة " زمنية، مضبوطة. وثالثتها الشحنة الرمزيّة التي تتّخذها، ممّا يعطي الممارسات دفقها وفعاليتها الرمزيّة الخاصّة.
إنّ المميّز للممارسات الطقوسية هو تكرارها من قبل ممارسيها خلال أزمنة مضبوطة، لإحياء واقعة مضت أو احتفاء بحدث يعني للجماعة أو لأحد أفرادها رمزيّا الشيء الكثير. ومهما يكن فإنّ ما نشهده من كثافة في الاحتفالية الطقوسية، يؤّكد منذ الوهلة الأولى أنّنا بإزاء ممارسة رمزية ضرورية تشبع حاجة / حاجات في حياة الجماعة. وبنفس العمليات الثلاثة المصاحبة للفعل الطقسي: الشحن الرّمزي والتقعيد والتكرار، يتمّ شحن الزمن بالقداسة، وتستعاد وقائع التاريخ المقدّس مثلما تمثل في المتخيّل الجمعي. يَضمُن استرجاع وقائعها وشخوصها الرمزية تثبيت وإحياء أحداث ملهمة رمزيّا في حياة الجماعة والأفراد وتبقى صورها - بالشحنات الرمزيّة الماثلة في المخيّلة حولها- تلهم الذاكرة الجماعية بالرمز والمعنى، وتمكّن المنخرطين في ممارسة الطقوس أن يعيشوا في زمنين اثنين معا: زمن أسطوري متخيّل، وآخر هو الزمن الفيزيائي الحقيقي أو الفعلي. وعند التقاء الزمنين: المتخيّل والحقيقي يوقف الزمن المتخيّل الزمن الحقيقي، وعندئذ يتحقق شيء مما يسمّيه "ميرسيا إلياد" ب"العود الأبدي إلى زمن البدايات" وعند "وقوف الزمن" تنشط آلية التكرار والاسترجاع المميزة للطقس.
يشير علماء الإنسان وعلماء الاجتماع كلّما انشغلوا بمسألة الطقوس إلى ما يسمونه بحالة الاختلال بوصفها ظاهرة ملازمة لأوضاع الناس ولتجربتهم الاجتماعية كلما خضعت للتغيّر السريع، وردّا على هذا الوضع تظهر الممارسات الطقوسيّة أداة لردم هذا الخلل وسدّ ما ينتج عن التغيّرات من اختلالات. إذا لا معنى للحقيقة بالنسبة للطقس إذا كانت غاية يُنتَهي إليها، ولذلك يؤتى به لمقاومة هذا الميل الجارف في سير الزمن إلى الأمام في اتجاه خطّي متّصل. ومن هنا إذن ندرك لم يمثّل التكرار المصاحب للفعل الطقوسي نفيا للزمن وعودة به إلى حدث مضى ولِمَ يدرك الطقس ذروته من خلال التكرار. فبواسطة هذه الفعالية يضمن الفعل الطقوسي عَودًا أبديّا للشيء نفسه، ومن هنا يستحيل الفعل الطقوسيّ تقنية ناجعة للتحكم في الزمن والحفاظ على نوع من الانسجام ضمن "معماريّة" العواطف تسمح بتعايش الأضداد وتوافقها.(الحواشي، 2010: 54)
وفي طقس "الزيارة" وجدت القيم والسلوكيات الاجتماعية حاضرة في كل تفاصيلها (الزيارة)، فكل وسائل استقبال الزائرين هي الوسائل ذاتها في استقبال الضيف في الحياة الاجتماعية من تقديم الطعام والشراب والإيواء، و"خادم الموكب" مثل المُضيف حين يخدم الضيف، ومن العيب الجسيم وقلة المروءة عربيا التقصير في خدمة الضيف. والموكب الخدمي يشبه في شكله المأتم ("فاتحه") في الحياة الاجتماعية يلبس القائمين عليه الزي الأسود مع توفر الطعام والكراسي. وتقديم الأطعمة خارج الموكب تشبه طريقة البيع بالأسواق على طريقة بائع الرصيف. مع ذلك هناك قيم جديدة يوفرها الطقس غير موجودة في الحياة العادية هي المساواة العابرة للجنس والعمر كمشاركة الأطفال والنساء الرجال بالطقس، وخروج النساء بلا محرم مجاميع أو فرادى، وفي أي وقت حتى ليلا، وهو فسحة نادرة يوفرها الطقس في مجتمع يحد من حرية المرأة إلى حدود البيت فقط، خصوصا في المناطق الفقيرة المتريفة بفعل الهجرة إلى العاصمة (ثورة، حسينية، شعب، شعلة، الحرية الخ) ولهذا فإن كثافة الحضور النسائي هو بسبب القيود المفروضة على حريتها، وللسبب ذاته فإن هذه القيود هي من تحد من تحقيق حاجات المرأة فتأتي تطالب بتحقيق مرادها من الضريح. أما مشاركة الأطفال فهي لتعليم الطقوس وغرسها من الصغر، لان إيمان الطفل عند البلوغ سيعود صيته للأب اجتماعياً. أو طلب البركة من الضريح للطفل لشفائه أو حفظه من الخطر وتوفيق مستقبله. وتكرار مفردة الطفل بجنب المواكب اعتقد أن هذا له نظير في الثقافة الاجتماعية حول قبول الله لدعاء الأطفال، لصدق نياتهم، وصفائهم من الذنوب، ويدخلون الجنة بعد موتهم ويتحولون إلى ملائكة. والقفص الرمزي لسجن الكاظم، هو مقدس رمزي للتواصل مع (الإمام)، لاستحضار الزمن بإعادة تمثيل أحداثه. ما يكسب القفص والمكان والزمان قداسة بفعل هذه الإعادة، وهناك قيمة اجتماعية للسجين الذي يعارض الحكومة خصوصا إذا كانت ظالمة، ناهيك أن "السجن للزلم" (الرجال) كما يقال شعبياً. فزمن الزيارة زمن مقدس متجانس، فهي أيام يحرم في الغناء والخمر دينيا وأخلاقيا، يفضل إطلاق اللحى ولبس الزي الأسود، والزيارة متاحة في أي وقت نهارا أو ليلا، ولا تختلف زيارة عن زيارة سابقة، فكلها واحدة من حيث الزمن والأجر، بل أنها تكرر لنفس الحدث بتواريخ مختلفة. كذلك فإن طقس الزيارة يلغي مؤقتا الملكية الخاصة، لصالح الملكية الجماعية، لان معظم البيوت تصبح مفتوحة "للزائرين" للاستقبال والمبيت، وبعض "الزوار" يطرق الباب مطالباً رب الدار بفتحها للزوار إن كانت مغلقة. والمشاركة الجماعية في الأكل والشراب وتوزيعه، إحساس الزائرين بأنهم واحد، ولهذا أيضا يسمح بالاختلاط بين الجنسين والصغار والكبار بفعل هذه الوحدة النفسية الجماعية.
جو الزيارة احتفالي بمعنى حميمي وان كانت المناسبة حزينة، وفق المثل البليغ "حشر مع الناس عيد" وشخصيا انتابتني مشاعر تنتابني في أي تجمع طقسي آخر (تشييع، مظاهرة، عرس، رأس السنة). فهذا الشعور بالانتماء والاندماج مع المجموع هي مشاعر ايجابية لا يحس الزائر فيها بالملل أو الفراغ أبدا، بل التجدد والنشاط والحيوية والراحة النفسية في التخلص من الذنوب وانتظار المقابل رد الهبة من "الإمام" في الأيام القادمة. ويرى دوركهايم أن الطقوس الدينية وسيلة للاتصال بالمقدّس، وفعاليّة رمزية يتمّ بواسطتها الدخول في حالة ذهنية جماعية خاصّة تتسم بالقداسة، وتتجلّى عندما تنخرط الجماعة في ممارسة شعيرة واحتفالا دينيا ما. إذ أنّ الحفلات الدينية بما تصاحبها من أنشطة جماعية منظمة (صلوات، رقصات، تراتيل وأناشيد) تولّد لدى المنخرطين فيها حالات ذهنية خاصّة من الجيشان/الفوران وتتصاحب باتقاد المشاعر الجماعية و هيجانها. بهذه الفعالية الرمزية التي تتخذها الطقوس لتجييش الذهن الجمعي وتعبئته، تتّضح الوظيفة الحاسمة التي يتخذها في حياة الجماعات. وفي الحقيقة يعيش الأفراد، وهم أفراد لذواتهم الفردية، و لكنهم عندما ينخرطون في الأنشطة الاحتفالية الطقوس الجماعية، دينية كانت أو غير ذلك، فإن الروح الجماعية تتّقد ويعاد تنشيط الضمير والحسّ الجمعي، وينتقل الأفراد من كونهم أفرادا "منفردين" إلى أفراد "جماعيين". و"يتشكّل لدى الأفراد من خلال حضورهم الجماعي ضرب من الشعور الجمعي الجيّاش لا يدركونه وهم في حالتهم الفردية". فالأفراد يفتقدون إلى الطاقة الحيوية إذا كانوا فرادى ويبقون غير مبالين بالعالم مستسلمين للفراغ والروتين اليومي، ويتصرّفون كمن أصابهم الإنهاك غير مبالين بما يؤتيه الآخرون، و لكن وحدها الممارسات الجماعية و الطقوسية التي ستجيّشهم وتملأ الفراغ الذي يغرقون فيه، وتدخلهم في الحالة الجماعية. يحيي الاحتفال الجماعي في الفرد قوّة خلاقة تجعله يتجاوز حدود فرديته، إذ يصبح بذلك الفرد كائنا "أكبر" من كونه واحد و مفرد، إذ يعيش في الكون ويشعر بالزمن والفضاء بشكل يختلف عما يشعر به في حال فرديته. فثمّة حرارة وعاطفة يولّدها الفعل الطقوسي الجماعي (لاحظ مثلا أجواء الملاعب، أو جوّ المآتم أو أنشطة الحجّ أو حالات الانتفاض الجماعي في الساحات وغير ذلك) تدخل الأفراد في حالة من الجيشان وتوحّد حسّهم الجمعيّ كما تدخلهم في زمنية خاصة. ومثل هذه التجربة الخلاّقة تثبت أنّ في عمق الذات الفردية ذات جماعية كامنة تجعلها هذه الممارسات الطقوسية الخلاّقة تستفيق. ويمكن القول إنّه لا توجد مجتمعات لا تحتاج إلى تقوية وعيها الجمعي وتثبيته خلال مناسبات محدّدة. ومن هنا نتساءل عن الفرق مثلا بين اجتماع آلاف المؤمنين في الحجّ أو التقاء جماعات من اليهود في الكنائس للاحتفال بذكرى "الخروج" أو اجتماع المسيحيين للاحتفال بأحداث عاشها المسيح أو إقامة حفل رياضي جماهيري كبير؟ تقوّي جميع هذه الاحتفالات بالطقوس التي تصاحبها المشاعر الجماعية وتتعهّد الوعي الجمعي بالتقوية، كما تدعم انتماء الأفراد إلى النظام الأخلاقي القائم. ولا تمثّل الطقوس في كلّ هذه الأمثلة هدفا في ذاتها، بل تدرك قيمتها من وظيفة الشحن التجييش التي تلازم الأنشطة الجماعية وخاصّة الاحتفالية والدينية منها. لكنّ السّؤال الذي يثار هنا، هو كيف يتولّد الشعور بالحماسة وحالة الغليان المصاحب للأنشطة الطقوسية الجماعية؟.
ولنقف هنا عند آلية التكرار المصاحبة للطقوس في علاقتها بالزمن. فأن نكرر ونعيد الأفعال الطقوسية (بحسب القواعد المتعارف عليها) يعني أن نحيي زمنا ماضيا ونقاوم تجدد زمن حاضر، أو على الأقل نكسر نزوعه إلى الحركية الرتيبة. فقد بيّن "جلبار دوران" في معرض تحليله للنظم التي يشتغل بها المتخيّل البشري، كيف يلغي عالم الصور الذهنية الماثلة في المتخيّل الجمعي حركة الزمن الفيزيائي السائر إلى الأمام، وذلك ضمن حركة من العود الأبديّ إلى زمن الأصول، الأمر الذي يسمح باستحضار تجربة أو حادثة متخيّلة لتُـعاش من جديد. فتكرار تقنية ناجعة للطقس، يسمح في الآن نفسه بالتحكم في الزمن رمزيّا (باستحضار أحداثه المؤسّسة) والحفاظ على تناغم البناء المعماري للعواطف والصور المشكلة للوعي الجمعي.(الحواشي، 2010: 55) من هنا يأتي إحساس الزائرين بالقدرة الخارقة على المشي الطويل دون تعب، والود المتبادل، والشعور بالوحدة الجماعية بفعل الفوران والجيشان الجمعي الذي يوفره الطقس. أي أن الشيعي يجب أن يعيد زمن التأسيس المقدس دوريا بالطقس بتمثيل الحدث رمزيا سواء بتصميم القفص سجن الكاظم او المسير الجماعي الذي يعتقد الشيعي انه تكرار لمسيرة زينب بنت علي حينما اقتيدت من كربلاء إلى الشام أسيرة. بالتالي يشهد كل شيعي الحدث التاريخي بمحاكاة مسيرها ذلك الحدث ويعيش أحداثه الحاضرة/الماضية ويتفاعل معه نفسيا جماعيا. ولو كان صحيحا هذا التصور لكان المسير لازما في طقس زيارة 10 محرم فقط، و لأصبحت المواكب بدعة لعدم وجودها في طريق زينب الى الشام؟ وأتصور أن هذا المسير هو بالأصل تكرار "للزوار" الأوائل حينما كان يتعذر وجود وسائل النقل والتي ان وجدت يعجز عن ركوبها كثير من الفقراء ولاتستوعب الاعداد ولاتسمح بها السلطة اساسا، ناهيك عن منع السلطات لهذه الطقوس، لذلك أن المشي وسيلة خفية من عيون السلطة للممارسة طقس. وفي جميع الحالات يكون الطقس هو تكرار للزمن الأول بالعودة لسلوكيات التأسيس "للزوار الأوائل". وأتصور أن "مواكب الخدمة" مرحلة متأخرة بطقس الزيارة بعد أن أصبح الطقس مباحاً علناً.
ان تلك الطقوس توفر تجربة مشتركة ضرورية للحفاظ على الدين المنظم المنسق القائم من الشبكات الاجتماعية، وكان تأكيد الزيارة على تواريخ محددة من السنة يجمع الناس من عدة مجتمعات متقاربة في تظاهرة مشحونة بالعاطفة تعبيرا عن وحدة الهدف، وتعزيز التضامن الديني والاجتماعي. الزيارة في الفكر الشيعي تعضد تضامن الشيعة وتحقق ملامح الجماعة والحفاظ على ذاكرة الشيعة الجمعية وهويتهم الجماعية، للحفاظ على هويتهم دون الذوبان بالمذاهب الاخرى(فياض، 2016: 56،57)
أما تحقيق الحاجات الدنيوية التي ينتظرها الشيعي كجزاء من "زيارة" الضريح، فهذا ما يسميه مارسيل موس نظام الخدمات الكلية أو الشاملة. وهي ظاهرة اجتماعية درسها عند بعض المجتمعات البدائية لدى قبائل شمال المغرب الأمريكي وشعوب جزر المحيط الهادئ. فتبادل الهدايا بين البشر المتجانسين من حيث الروح يحث أرواح الموتى، وكذلك الآلهة والأشياء والحيوانات والطبيعة، على أن تكون "كريمة معهم". ذلك أن تبادل الهدايا كما يفسره أصحابه يؤدي إلى وفرة في الثروات. "وأول مجموعات الكائنات التي دخل معها البشر في عمليات تعاقد- وهي في الأساس لم تكن موجودة إلا للتعاقد معهم- قبل كل شيء أرواح الموتى والآلهة. وفي الواقع، إن هذه الكائنات هي المالكة الحقيقية للأشياء ولكل ثروات العالم، فهي التي كان من الضروري جداً إقامة التبادل معها وكان كذلك من الخطر الشديد الامتناع عن ذلك." "إنه الاعتقاد في أن التبادل يجري مع الآلهة تعرف رد ثمن الأشياء." "إذ إن هذه الآلهة التي تعطي وترد الهدية موجودة كي تعطي الكثير مقابل القليل." وفي العادة يجب الرد على البوتلاتش (الزامية تقديم الهبة وقبولها والرد عليها بهبة) بطريقة ربوية. فمن خلال هذه الهبات تترتب بين القادة وأتباعهم وبين هؤلاء وتابعيهم علاقات هرمية، فالعطاء يعني إظهار التفوق وعلو المكانة والأهلية للقيادة، وقبول العطاء دون الرد بمثله أو بأحسن منه معناه قبول وضعية التابع، والتحول إلى زبون وخادم. (موس، 2011: 58_64) وفي المجتمع العراقي فإن الذي يصرف ويمنح لآخر، يكون الواهب صاحب فضل أشبه بسيد يستعبد المفضول عليه، ويجسد علاقات السلطة، فالرجل يحكم البيت لأنه يصرف عليه، ومن العيب أن يعيش الرجل من مال زوجته ("زوجته تصرف عليه" بالعامية) لأن السلطة ستكون بيد زوجته بدلاً منه وبذلك يكون عار عليه، والعراقي يتضايق من إعلان صاحب الفضل بفضله على اسم المفضول عليه، لأنه ترجمة لعلاقات السلطة. باستثناء المقدس الذي يعطي ضعف ما يأخذ، دون شعور الفرد بالعار والذل من خلال قبول سلطته الاجتماعية. أي أن نظام تبادل الهبات مع الضريح بالوقت الذي يوفر آلية معيشية نفسية ناجحة التوفيق الدنيوي، فإنه يثبت بنفس الوقت سلطة المقدس كقادر على العطاء المضاعف يفوق ما يقدمه العابدين له المحتاجين لخدماته، أي إقرار بسلطة الجماعة.
فالمبدأ الذي يرتكز عليه النذور ينم عن فكرة هامة في ذهن وقلب الانسان، هي ان القوى الغيبية يمكن ان تساعد الانسان على قضاء حاجاته والتخفيف عنه، ومن خلال التقرب للولي الذي يفلت من قيود الواقع والزمان والمكان بواسطة الادعية والنذور. والزيارة هي الضمانة الاكثر لنيل الشفاعة، وانقاذ شعبه من المكاره والضيق والجوع او الشفاء، لهذا يلتمسون حاجة او رجاء او توسل او شفاء مرض والحصول على الاجر والبركة فقد كان المقعدون واصحاب العاهات يجاورون ضريح (علي) ليتبرؤا من امراضهم، فضلا عن النذور التي مثلت موردا اقتصاديا قوياً. ولما وقع طاعون بالعراق طاف الناس بقبر (حسين) استشفاءً واعتصاما به. وفي الحلة شاع فيها طريقة لعلاج العقم وهي ان تربط امرأة نفسها الى احد الأئمة وتنذر نذور وتفي بالنذر اذا رزقت بمولود. ومثل (موسى الكاظم) باب الامان وباب المراد، حتى ان سكان الريف يسمونه "ابو طلبه" لأنه لا يرد احدا.(73 فياض، 2016: 68_73)
فكلما ينفق الفرد أموالا لأحياء الطقس تزداد تلك الأموال في المستقبل. وهذا ناتج عن أن المتبرع بالمال يكسب الثقة الاجتماعية والتقدير المعنوي من الافراد وبذلك يزداد عدد زبائنه في البيع والشراء، كما ان التشهير بتحقيق النذر يكون احد مصادر الدعم لشرعية الموكب واهميته الدينية الاجتماعية. والمتبرع للموكب يكسب التقدير الاجتماعي والوجاهة، وهو راس مال معنوي واجتماعي، واصبحت مسالة التبرع تقاليد اجتماعية تمارس التقاليد والعادات نوعا من القهر والإلزام على الفرد.(الابيض، 2017: 74_76)
يمكن اختصار الزيارة من وجهة نظري الاجتماعية، أن الشيعة في اي مناسبة دينية تقوم بمحاكاة الجماعة التاريخية الاولى من خلال الطقس في محاولة وهمية بالرجوع الى الزمن المقدس، يتضمن هذا الرجوع اعادة انتاج الجماعة بتنشيط تلاحمها وهويتها، ويقدم الطقس للافراد المنخرطين به قضاء حاجاتهم الدنيوية (تحقيق مراد، طلب حاجة، تفريج شدّة، شفاء مرض، إيجاد تعيين، تزويج) ثم الأخروية (الشفاعة)، التي يردها/يلبيها لهم "الإمام" عاجلا أم آجلا، وإذا تأخر الرد فيفسر ذلك بذنوب قديمة أو عدم إخلاص النية من "الزائر" والقيام بتكرار الزيارة. وجميع هذه السلوكيات منسوخة من النظام الاجتماعي بدأ من نظام تبادل الهبات (رد الفضل والواجب اجتماعيا). واستقبال الضيوف وخدمتهم، وتقديم المأكولات على طريقة السوق. ولا يخرج النواح عن الثقافة والممارسة الشعبية، وعرف العرب قبل الاسلام وبعده الرثاء، وكان الشعراء يبكون الموتى وسموا ذلك بالنواح، وكانت النيران تحمل أثناء تشييع الجنائز وتتبعها النوائح. وان لطم الوجه كان رمزا تقليديا للتعبير عن الحزن والألم في المجتمعات الشعبية العربية.(فسر بعض الباحثين نشأة النواح في الشرق باعتباره نتيجة للتحولات الفصلية التي تحل بالأرض وتسبب الجدب والقحط وهو ما يدفع الى القيام باحتفالات دينية لاستجلاب الخصب او انها ارث حضاري بابلي) (فياض، 2016: 77_79). والطقس يذوب ملكية الفرد في ملكية جماعية لاعادة دمجه دوريا كلما برد ارتباطه بالجماعة.
_________________
المصادر:
_مهتدي الأبيض، اجتماعية التّدين الشعبي، دراسة تأويلية للطقوس العاشورائية، الطبعة الأولى، الرافدين، بيروت-لبنان 2017.
_د. محمد فياض، التشيع الشعبي في العراق (61-656ﻫ/680-1258م) دراسة تاريخية، الطبعة الاولى، روافد للنشر والتوزيع، 2016.
_مكاتبة مع صديق لي يبلغ العقد الثالث من العمر، بكلوريوس فنون جميلة من سكنة بغداد، مزاول للطقوس الشيعية.
_منصف الحواشي، الطقوس وجبروت الرموز: قراءة في الوظائف والدلالات ضمن مجتمع متحول، إنسانيات، المجلة الجزائرية في الأنثروبولوجيا والعلوم الاجتماعية، 2010 https://insaniyat.revues.org/4331
_مارسيل موس، بحث في الهبة، شكل التبادل وعلّته في المجتمعات القديمة، ترجمة المولدي الأحمر، المنظمة العربية للترجمة، الطبعة الأولى: بيروت2011.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. باريس سان جرمان يأمل بتخطي دورتموند ومبابي يحلم بـ-وداع- مثا


.. غزة.. حركة حماس توافق على مقترح مصري قطري لوقف إطلاق النار




.. لوموند: -الأصوات المتضامنة مع غزة مكممة في مصر- • فرانس 24 /


.. الجيش الإسرائيلي يدعو إلى إخلاء -فوري- لأحياء شرق رفح.. ما ر




.. فرنسا - الصين: ما الذي تنتظره باريس من شي جينبينغ؟