الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أدونيس وتعطيل العقل

سعود سالم
كاتب وفنان تشكيلي

(Saoud Salem)

2022 / 2 / 24
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


أركيولوجيا العدم
١٢٢ خلخلة الحواس وتعطيل العقل

أدونيس في هذا النص الذي ذكرناه سابقا - "رامبو - مشرقيا، صوفيا".والذي نشر في مجلة "مواقف"، العدد ٥٧، عام ١٩٨٩، ثمّ في كتاب "الصوفيّة والسورياليّة" ١٩٩٢ يؤكد مجموعة من الفرضيات الإعتباطية والتي لا تستند على أية أسس من أي نوع، مثل قوله : "لا نجد في شعر رامبو تأثرا بالثقافة التي تأثر بها كتاب الغرب وشعراؤه، آنذاك، عنيت الثقافة اليونانية من جهة، والثقافة اليهودية - المسيحية من جهة ثانية، مما يعني، تبعا لذلك، أن تجربته فريدة، داخل الثقافة الفرنسية ذاتها، وغريبة على الشعر الفرنسي" (ص٢٣١). إن مثل هذه التهويمات اللآعقلية لا يمكن أخذها في الإعتبار ونضعها على حساب المبالغات الشعرية التي تنسى أو تتناسى الواقع والأحداث والحقائق التاريخية على الدوام. فرامبو نشأ وترعرع في بيئة فرنسية تقليدية، وتعلم في المدرسة الفرنسية، درس اليونانية واللاتينية، ولم ينزل عليه الوحي الصوفي من السماء كما أنه لم يكتب نصوصه بالقريشية أو الفارسية وإنما بلغة موليير كما يقال. وكان يقوم بكتابة الواجبات المدرسية باللغة اللاتينية والفرنسية واليونانية للطلبة الأغنياء في المدرسة، نظير أجر يتقاضاه لتحسين ظروفه الاقتصادية، بالإضافة إلى التربية الكاثوليكية الصارمة التي تلقاها من والدته والتي فرضت عليه الذهاب للكنيسة أيام الآحاد، حيث كان عقابه إذا ما قام بعمل ترفضه والدته هو حفظ مائة بيت شعر باللاتينية. كما أن أولى قصائده الشعرية كانت باللاتينية والتي نالت عدة جوائز ومنها قصيدة "جوغورتا"، التي كتبها في يوليو ١٨٦٩ وهو لم يصل بعد سن الخامسة عشرة من عمره، والتي يندد فيها بالإستعمار الفرنسي للجزائر ويدافع عن الأمير عبدالقادر الذي ينعته بيوغورتا الجديد.
غير أن أدونيس فيما يبدو وسع مفهوم الثقافة العربية لتشمل التاريخ برمته بما في ذلك اللغة الفرنسية ذاتها ولذلك يقرأ رامبو بوصفه شاعرا مشرقيا صوفيا ويجد في شعره "ابعادا أساسية من الرؤية الإبداعية العربية". ويفسر أدونيس قصده من إستعمال كلمة "العربية" قائلا : " إنني أستخدم هذه الكلمة بمعنى خاص وفي سياق يستبعدان العرق والقومية والدين، بحصر الدلالة، بحيث تشير هذه الكلمة حصرا إلى تركيب ثقافي خاص، تمتد جذوره إلى ما قبل الإسلام واللغة العربية، إلى الهند وفارس واليونان، وإلى سومر وبابل، مرورا بالنبوتين اليهودية والمسيحية. وهو تركيب أئتلفت عناصره، في مناخ الإسلام، المتوسطي على الأخص، وأفصح عن هويته باللغة العربية." - ص ٢٣٢ إنطلاقا من هذه النظرة الشمولية، فإنه ليس هناك مكان لأي تسميات أخرى ولأي ثقافات مغايرة، فالفكر العالمي عامة يختمه بختم العروبة والإسلام، ولكن في سياق "يستبعد العرق والقومية والدين"، الشعر حقا يسمح بقول ما لا يقال، لأنه يستبعد العقل والمنطق ويسبح في بحر الظلمات والخرافات. أدونيس أراد أن يدخل رامبو في زريبة الثقافة العربية عنوة وبأي ثمن، وحتى ثورة رامبو على المجتمع الفرنسي الذي كونه، والتي تعتبر عاملا أساسيا في حياته القصيرة وفي أعماله الشعرية، فذلك لأسباب خارجية وليست من صميم هذه الثقافة " رامبو يثور على الغرب الثقافي والحضاري، بعناصر غير غربية، يمكن أن نسميها عربية " متناسيا أن رامبو قد عايش أكبر حادثة إجتماعية في نهاية القرن التاسع عشر وهي كميونة باريس ذات الطابع الثوري الأناركي وأنه كان يقرأ بودلير وفيرلين ومالارميه وهوجو وغيرهم من الشعراء، وأن قوة الثقافة والفكر الغربي وميزته الأساسية هي قدرته على الثورة على ذاته ومراجعة قيمه ومبادءه والقدرة على النقد الجذري لكل مكونات هذه الثقافة.
الفرضية الأخرى التي يقدمها أدونيس كحقيقة تتعلق بنص رسالة رامبو المذكورة سابقا إلى إيزامبار، والتي يقول فيها حسب أدونيس : " أريد أن أكون شاعرا، وأنا عامل على أن أصبح رائيا (…) المسألة هي الوصول إلى المجهول بتعطيل الحواس كلها ". أما في الرسالة الثانية إلى الشاعر بول ديميني فإنه يقول، حسب الترجمة التي تبناها أدونيس : " يصبح الشاعر رائيا بتعطيل الحواس كلها، تعطيلا طويلا، فائق الحد ومدروسا (…) إنه عذاب لا يوصف، يحتاج فيه إلى الإيمان كله، إلى القوة الإنسانية الفائقة، كلها، حيث يصبح بين الجميع المريض الكبير، المجرم الكبير، الملعون الكبير - والعارف الأسمى - ذلك أنه يصل إلى المجهول ". بالنسبة لأدونيس : " إن ما يقوله رامبو في الرسالتين يكاد أن يكون استعادة شبه حرفية، لكن بلغة حديثة، لما كان يقوله الصوفي العربي". غير أن رامبو في هاتين الرسالتين لم يقل بتعطيل الحواس، وترجمة أدونيس غير دقيقة، بل غير صحيحة، ربما عمدا وعن قصد لتتناسب مع مشروعه لإلباس الخرقة للشاعر البريء، وإنما قال بضرورة تشويش الحواس dérèglement de tous les sens، ولا شك في وجود فرق كبير بين تعطيل Désactiver الحواس، وبين تشويشها، تعطيل الحواس يعني موت الحواس وتوقفها عن كل وظيفة، ولو مؤقتا، بينما المعنى الواضح والبسيط في اللغة الفرنسية لكلمة dérèglement هو "اختلال - تشويش" مدروس للحواس بحيث تصبح حواس الشاعر مشوشة ومختلفة وغير متوقعة، وليست "معطّلة" كما يتمنى أدونيس.
ذلك أن أدونيس ينتقل من فكرة تعطيل الحواس إلى فكرة أكثر راديكالية وهي فكرة "توقيف العقل" واللجوء إلى المعرفة الحدسية النابعة من "القلب" حيث يقول : "وكما أعلن المتصوف العربي الحرب على الظاهر العقلاني توكيدا للباطن الحدسي أو الرؤيوي، أعلن رامبو الحرب على الثنائية العقلانية الديكارتية التي تؤسس للمعرفة الموضوعية - العلمية في الغرب (…) على الأخص معارضا مقولة ديكارت ( أفكر، إذا أنا موجود ) بقوله : أنا هي آخر ( je est un autre )، ويمكن أن نصوغها بقولنا "أفكر، إذا أنا لا أنا"، كما يقول المتصوف" ص٢٣٩. وهذا تفسير، يلوي عنق الحقيقة كما يقال وبعيد جدا عن مرمى الشاعر، حيث أنه لا يمكننا المقارنة بين الكوجيتو الديكارتي والذي جاء بعد عملية طويلة ومعقدة من الشك المنهجي، كنتيجة منطقية لهذا التأمل الفكري، والذي يتعلق أساسا بإشكالية تأسيس يقينية الوجود وإمكانية المعرفة، وبين فكرة رامبو المتعلقة بهوية الأنا وليس بوجود هذه الأنا. أما قوله بأنه يستطيع أن يصوغ عبارة رامبو بقوله : "أفكر، إذا أنا لا أنا"، فهو أيضا بعيد عن الواقع والمنطق الداخلي للجملة، رامبو لا يتحدث عن التفكير، كما أنه لم يدخل أي نوع من السلب في الـ "أنا"، إنها فقط آخر، ويمكن تفسيرها ببساطة شديدة بأنه ليس كما يراه الآخرون ولا يرى نفسه كما يراه الآخرون،.
هاتين الرسالتين تشكلان رغبة رامبو في ممارسة الكتابة بطريقة جديدة، بيان شعري واضح الأهداف حيث "الشاعر يصير رائياً عبر تشويش الحواسّ كلّها، تشويشا طويلاً، عظيماً وعقلانيّاً". هذه الجملة البسيطة تمثل المشروع الفني الذي تخيله الشاعر وكذلك مفتاحا لفك طلاسم الخارطة الشعرية واللغوية المعقدة لإمكانية الدخول وقراءة المفهوم الشعري الجديد الذي طرحه رامبو والذي لا تغيب عنه العقلانية بأي حال من الأحوال. صحيح أنّ هدف رامبو هو تَجاوُز الحواسّ والعقلانية، لكنّه يعي أنّ هذا التجاوز هو عملية إرادية معقلنة ومبرمجة من قبل الشاعر نفسه حسب برنامجه الجمالي والفني. أدونيس في هذا المقام ينسى أن رامبو شاعرا وليس فيلسوفا، وأن رسالتي الرائي هي مشروع كتابة شعرية ومانيفيستو لشاعر في السابعة عشرة من عمره، منبهر بالثقافة اليونانية وبالذات بمقاطع من جمهورية أفلاطون عن الإلهام والشعراء، وأن إشكالية المعرفة تتعلق بالفلسفة وليس بالشعر، رغم أن عبارة رامبو تعبر عن إتجاه فلسفي لم ينضج بعد في هذه المرحلة وهو المدرسة الظاهراتية أو الفينومينولوجية التي أسسها هوسرل، وهو ليس شاعرا، بل جاء من عالم الرياضيات وأصبح فيلسوفا.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. دروس الدور الأول للانتخابات التشريعية : ماكرون خسر الرهان


.. مراسل الجزيرة يرصد آخر تطورات اقتحام قوات الاحتلال في مخيم ن




.. اضطراب التأخر عن المواعيد.. مرض يعاني منه من يتأخرون دوما


.. أخبار الصباح | هل -التعايش- بين الرئيس والحكومة سابقة في فرن




.. إعلام إسرائيلي: إعلان نهاية الحرب بصورتها الحالية خلال 10 أي