الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


خرافةٌ اسمُها: قبولُ الآخر!

فاطمة ناعوت

2022 / 3 / 2
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


Facebook: @NaootOfficial

في جميع مجالسنا ومقالاتنا وحواراتنا على الشاشات ومنشوراتنا على صفحات التواصل الاجتماعي، نظلُّ نُطالب بالديمقراطية والليبرالية والتعددية، ثم نزعمُ أننا نعتنقُ تلك المبادئ الحضارية الراقية، وكم نتمنى لها أن تسودَ بين الآخرين الذين لا يؤمنون بها حتى نرتقي وننهض، وأنَّ لا سبيل مطلقًا إلى بناء مجتمعنا إلا على تلك الأعمدة الراسخة من قبول الآخر واحترامه، مهما اختلف عنّا فكريًّا، مادام لا يدعو إلى عنف ولا يحرّض على جريمة. وضجّت منّا تلك الشعاراتُ الكبرى من كثرة ما لاكتها الألسنُ على المقاهي والصفحاتُ. ثم تفتحُ تلك الشعاراتُ عيونَها دهشة وتنظرُ في عيوننا وتتساءل في حَزَنٍ غاضب: "أيها المتشدّقون بالتعددية والقبول، هل بالفعل تتبنّون ما تتشدقون به في حياتكم كمنهج يومي، وفلسفة حياة؟! بل أنتم كاذبون تتكسّر أكاذيبكم عند أول صخرة تجربة.” جرّب أن تقولَ رأيَك في موضوع. أيَّ رأي في أيِّ موضوع. ستجد مَن يسبّك ويلعنك ويطعنك في شرفك وفي عرضك ويجعل منك شيطانًا رجيمًا وعميلا مُموّلا تقبضُ من الصهيونية العالمية والماسونية البتنجانية ويطالبُ بمحاكمتك وهدر دمك، إن كان رأيك مخالفًا رأيه. وفي المقابل ستجد مَن يُطوّبك ويمجّدك ويرفعك إلى عنان السماء ويُنصّبكَ قديسًا نبيًّا، إن كان رأيك موافقًا رأيه. كلاهما مخطئ، وكلاهما غير ديمقراطي وغير عادل. فلا أنت شيطانٌ رجيم، ولا أنت ملاكٌ مُطوَّب. أنت إنسانٌ عاديٌّ رأَى رأيًا؛ قد يصيبُ وقد يُخطئ. لكن مَن لعنوك ومن طوبوك أخطأوا تقديرك، لأنهم لا يرونك أنتَ، وإنما يبحثون عن "أنفسهم" داخلك.
ذاك عَرَضٌ من أعراض مرض "العقلية الأحادية” التي تُحيلنا إلى "الثنائية الفكرية". كن معي فأسمحُ لك بالحياة، أو اختلفْ معي فتصبحُ عدوي اللدود الذي يجب أن يختفي في الحال! ولا شيء بينهما! “الثالثُ مرفوعٌ”. إما أبيضُ أو أسود، إما معي أو ضدي، إما شمالٌ أو جنوب، إما ملاكٌ أو شيطان. بين الأبيض والأسود ملايينُ الرماديات، بين "المعي" و"الضدي" ملايينُ الآراء، بين الشمال والجنوب ملاييُن من خطوط الطول والعرض، وبين الملاك والشيطان “إنسانٌ” يمتلك عقلا يفكر يصيبُ ويخطئ. "العقلية الناقدة" أين؟ خرجت ولم تعد. لقت مصرعَها إثر حادث أليم دبّرته غزواتٌ ظلامية تكفيرية ممنهجة، ضربت العقلية المصرية الحضارية في مقتل فصرعتها مع سبعينيات القرن الماضي. لهذا نتأخر، وسوف نتأخر، ولن تكفينا ألفُ ثورة. مَنَّ اللهُ علينا بحاكم حكيم يدعونا إلى التفكير واحترام الآخر، اسمه "عبد الفتاح السيسي"، لكن الداءَ مازال يسكنُ خلايانا، ونرفضُ أن نتعلم فنَّ الاختلاف دون خلاف ومُلاعنة وتكفير ونحر رقاب وتمزيق أعراض. هل علّمنا آباؤنا في طفولتنا أن مَن يُخالفنا الرأيَ أو العقيدة ليس شيطانًا؟ وهل علّمنا نحن هذا لأطفالنا؟ كم واحدًا منّا يؤمن بـ ويطبق مبدأ الإمام الشافعي: “رأيي صوابٌ يحتملُ الخطأ، ورأيُكَ خطأٌ يحتملُ الصواب"؟
دعوني أحكي لكم قصة طريفة. ذهب رجلٌ إلى مكتبة عامة يبحث عن كتاب معين. شاهد القرّاء جالسين إلى طاولات القراءة، وسيماءُ الجِدّ مرتسمةٌ على وجوههم. وثمة لوحة معلّقة على الحائط: “ممنوع الكلام". تجوّل الرجلُ في هدوء بين رفوف المكتبة يتصفحُ عناوين الكتب: الصراع، أستاذية العالم، فنون الحرب والقتال، الحرب العالمية الثالثة، عذاب القبر، …. وبعدما أعياه البحثُ عن كتابه المنشود، مضى إلى أمين المكتبة وسأله: (من فضلك، أبحثُ عن كتاب: ’قبول الآخر عند العرب‘.) نظر إليه صاحبُ المكتبة نظرة ارتياب، ثم قال في سخرية: (لا نعرضُ الكتب الخيالية يا حضرة المحترم!). جاء هذا السيناريو في لوحة كاريكاتير رسمها الفنان المصري "ميلاد ثابت"، ونشرها على صفحته. وبقدر ما يحمل الكاريكاتير من مرارة ممزوجة بالابتسام، بقدر ما يحملُ من واقعية علينا ألا نمررها دون تدبّر. علينا التوقف لمحاسبة النفس. هل بالفعل تُعدُّ قيمة "قبول الآخر" لدينا من أدبيات الفولكلور الخرافي التي نتغنّى بها في مقالاتنا، وفي أغانينا، وعلى الشاشات، لمجرد الاستهلاك و"الشوو" والمزايدة والتباهي، بينما لا نمارسها في حياتنا لغرورنا؟ أم أننا لا نقوى على ممارستها لضعفنا وهشاشتنا؟ هل هي بالفعل ضربٌ من الخيال مثل قصص الجنيّات والغابة المسحورة مما كانت جدّاتنا يحكين لنا قبل النوم، لكي نحلُم بعالم جميل ممتاز، أنيق وعادل، لكنه "خيالي" لن نراه في صحونا؟ فعلا، نحن لا نعرض الكتب الخيالية في مكتبات عقولنا. عقولنا لا تحمل إلا كتب رفض الآخر واغتياله أدبيا ومعنويا وربما فعليا. وأكاد أسمعُ الديمقراطية والليبرالية والتعددية وقبول الآخر تضحك قائلة: “آدي دقني لو فهمتونا صح يا ولاد العرب!”


***








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - مقالتك صحيحه وحكيمه-ولكن كيف الخلاص من هذه العتمه
الدكتور صادق الكحلاوي ( 2022 / 3 / 3 - 01:56 )
عدم الاعتراف بالاخر طامة كبرى-لقد اتيح لي ان اعيش نشطا في بلدان عربيه عدة-وتعلمت ان اقول ربع راءيي او نصفه وان لا اخلق لنفسي العداوات-ولحسن حظي عشت ايضا عشرات السنين واعيش الان في الغرب حيث اختلاف او تعدد الاراء والمواقف لاتستدعي العداوه انما تستدعي المناقشه للتقارب اذا الامر يتطلب عملا مشتركا او الاستزاده بالمعرفه للاقتراب من صاحب الراءي الانضج وفقا لمعايير معروفة للناس او في البيئات الاكاديميه-المهم هنا ان اساءل الاستاذه الكاتبه ان تنورنا كيف نستطيع تقليم اظافر هذه الافه للوصول لما صار طبيعيا عند شعوب الغرب لحرة المثقفة -تحياتي

اخر الافلام

.. 145-An-Nisa


.. د. حسن حماد: التدين إذا ارتبط بالتعصب يصبح كارثيا | #حديث_ال




.. فوق السلطة 395 - دولة إسلامية تمنع الحجاب؟


.. صلاة الغائب على أرواح الشهداء بغزة في المسجد الأقصى




.. -فرنسا، نحبها ولكننا نغادرها- - لماذا يترك فرنسيون مسلمون مت