الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عن تراثنا والعولمة..أين نحن منهما؟

الطيب طهوري

2022 / 3 / 3
المجتمع المدني


- لكي نعرف كيف هي العلاقة بين تراثنا والعولمة لابد أن نحدد مفهوم كل طرف منهما..
فماذا نعمي بالتراث؟..ماذا نعني بالعولمة؟..
يمكن القول إجمالا بأن التراث هو كل ما تركه الأسلاف لنا مما ارتبط بحياتهم عبر التاريخ من نظم سياسية وفكرية واجتماعية وفلسفية ودينية وإبداعات في مختلف الفنون والعلوم والعمران، وايضا ما تميزوا به من مواقف من مختلف قضايا الحياة وتصورات لها.. إلخ..وهو ما يمكن القول بأنه يمثل ، نسبيا،هويتنا أو ما يميزنا عن غيرنا، رغم إيماني بان الهوية ليست وجودا ثابتا على حال واحدة، بل هي في الأساس وجود متغير باستمرار،ببطء كبير، أحيانا ،وببطء أقل كبرا،أحيانا أخرى..وبمدى انغلاق المجتمع على ثقافات المجامعات الأخرى أوأنفتاحه عليها..تطور المجتمع أوجموده، تطور وعي الناس وانفتاحهم على الحياة، أو تخلفهم وانغلاقهم هما ما ومن يحدد نوع ذاك التغيير..
أما العولمة فهي، في واقع اليوم، هيمنة القوى الغربية بنظامها الرأسمالي على العالم اقتصادا صناعيا وزراعيا ،ونظما سياسة ومعرفة فكرية وعلمية وإعلاما وثقافة بشكل عام، حيث الناس في كل مكان يخضعون في أسلوب حياتهم لمنتجاتها عموما، ومنتجاتها المادية خصوصا..فهل نحن ، كما كل مجتمعات اليوم، خاضعون لهيمنة تلك القوى،وما محل تراثنا من ذلك الخضوع؟ هل استفاد وأفاد أم تقلص وجوده في حياتنا ولم يعد ذا تأثير كبير علينا؟..
واقع الحال يقول بأن تراثنا، كما كل تراثات الآخرين، ليس واحدا، بل هو متعدد..وهو تراث خضع في تواصل وجوده ،بهذه الكيفية أو تلك، للقوى التي تحكمت في تاريخنا، أعني الأنظمة السياسية التي حكمت أسلافنا عبر تاريخهم في علاقاتها بغيرها من قوى الأنظمة التي حكمت الشعوب الآخرى..
لنتأمل..كيف هو تراثنا؟..
سياسيا: في كل تاريخنا العربي - أقول العربي، لآنه التاريخ الذي نعرفه أكثر من تواريخنا الأخرى، ما قبل حكم العرب المسلمين لنا- كان الحكم استبداديا، يصل الحاكم فيه إلى كرسي الحكم بالقوة،لا بإرادة الشعب،مع بعض الاستثناءات المحدودة جدا جدا..يعمل هذا الحاكم أو ذاك على اعتباره الدولة ملكه الخاص يتصرف فيها كما يشاء..يتعامل مع محكوميه على أساس انهم رعايا خاضعون لا مواطنين مسؤولين..
اقتصاديا: في معظم الحالات كان الاقتصاد ريعيا،يعتمد، في الغالب على الاستيلاء على ما عند الاخرين بالغزو، وعلى التجارة بما فيها تجارة العبيد..وعلى ما تجود به الأرض التي يفلحها العبيد وغير العبيد، وهم في الحالتين مستغلون..
دينيا: هيمن الفقهاء على ذهنيات ونفسيات الناس عبر التاريخ، ويهيمنون الآن أكثر..والكثير منهم كانوا خدما طيعين للحكام يبررون لهم أفعالهم ويعطونهم الشرعية الدينية..
غني عن القول هنا أن الدين حين يتنزل إلى الواقع يصير فهوما، والفهم الذي يسيطر هو فهم الذين يمتلكون القوة ويتحكمون بها،أي فهم السلطة عموما..وحتى إذا ظهر فهم آخر لقوى معارضة فإنه يصير الوسيلة التي بها تصل تلك المعارضة إلى الحكم وتبرر به أفعالها بعد ذلك، حيث لها هي أيضا الفقهاء الذين يقفون في صفها..
ثقافيا: هيمنت الثقافة الدينية على المجتمع العربي المسلم عبر كل تاريخه، وشكلت بذلك النسق الثقافي العام الذي يميز ذلك المجتمع..ورغم ظهور بعض الفكر الفلسفي العقلاني أحيانا هنا أو هناك، في هذه الفترة أو تلك، فإنه كان فكر أفراد لا مؤسسات قوية مؤثرة،وحتى في حالة وجود قوة متحكمة في السلطة تقف في صفه أحيانا، فإنه سرعان ما يجد الرفض والنبذ بمجرد زوال تلك القوة..وبمعنى آخر، كان ذلك الفكر الفلسفي العقلاني منبوذا اجتماعيا ودينيا، وكان أصحابه كثيرا ما يتعرضون لهجوم الفقهاء ومن ورائهم عامة الناس، حيث يتهمون بالزندقة والإلحاد والإساءة إلى الدين..وهو ما يعني أن الثقافة التي هيمنت عبر تاريخ العرب المسلمين كانت ثقافة مغلقة، في عمومها،ترفض المختلف..لا تقبل النقد الذي يوجه إليها..تحارب الفكر الفلسفي..تنحاز للنقل بدل العقل..وحتى الذين حاولوا أن يوجدوا طريقة بها يقربون بينهما وجدوا انفسهم منبوذين ومحاربين ( ابن رشد مثلا)..
اجتماعيا: كان المجتمع العربي المسلم طوال تاريخه مجتمعا ذكوريا بدويا،يتعامل مع المرأة على انها عنصر خاضع لا إرادة له، يتحكم فيها بعقليته وينظر إليها على انها وسيلة للمتعة والإنجاب، غالبا..
- نتباكى اليوم كثيرا على هويتنا التي شكلها ذلك التراث..نرى أنها تكاد تضيع منا نتيجة ما نسميه بالغزو الثقافي الغربي..نعمل على الانكفاء أكثر على ذواتنا،نفرط في التدين أكثر..نحارب كل فكر ينقدنا وينقد ثقافتنا تلك..نرى في ذلك النقد الوسيلة التي بها يعمل الغرب على القضاء على هويتنا..ونرى في أصحاب ذلك الفكر عملاء لذلك الغرب، خونة ملحدين..والنتيجة التي تتأتى من كل ذلك هي رفضنا الذي يكاد يكون مطلقا لفكر الحداثة سياسيا وثقافيا واجتماعيا وإبداعيا..فهل نختلف في كل هذا عن أسلافنا؟..لا شيء..ما زلنا كما كان أولئك الأسلاف..نسقنا الثقافي العام مغلق هو الآخر..
ما تزال الأنظمة التي تحكمنا أنظمة ديكتاتورية، لا تختلف في شيء عن أنظمة الحكم عبر تاريخنا العربي الإسلامي..ما يزال الناس رعايا خاضعين لا مواطنين مسؤولين..ما يزال مجتمعنا اليوم، رغم انتشار التعليم بشكل واسع، مجتمعا ذكوريا في أغلبه..ما يزال اقتصادنا ريعيا..لم يعد هناك غزو..لم تعد هناك تجارة للعبيد..لكننا ما نزال نعتمد على ما تجود به الأرض..نصدره لنستورد ما يشبع حاجاتنا..مسؤولونا في مختلف رتب المناصب يتعاملون مع مناصبهم كوسائل ريعية يستغلونها لخدمة مصالحهم الشخصية والأسرية والقبلية..لا مجال للفرد الحر بيننا..مجتمع قطيع نحن..
شعوب كانت في مثل وضعنا في الستينات تجاوزتنا كثيرا كثيرا في تطورها واندماجها في الحداثة فكرا واقتصادا ومعرفة وإبداعا،ونظما سياسية وقانونية، فيما لا نزال نحن نراوح في نفس المكان..بل ونزداد تخلفا، فيما الأنظمة التي تحكمنا تزداد قمعا لنا واستغلالا..
تأثير العولمة الوحيد علينا هو انخراطنا في ثقافة الاستهلاك بشكل كبير..انخراطنا كمستهلكين لا كمنتجين..
- خلاصة القول:
لم نستفد شيئا من حداثة الغرب في شتى تجلياتها السياسية ( الديمقراطية) والثقافية ( فكرا اجتماعيا مبنيا على أساس حرية التفكير والرأي والمساواة بين المرأة َوالرجل في الحقوق والواجبات وعلى أساس المواطنة عموما)، والفلسفية حيث التفكير الحر الذي لا حدود له..وحيث الفكر النقدي الواسع..
ما نزال لا نختلف في شيء عن أسلافنا، باستثناء الأكل واللباس واستعمال ما ينتجه الآخرون من وسائل مادية متنوعة..
بمعنى آخر، ما نزال في العمق( فكرا وإبداعا وتصور حياة ومواقف من قضاياها) أسلافا..ما يزال تراثهم/تراثنا يتحكم فينا ذهنيا ومشاعريا بشكل كبير جدا جدا..
مظهريا، نحن حديثون جدا..كل منتجات الحداثة نستهلكها، وربما أكثر من منتجيها هناك..
ما نزال في افتخارنا العنجهي بماضينا وتراثنا وأسلافنا..ما نزال نعتقد، ونحن نعيش شبه عالة على الآخرين، أننا خير الأمم..ما نزال طبليين نتحدث كثيرا، دون ان نقول كلاما مفيدا..نتدين كثيرا وننافق كثيرا..ما يزال الكسل يتحكم فينا..ما نزال اتكاليين نرفع أيدينا مفتوحة إلى السماء وننتظر حلول مانعيشه من أزمات تنزل منها..ما نزال نعيش التناقض بين ما ندعيه وما نفعله..ما نزال من أكثر شعوب العالم نفاقا..إلخ..إلخ..
- والحل؟..كيف نخرج من تراثنا الذي جعلناه وسيلة خنقنا ،وقتلناه بذلك الخنق وقتلنا أنفسنا،حيث لم يعد دافعا لنا لنضيف إليه، بدل اجتراره والهروب إليه والخوف المرضي عليه،والوقوف به ضد الانخراط في حضارة العالم كفاعلين مؤثرين، بدل بقائنا تابعين مستهلكين؟..
لا حل سوى النضال من أجل بناء دولنا المدنية الديمقراطية ( ولتكن ديمقراطية اجتماعية)، بما تعنيه من اعتبار الفرد مواطنا لا رعية خاضعة، بما تعنيه من بناء لفرديته بدل بقائه في حال مجتمع القطيع، بما تعنيه من بناء مؤسسات مستقلة قوية وفاعلة، بما تعنيه من بناء دولة القانون، بما تعنيه من إعادة النظر في منظوماتنا التربوية وجعلها منظومات تركز على بناء عقل الفرد المواطن المسؤول الذي يؤمن بالتعدد والاختلاف والعيش المشترك بين كل المكونين لمجتمعه مهما كانت عرقياتهم ومواقعهم الاجتماعية وأفكارهم ومعتقداتهم وتصوراهم للحياة ومواقفهم من قضاياها..إلخ..إلخ..الفرد الذي ينفتح على مختلف تراث الشعوب التي اندمجت بالعرب وشكلت معهم ما نسميه اليوم شعوبا أودولا عربية.. الأمر صعب، وصعب جدا، لكن..ليس لنا سوى هذه الطريق..
يعترض البعض عليَّ قائلا: هل منعت الديمقراطية الغرب من التعدي على الشعوب الخرى وإخضاعها؟..هل منعته من التعامل أحيانا مع شعوب المجتمعات الأخرى بعنصرية واحتقار؟..هل منعته من الوقوف في صف الأنظمة الديكتاتورية التي تحكم الكثير من دول العالم، مثلما هي الحال عليه مع الأنظمة العربية؟..
وأجيب: الديمقراطية مسار يتشكل تدريجيا..يتحسن بالنقد المتواصل لأخطاء بعض الذين يتبنونها كأفراد أوكأنظمة حاكمة..لا ننسى ان الذين يمارسون هذه السلوكات السلبية هم تلك القوى الاستعمارية أساسا، وهو ما يعني أن النزعة الاستعمارية ما تزال تؤثر عليهم وعلى توجهاتهم..لا ننسى أيضا أننا نحن العرب كمثال كثيرا ما ندفعهم إلى تلك الممارسات بأفعالنا السلبية التي تفتح لهم المجال للتدخل في شؤوننا أوالتعامل مع باحتقار وعنصرية..و..
هل تلك القوى المتغطرسة هي الديمقراطية وحدها؟..كم عدد تلك القوى يا ترى، إذا ما قارناها بعدد الدول الديمقراطية في هذا العالم؟..الهند، جنوب افريقيا،تركيا،كوريا الجنوبية،اليابان، الكثير من الدول الأوروبيو، ما ليزيا..إلخ، كلها دول ديمقراطية، وبفضل ديمقراطيتها تلك امكنها التقدم والمشاركة بفعالية في بناء حضارة العصر علما وفنا واقتصادا وفكرا..فلماذا ننظر إلى الجزء الفارغ من الكأس ونتعامى عن الجزء الممتلئ..ألا نرى سلوك الناس الإيجابي في الدول الديمقراطية حيث احترامهم للعمل والوقت والقانون مثلا؟..ألا نرى هذا التطور الشامللمختلف جوانب الحياة اقتصادا ومعرفة وفنا؟..ألا نرى أنفسنا وكيف يحلم الكثير منا بالعيش بينهم مثلما يعيش الكثير من أهالينا هناك وفي ظروف أحسن بكثير من ظروف العيش في أوطاننا؟..ألا يهرب الكثير من مفكرينا إلى هناك حيث حرية التفكير والرأي والتنظيم؟..
بالتأكيد، الديمقراطية ليست بناء جاهزا يسكن فيه الناس ويستريحون..الديمقراطية تبنى تدريجيا ،تخطئ وتصيب..تستفيد من أخطائها لتحسن مسارها..و..كلما كان الشعب أكثر وعيا وشعورا بالمسؤولية كانت ديمقراطيته أحسن..وهكذا..
تبنينا للديمقراطية لا يعني أننا سنكون جيدين مباشرة..لكننا، بالتأكيد، سنتحسن تدريجيا بالممارسة العملية ونرتقي..
بغير ذلك سنبقى على نفس حالنا اليوم، حال التخلف والقطيعية ( من القطيع)..حال اليأس والخضوع والخنوع..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. دعوة أممية لزيادة دعم اللاجئين السودانيين مع استمرار الحرب ا


.. هل تنجح المفوضية الأوروبية بإقرار قانون يسرع ترحيل المهاجرين




.. المفوضية الأوروبية: اقتراح قانون جديد لتسهيل عمليات ترحيل ال


.. إيطاليا تشرع بنقل أول مجموعة من المهاجرين إلى مراكز في ألبان




.. استمرار ارتفاع ا?عداد النازحين اللبنانيين ا?لى سوريا بسبب ال