الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مكانة اللغة والاسطورة في نمط الثقافة الإنسانية

محمد حسين النجم
استاذ جامعي / باحث اكاديمي

(Mohammed H. Alnajim)

2022 / 3 / 4
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


بقلم : ارنست كاسيرر
ترجمة : د. محمد حسين النجم

تصف الفقرة الافتتاحية لمحاورة أفلاطون (فایدروس ) كيف أن سقراط قد سمح لفايدروس , والذي التقاه صدفة ,ان يستدرجه إلى ما وراء بوابات المدينة عند ضفاف (اليسوس).وقد صور افلاطون خلفية هذا المشهد بأجمل تفصيل حين أضفى عليه سحرا وعبيرا لا يجارى , تقريبا , في الوصف التقليدي للطبيعة.
في ظل شجرة وارفة منتظمة , و عند حافة بئر بارد اضطجع سقراط و فایدروس . نسيم الصيف معتدل ولذيذ يعج بأغاني الحصاد. في عمق هذا المنظر الريفي الجميل. آثار فایدروس السؤال فيما إذا لم يكن هذا هو المكان الذي حمل بورياس أورثيا الفاتنة اليه وفقا للأسطورة ؛ فالمياه الصافية و الرقراقة هنا مناسبة تماما للعذراء كي تتريض وتستحم .
بعد أن ألح عليه فايدروس بأسئلة تتعلق بما اذا كان يؤمن بمثل هذه الحكايات او المخترعات الخرافية، رد سقراط بانه , على الرغم من كونه لا يستطيع القول بأيمانه بها، فهو , مع ذلك , ليس أقل ارتباكا بما يتعلق بدلالتها. لأنني، يقول سقراط (يمكنني أن اشرع، مثلما يفعل متعلم، وأقول , متوسلا تفسيرا ذكيا , بان اورثيا، وهي تلعب مع رفيقتها فارماسيا، قد حملت إلى الشواطئ البعيدة بواسطة بورياس , ريح الشمال، وبسبب أسلوب موتها هذا فقد قيل أنها حملت من قبل الإله بوریاس۰۰۰.ولكنني..)) أضاف ((من ناحيتي، فایدروس، اجد مثل هذا النوع من الأشياء بارعا إلى حد بعيد، ويمكن ان تعد مثل هذه التفسيرات , بالأحرى , عملا متكلفا ورتيبا ولن يحسد عليه من ينغمر فيه. سيكون عليه حتما أن يعلل (القنطور)) و (الخميريات ) ايضا، وسوف يجد نفسه مربكا بعدد وافر من المخلوقات، (الغرغونات) و (البيغاسوس) وما لا يحصى من الوحوش الغريبة . وان اي أمرئ يشك بوجود مثل هذه الموجودات المدهشة ويعالجها بهدف رد كل منهما الى تفسير قريب الاحتمال، سوف يلزمه الكثير من الوقت لينفقه على هذا النمط الفج من الحكمة , وليس لدي، على كل حال، فراغا لمثل هذه التسالي، والسبب في ذلك، يا صديقي العزيز , هو انني لحد الآن غير قادر على أن اعرف نفسي، كما يوحي وحي دلفي. وعليه، يبدو من السخرية بالنسبة لي أن اصرف اهتمامي بأمور عرضية، طالما أنا في جهل تام بنفسي، إذا تركت مثل هذه الأمور على علاتها ولم اعبا بها، وصرفت جهدي نحو ذاتي، وما إذا كنت حقا مخلوقا اكثر تعقيدا وغرابة من ( تيفون)، أو فيما إذا كنت، بمحض الصدفة وحدها، حيوانا اكثر لطفا وبساطة وتنطوي ماهيته على طبيعة الهية نبيلة .
نوع التفسير هذا للأسطورة، والذي تبناه السفسطائيون والخطباء، عصرذاك , باهتمام عال باعتباره ثمرة التعليم الأخلاقي، وذروة الروح المدنية، بدا لأفلاطون النقيض التام لهذه الروح , ولكن على الرغم من كونه كذلك ، فقد أسماه حكمة ساذجة , ومع ذلك فان حكمه هذا لم يمنع اجيال المتعلمين من الانغماس في هذا النوع من الحكمة لقرون قادمة .
وكما تنافس السفسطائيون والخطباء بعضهم مع الأخر في هذه الرياضة الفكرية أيام افلاطون، كذلك فعل الرواقيون والافلاطونيون المحدثون في الفترة الهلنستية . وكان علم اللغة و علم الاتمولوجيا دائما وابدا فرسي رهان هذا البحث . تبدو العبارة الفاوستية , هنا , في الأشباح وأنصاف الالهة، وكذلك الحال في حقل الدراسات العليا لعلم الأساطير ، مناسبة تماما : لقد تم الافتراض دائما بان ماهية كل عنصر اسطوري يمكن فهمها مباشرة من اسمه . التصور هو أن الاسم يرتبط بعلاقة ضرورية وداخلية مع الماهية، بمعنى أن الاسم ليس محض اشارة بل هو في حقيقته يمثل ماهية موضوعه ، اي ان (قوة)
الشيء الحقيقية تكمن في اسمه ، وهذا احد الافتراضات الأساسية في وعي مبدعي الأساطير ذاتهم , ويبدو أن علم الأساطير الفلسفي والعلمي يقبل ايضا بمثل هذا الافتراض .
أن ما يوظف في روح الأسطورة ذاتها كإيمان حي ومباشر، يصبح احد مسلمات المنهج التأملي لعلم الأساطير، أن ما يعتمد هنا كمبدأ منهجي هو مبدا العلاقة الصميمية بين الأسماء و الماهيات، و التطابق الباطني بينهما .
آن هربرت سبنسر، بشكل خاص، من بين الفلاسفة الذين حاولوا البرهنة على الأطروحة القائلة بان التبجيل الأسطوري الديني للظواهر الطبيعية ,كالشمس والقمر مثلا , تجد اصلها النهائي في شيء من سوء تفسير للأسماء التي يطلقها الناس على هذه الموضوعات . ماکس مولر من بين الفيلولوجيين اتخذ منهج التحليل الفيلولوجي ليس فقط كوسيلة لكشف طبيعة الموجودات الأسطورية، على الأخص في نصوص ديانة الفيدا، بل كذلك كنقطة انطلاق لنظريته العامة حول الصلة بين اللغة و الأسطورة . بالنسبة له ليست الأسطورة تحويلا للتاريخ إلى ملاحم خرافية، ولا خرافة تم قبولها كتاريخ، كما ان المؤكد هو أنها لم تنبع، بشكل مباشر، من تامل الأشكال والقوى العظمى في الطبيعة , ما ندعوه اسطورة، بالنسبة له، شيء ما تم تكييفه وإنجازه بوساطة اللغة ، أنها في حقيقتها، نتاج عيب اساسي، وضعف متأصل في اللغة , كل رمز لغوي يشوبه، بشكل جوهري، غموض , وفي هذا الغموض , الاشتراك في الكلمات، يكمن اصل جميع الأساطير .الامثلة التي يدعم بها نظريته، هي ما يميز مقترب ماكس مولر هذا , فهو يضع، كمثال أولى، أسطورة ( دوكاليون ) و( بيرها ) ، اللذين بعد أن أنقذهم زيوس من الطوفان العظيم الذي دمر النوع الإنساني، اصبحا الجد الأعلى للجنس الجديد من خلال رفع الصخور وطرحها على أكتافهم، حيث صارت الصخور رجالا. أن النظر إلى اصل الموجودات البشرية من الصخور , هذه ببساطة، أمر مضحك، ويبدو انه يتحدى كل تفسير، ولكن ألا يتوضح لنا فجأة حالما نتذكر حقيقة هي أن الرجال والصخور في اللغة اليونانية يرمز لهما بأسماء صوتية متطابقة أو على الأقل متوافقة , كذلك , أخذه أسطورة ( دافني)، التي أنقذت من شباك ابولو وفقا لواقعة هي أن أمها، الأرض، حولتها إلى شجرة غار . أن تاريخ اللغة وحده فقط الذي يمكن أن يجعل مثل هذه الأسطورة قابلة للفهم، ويعطيها معنى . من تكون دافني؟ لكي نجيب على هذا السؤال يجب علينا أن نلجأ إلى ( الأتيمولوجيا ). بمعني، يجب علينا أن نفحص تاريخ الكلمة . أن ( دافني ) يمكن تلمس أصلها في الكلمة السنسكريتية (أهانا). وأهانا تعني في السنسكريتية (حمرة الفجر)، وحالما نعرف هذا، تصبح القضية برمتها واضحة. ان قصة ( فويبوس ) و ( دافني) ليست ألا وصف لما يلاحظه المرء كل يوم : أولا ظهور ضوء الفجر في السماء الشرقية، بعدها شروق اله – الشمس وهو يغذ السير وراء عروسته، ثم الزوال التدريجي لحمرة الفجر حين تمسها الأشعة المضطرمة، واخيرا موتها أو اختفاؤها في صدر الام الأرض .
وهكذا فان الحجر الأساس في تطور الاسطورة لم يكن الظاهرة الطبيعية ذاتها، بل بالأحرى الظرف الذي جعل الكلمة الإغريقية للغار والكلمة السنسكريتية للفجر يترابطان , مما استتبع نوعا من الضرورة المنطقية , هي تطابق الموجودات التي تدل عليها. وهذا هو رأيه: (الأساطير امر حتمي، أمر طبيعي، أنها ضرورة متأصلة في اللغة، إذا ما أدركنا اللغة بصفتها الشكل الخارجي والظاهري للفكر، فأنها في الحقيقة ظل كثيف تلقيه اللغة على الفكر، والذي لا يمكن أن يزول حتى تصبح اللغة متطابقة
تماما مع الفكر، وهذا ما لن يكون ) ..
من دون شك، الأساطير قد تبعث بعنفوان أبان الفترات المبكرة لتاريخ الفكر الإنساني، إلا أنها لم تختف حتى ألان , وبناء عليه، فهنالك أساطير في عصرنا الحاضر مثلما كانت في عصر هومر، ألا إننا لا ندركها، لأننا أنفسنا، نعيش في ظل معين لها، ولأننا جميعا ننفر من الضوء الساطع للحقيقة... أن الأساطير، بأعم معنى، هي القوة التي تمارسها اللغة على الفكر في كل مجال ممكن من مجالات النشاط الذهني)).
لعله مسعى غير مجد أن نعود القهقري إلى وجهات نظر مثل هذه، والتي هجرت منذ أمد بعيد في الدراسات الأيتمولوجية و علم الأساطير المقارن , في يومنا هذا , حيث لم تؤيدها الوقائع . أن وجهة النظر هذه تمثل الموقف النموذجي الذي ظل سائدا في جميع الحقول ذات الصلة، في علم الأساطير وكذلك في الدراسات اللغوية، في نظرية الفن مثلما هو الحال في نظرية المعرفة .أن العالم الأسطوري في جوهره، عند ماكس مولر، هو عالم وهم، ولكنه الوهم الذي يمكن تفسيره حالما ينكشف الخداع الذاتي الأصلي الملازم للذهن، والذي هو منبع الأخطاء . هذا الخداع الذاتي متجذر في اللغة والذي يهزأ دائما بالعقل الإنساني، ويوقعه في لعبة تشتت المعاني التي هي ميراثه. إن هذا التصور بان الأسطورة لا تقوم على قوة إيجابية في الصياغة والابتكار بل هي محض خلل ذهني - لأننا نجد فيها اثرا ( مرضيا ) للكلام - هذا التصور يجد مناصريه حتى في الأدب الأثني الحديث . ألا أننا حينما نتقصى مكوناته الفلسفية الأولى، فان هذا الموقف ينتهى ليكون، ببساطة، النتيجة المنطقية لتلك الواقعية الساذجة والتي ترى في حقيقة الموضوعات شيئا ما معطى بشكل مباشر ومطلق، أو حرفيا، شيئا ما ماديا كما يرى افلاطون.
إذا ما ادرك الواقع بهذه الصفة، فمن المؤكد أذن، أن كل شيء لا يملك هذا النوع العيني من الواقع، ينحل إلى محض خداع ووهم. هذا الوهم ربما يكون مزخرفا بشكل أنيق، ويرفرف حولنا بألوان زاهية بهيجة، ولكن ليس لحقيقته من محتوى أو معنى مستقل، انه يعكس، حقا، واقعا - ولكنه واقع لا يمكن بلوغه ولا وصفه بشكل ملائم ..
من وجهة النظر هذه، كل إبداع فني يصبح محض تقليد، والذي لابد أن يكون اقل من الأصل دائما. ليس التقليد البسيط للشكل الحسي المعطى فقط، بل كذلك ما ندعوه
مثالية)، أسلوبا أو شكلا لابد أن يخضع في النهاية لهذا الحكم، لان الوصف لموضوع ما قياسا بالحقيقة المجردة، يجعل المثالية ذاتها ليست سوى فكرة ذاتية خاطئة ومشوهة. ويبدو أن جميع فعاليات الإبداع الذهني الأخرى تنطوي على النوع ذاته من التشويه الفاضح، وتستبطن البعد ذاته عن الواقع الموضوعي والمعطى المباشر للتجربة، وإذ تفشل الفعاليات الذهنية في الوصول إلى الواقع ذاته، فأنها تجد نفسها مرغمة على التوسل بالرموز لتمثله والإحاطة بوحدته الكلية , ولكن في الرمزية تكمن لعنة التوسط دائما , انها تبهم ما تسعى إلى توضيحه . وعلى هذا، فان ( الصوت ) في الحديث اذن يناضل للتعبير عن الحدث الموضوعي أو الذاتي، عن العالم الداخلي أو الخارجي، فهو لا يفلح في التعبير عن الوجود بامتلائه وحيويته، بل بالأحرى في الوصول إلى اختزال جامد له. أن أقصى ما تحققه الكلمة المنطوقة من دلالة هي في الواقع مجرد إيحاء لا اكثر، الإيحاء الذي حين يواجه بالتنوع والتلون العيني للتجربة الواقعية، لابد أن يبدو هزيلا، أشبه بصدفة فارغة. وهذا يصدق على العالم الخارجي مثلما يصدق على الداخلي على حد سواء
من النقطة هذه لا تبقى ألا خطوة واحدة نحو الهدف الذي يتبناه النقد الشكي الحديث للغة: التدمير التام لأي محتوى حقيقي مزعوم للغة، وتقرير أن هذا المحتوى ليس ألا نوع من أوهام الروح. فوق هذا، ومن وجهة النظر هذه، ليس فقط الأسطورة والفن واللغة تصبح تراكم أوهام للروح، بل وحتى المعرفة النظرية، فالمعرفة لا يمكنها أن تعكس الطبيعة الحقيقية للأشياء بل لابد أن تؤطر ماهيتها
بمفاهيم، واذا كانت المفاهيم هي صياغات وإبداعات الفكر، فالمعرفة لا تعطينا الأشكال الحقيقية للموضوعات بل بالأحرى أشكال الفكر ذاته.
ما يترتب على هذا هو أن كل التصورات التي يضعها العلم لكي يصنف وينظم ويلخص ظاهرة العالم الواقعي تنتهي إلى أن تكون تصورات تحكمية ليس إلا , وترکيبات خيالية للعقل. وتنحل المعرفة، بالإضافة إلى الأسطورة واللغة والفن إلى نوع من أنواع الخيال - خيال لا يزكيه ألا نفعه، ولكن لا
ينبغي أن يقاس بأي معيار دقيق للحقيقة. أمام هذا التدمير الذاتي للروح لا يبقى الا علاج واحد فقط: أن نقبل بشكل جاد ما دعاه كانت
( الثورة الكوبرنيكية)، فبدلا من أن نقيس محتوى أو معنى أو حقيقة الأشكال العقلية وفقا لشيء ما دخيل عليها، والذي نفترضه الأصل الذي استنسخت منه، يجب علينا أن نبحث في هذه الأشكال ذاتها عن مقياس أو معیار حقيقتها ومعناها الجوهري , بدلا من أن نأخذها كنسخ لشيء آخر لا اكثر، علينا أن نبحث في كل واحدة من هذه الأشكال عن قانونها الخاص في التطور، وعن المسار والنزوع الأصلي للتعبير والذي هو اكثر غنى من ذلك النسخ , والمعطى أساسا بمقولات ثابتة للوجود الواقعي .
وفق وجهة النظر هذه تصبح الأسطورة، الفن، اللغة، و العلم منظورا لها كرموز . لا بمعنى الصورة المجردة التي تدل على واقع ما، معطى من خلال الإيحاء والتمثلات المجازية، بل بمعنى الطاقة التي تجعل لكل منها القدرة على أن تبتكر وتخلق العالم الخاص بها، في هذه المجالات، تكشف الروح عن ذاتها في ذلك الديالكتيك الداخلي والذي بموجبه فقط يمكن أن يكون واقعا أو وجودا، منظما ومحددا على الإطلاق .
اذن الأشكال الرمزية الخاصة ليست محاكيات للواقع بل أدوات له، ما دام بواسطتها فقط يمكن لأي شيء حقيقي أن يصبح موضوعا للإدراك العقلي وبالتالي معروفا . لهذا، فان التساؤل عن مدى بعد هذه الأشكال عن الواقع وعن خصائصه الموضوعية، يصبح تساؤلا غير ذي معنى , فبالنسبة للعقل، ما يمكن أن يعرف هو ما يملك شكلا محددا، و كل شكل من أشكال الوجود يجد اصله في نحو معين من أنحاء التفكير وفي صيغة عقلية وحدس معين للمعنى .
حالما ندرك اللغة، والأسطورة، والفن، والعلم كأشكال مثالية فان المسألة الفلسفية الأساسية تكف عن أن تتعلق بصلة هذه الأشكال بواقع مطلق، يشكل كما يمكن القول أرضيتها الثابتة والجوهرية، المسألة المركزية الآن هي حدود هذه الأشكال المتبادلة وتكاملها. فعلى الرغم من أنها جميعا تعمل معا بشكل جوهري في بناء الواقع الروحي، ألا أن لكل منها إنجازه الفردي. هنا تظهر الصلة بين اللغة والأسطورة في ضوء جديد. فالأمر ليس مسالة اشتقاق بسيط لواحدة من الظواهر من الأخرى، أو توصيف واحدة منها بمصطلحات زميلتها، فهذا تسطيح لكليهما وسلب لما يتمايزان به من خصائص. واذا كانت الأسطورة، وفقا لنظرية ماکس مولر، ليست سوى ظل كثيف تلقيه اللغة على الفكر ، فان المحير حقا هو أن هذا الظل ما ينفك يظهر إلى الأبد، كما الهالة للضوء، ويطور حيوية ايجابية ونشاطا خاصا به يوشك أن يحجب ما نسميه بشكل عام، الواقع المباشر للأشياء، إلى الحد الذي يجعل ثراء الممارسة الحسية باهتا أمامه . وكما قال وليم فون هومبولدت ، ارتباطا لمشكلة اللغة ( الانسان يحيا , بشكل عام , مع موضوعاته , مادام يعتمد في مشاعره وافعاله على ادراكاته , وفق الصورة التي تقدمها له اللغة . وبالسياق ذاته , فحيثما يمضي , وهو ينسج خيوط اللغة متجاوزا وجوده الخاص فانه سيقع , لا محالة , في شراكها . ان اللغة ترسم دائرة سحرية حول الشعب الذي تنتمي اليه , دائرة ليس ثمة فكاك منها للقفز الى غيرها ما ينطوي عليه هذا ربما يتعلق بالمفاهيم الأسطورية الرئيسية للنوع الإنساني اكثر منه باللغة. ذلك أن المفاهيم ليست مستمدة من وجود جاهز، ليست محض نتاج الخيال استقاه من وجود قار، تجریبي، واقعي ليطفو فوقه كالزبد، أنها ( المفاهيم ) تمنح الوعي البدائي الوجود بوحدته الكلية. أن المفهوم، بشكله الأسطوري، ليس شيئا أضيف بصورة فوقية إلى عناصر وجود تجريبي
معين، على العكس، التجربة البدائية مغرقة في تخيلات الأسطورة ومتلفعة بمناخها . فالإنسان يحيا بموضوعاته بالقدر الذي يحيا بهذه الأشكال، انه يكشف الواقع لنفسه، ويكشف نفسه للواقع، وفي هذا فهو يسمح لنفسه وللمحيط حوله أن يدخلا ذلك الوسط المرن، حيث لا يتصلان فقط بل يذوبان في بعضهما ,.
نتيجة لذلك، فان جميع النظريات التي تسعى للكشف عن جذور الأسطورة من خلال البحث في معطيات التجربة والموضوعات التي يفترض بأنها في أساس نشأتها والتي أخذت بالنمو والانتشار انطلاقا منها . جميع هذه لابد ان تبقى دائما نظريات أحادية الجانب وغير مناسبة. وكما هو معروف، فان هناك عددا جما من هذه التفسيرات، ومن هذه المذاهب التي تبحث عن الأصل النهائي والسبب الحقيقي لابتكار الأساطير، عدد يبدو بالكاد اقل تنوعا من عالم الموضوعات ذاته , وقد وجد بعضها هذا الأمل في بعض الحالات والممارسات النفسية، خصوصا ظاهرة الأحلام، أحيانا، واحيانا أخرى في التأمل بأحداث الطبيعة، وضمن هذه الأخيرة جرى النظر في موضوعات الطبيعة مثل الشمس، القمر، النجوم أو فيما يمتاز منها بمظاهر كبرى مثل العواصف، البرق، والرعد.... الخ
وهكذا تتكرر المحاولات , مرة وأخرى , لاعتماد الأسطورة النفسية أو الأسطورة الطبيعية مثل أساطير الشمس أو القمر أو الرعد، كنقطة انطلاق للإبداع الأسطوري. ولكن، حتى لو أن واحدة من هذه المحاولات أثبتت نجاحا، فان هذا لن يحل المعضلة الحقيقية التي يثيرها علم الأساطير أمام الفلسفة، بل في أحسن الأحوال سيكون خطوة إلى الوراء، ذلك لأن الصياغة الأسطورية بما هي كذلك لا يمكن أن تفهم وتقيم ببساطة من خلال تحديد الموضوع الذي تمت صياغتها عليه بشكل مباشر. أن الأسطورة كانت، وستبقى، معجزة الروح ذاتها، والسر ذاته، بغض النظر عما تشتمل عليه من هذه أو تلك من المواد الواقعية، أو ما إذا كانت تعالج تفسيرا لعملية نفسية أو مفصلا طبيعيا، أوماهية ما تقوم عليه من أشياء على وجه التحديد. وحتى لو امكن أن تذوب جميع الأساطير وتنحل إلى أسطورة كوكبية أصلية، فسوف يبقى ما يستمده الوعي الأسطوري من تأمل الكواكب، وما يراه فيها بشكل مباشر، أمرا مختلفا بشكل جوهري عن ذاك الذي تستمده الملاحظة التجريبية، أو ما ترسمه من مسارات التفكير النظري والتفسير العلمي للظاهرة الطبيعية ..
لقد قال ديكارت بان العلم النظري يبقى هو ذاته في ماهيته بغض النظر عن الموضوع الذي يعالجه مثلما الحال في ضوء الشمس الذي يبقى هو ذاته بغض النظر عن غنى وتنوع الأشياء التي ينيرها. والأمر ذاته يمكن أن يقال عن أي شكل رمزي، سواء كان لغة أو فنا أو أسطورة، لأن كل واحد من هذه الأشكال هي زاوية معينة للنظر في موضوعها، وتحمل في ذاتها الكيفية المناسبة لإنارته. أن وظيفة التفكير، نقطة بدء الاستنارة الفكرية، لا يمكن أن تكون مستمدة بشكل مباشر من الوقائع ذاتها أو تفهم من خلال طبيعة ما تحتويه من موضوعات. أن السؤال ليس عما نراه من خلال منظور معين، ولكن عن طبيعة المنظور ذاته. فإذا ما أدركنا المشكلة بهذه الصورة، فالواضح بشكل مؤكد هو أن رد جميع الأساطير إلى مادة موضوعية واحدة سوف لن يقربنا من الحل، بل س يدفعنا والى الأبد بعيدا عن أي حل حقيقي. وأذ نرى ألان في اللغة والفن والأسطورة ظواهر أصلية للذهنية الإنسانية, كما يمكن أن نقول، إلا أنها لا تحتمل أي تفسير بمصطلحات شي آخر. آن الواقعيين يفترضون دائما ما يسمى بالمعطى) بصفته الأساس العيني لمثل هذه التفسيرات، والذي يعتقدون أن له شكلا محددا، وتركيبا أصليا خاصا به. لقد قبلوا هذا الواقع باعتباره الكل المتكامل للعلل والمعلولات، للأشياء والخواص , للحالات والمعالجات، وللأشياء في سكونها وحركاتها. ويبقى السؤال الوحيد لديهم هو في أي من هذه العناصر يكمن , بشكل اصلي , أحد الإبداعات الذهنية مثل الأسطورة، اللغة, والفن. فإذا ما كانت الظاهرة محل البحث هي اللغة مثلا، فان اتجاه البحث لابد أن يكون حول ماذا كانت أسماء الأشياء سابقة لأسماء الأحوال والحوادث أم العكس، أو بمعنى آخر، ما إذا كانت الأسماء أم الأفعال هي جذور الكلام الأولى , إلا أن هذه المشكلة تبدو زائفة حالما ندرك بان ما وضع هنا من تمييزات وتم اعتمادها كمسلمات، مثل تحليل الواقع بمصطلحات الأشياء والحوادث، الملامح الثابتة والمتحولة، هذه التمييزات ليست سابقة للغة بصفتها قاعدة تقوم على حقيقة معطاة، بل أن اللغة ذاتها هي من يصك مثل هذه التمييزات ويطورها في فضائها الخاص بها وهكذا ينتهي الأمر إلى القول بان اللغة لا يمكن ان تبدا بأي شكل من الأشكال : ( مفاهيم الاسم ) أو (مفاهيم الفعل). أنها أداة محدودة وهي التي تضع التمييز بين هذه الأشكال، مما يخلق أزمة روحية كبرى يتقابل فيها الدائم مع الزائل، والوجود مع الصيرورة ..
وهكذا فان المفاهيم الأساسية للغة يجب أن تدرك كشي سابق لهذه التمييزات، سابق للأشكال التي تقع بين مجال مفهوم الاسم ومجال مفهوم الفعل، بين الشيئية والاحتمالية, وان تدرك في حالة من الحياد والتوازن الشعوري الخاص ..
إن غموضا مشابها يبدو انه يميز الأطوار الأولى من تطور الفكر الاسطوري والديني الى الحد الذي يمكن تلمسه. فقد قر في أذهاننا، كما يبدو، أن العالم لابد ان يكشف عن ذاته امام فحصنا وملاحظتنا بوصفه اطارا لأشكال محددة، كل منها يعين بخصائصه حدود ابعاده التي تعطيه فرديته الدقيقة، فاذا ما نظرنا اليه ككل، فهذا الكل يحتوي مع ذلك، وحدات قابلة للتميز بوضوح، والتي لا يمكن أن تذوب ببعضها، بل تحافظ على هويتها بما يميزها عن جميع الأخريات. ولكن بالنسبة إلى وعي مبتكر الأساطير ، هذه العناصر المتميزة ليست معطاة بهذا الشكل المتميز بل انها تبعث في الأصل بشكل تدريجي من الكل، وان عملية الانتخاب والفرز الى اشكال فردية قد مرت خلال ذلك. وللسبب هذا فأن الحالة الأسطورية للذهنية الانسانية قد اطلق عليها حالة (معقدة)، تمييزا لها عن الموقف التحليلي والتجريدي للإنسان الحديث ..
إن (بروس) الذي اعتمد هذا التعبير، أشار إلى أنه في أساطير هنود الكورا، مثلا، والتي درسها بإمعان، نجد أن مفهومي السماء الليلية والسماء النهارية يجب أن تكون سابقة لمفاهيم الشمس و القمر والكواكب المنفصلة. ويرى أن الاتجاه الأسطوري الأول والأصلي لم يكن ابتكار اله - شمس أو أي اله سماوي بل نحو ابتكار (مجتمع کوکبي)، (لا شك أن اله الشمس يحتل المرتبة الأولى في تراتب الالهة ولكن ... الآلهة الكوكبية المتعددة يمكن أن تكون بموقع المفوض (بكسر الواو) له. أنها تسبقه في الزمن، وقد خلق من قبلهم من خلال قفز أحدهم في النار أو انه القي فيها، فقوته تتأثر بقوتهم وبقاؤه مرهون بهم حين يصور وهو يقتات على قلوب ( اضحيات القرابين، اي النجوم. أن السماء الليلية المتلألئة شرط ضروري لوجود الشمس، وهذه هي الفكرة المركزية في التفكير الديني لهنود الكورا ولقدامى المكسيكيين، ولابد أن تعد العامل الحاسم في التطور اللاحق لدينهم). ان وظيفة مماثلة لما ينسب هنا الى السماوات الليلية يبدو أنها تعزى من قبل الأقوام الهندو - جرمانية إلى السماء النهارية، أن دياناتهم تظهر ملامح حقيقية هي أن عبادة النور كممارسة كلية متناغمة تسبق عبادة الأجرام السماوية الفردية، والتي تعد وسطاء أو مظاهر خاصة لها. ففي ( الافيستا)، مثلا، نجد أن ( ميثرا) ليس اله - الشمس، كما هو حاله في العصور اللاحقة، بل روح النور السماوي. فهو يظهر فوق قمم الجبال، قبل شروق الشمس، يمتطي عربته التي تجرها أربعة جياد بيضاء، يجتاز مجرى السماء خلال النهار، وحين يقبل الليل، فأنه يظل بيقظة سرمدية، ينير وجه الأرض بنور غامض لألاء. إننا نخبر بوضوح بانه ليس هو الشمس، ولا القمر، ولا أي واحدة من النجوم مثلما ليس هو مجموعها، بل بالأحرى هي واسطته، هي آذانه الالف و عيونه العشرة الاف، والتي بها يدرك كل شيء، ويبقى رقيبا على العالم. هذا مثال جلي يبين لنا كيف أن الفهم الأسطوري يتمحور حول التباين الكيفي الأساسي والعظيم بين النور والظلام، وكيف يعاملها كماهية واحدة، ككل معقد واحد، تخرج منه الكيفيات المتعينة بشكل تدريجي. ومثلما هو الحال في روح اللغة، نجد أن عبقرية مبتكر الأساطير قد فرزت وفردت الأشكال، بالقدر الذي يجعلها تتموضع وتتجسد خارج الكل المتناغم كما تصوره في نظرته البدئية. أن هذا البحث في الوظيفة المحددة والمميزة التي تنهض بها الأسطورة بالإضافة الى اللغة في البناء الذهني لعالمنا عن ( الأشياء ) هو، كما يبدو، كل ما يمكن أن تعلمنا اياه ( فلسفة الاشكال الرمزية ) .
لا يمكن للفلسفة، بما هي كذلك، أن تمضى لما هو ابعد، لا يمكنها أن تدعي بانها تقدم لنا وبأمانة، عملية التكوين الكبرى، وتفصل أدوارها لنا. ولكن، أذا كانت الفلسفة تتمسك , بشكل ضروري، بالصورة العامة و النظرية لمثل هذا التطور، فربما يمكن للفيلولوجيا وعلم الأساطير المقارن أن يملا بإيجاز، أو يرسم بثبات خطوطا واضحة، لما يمكن للتأمل الفلسفي ان يشير له بإيحاء فقط. الخطوة الاساسية والرائعة في هذا الاتجاه قد أتخذها ( یوسینر) في عمله حول الأسماء الالهية. أن (مقال نحو علم المفهوم الديني) هو العنوان الثانوي الذي أعطاه لكتابه، والذي كرسه تحديدا في مجال المشاكل الفلسفية و المعالجة المنظمة. يقول ان تلمس تاريخ الالهيات، وظهورها المتتابع، وتطورها بين قبائل البشرية المختلفة، ليس هدفا يسهل تحقيقه، أن تاريخ الأفكار الاسطورية هو وحده ما يمكن اعادة تركيبه. فمثل هذه الأفكار، بغض النظر عن مستوى تنوعها واختلافها، والصورة التي تبدو عليها أصولها الملفقة عند النظرة الأولى، لها نظامها الداخلي، فهي ليست محض نزوات منفلتة لخيال جامح، بل سارت وفق سياقات معينة من المشاعر والتفكير المبدع. هذا النظام الداخلي هو ما يسعى علم الاساطير لتثبيته , هو علم الأسطورة، أو علم أشكال المفهوم الديني. إن النتائج التي توصل لها في هذا الحقل ربما تمنح الفلاسفة فرصة، أولئك الذين يميلون للنظر الى العقل الانساني وكانه قد وهب منذ البداية التفكير ضمن مقولات منطقية. (هنالك فترات طويلة من التطور الذهني) كما يلاحظ (يوسينر): (حين كان العقل الإنساني يحث الخطى نحو الفكر و المفهوم، وقد توسل بقوانين مختلفة في مجال التفكير والحديث. أن نظريتنا في المعرفة سوف لن تقوم على أساس متين ما لم تكشف لنا الفيلولوجيا وعلم الاساطير مسارات التفكير العفوي واللاواعي. ان الفاصلة بين الفهم الدقيق والتصورات العامة أوسع بكثير من تصورنا الأكاديمي. وان اللغة التي وهبتنا الفكر لا تقودنا الا الى الافتراض. أنها فجوة واسعة الى الحد الذي لا يمكننا أن نتصور كيفية ردمها. ألم تكن اللغة ذاتها، بعيدا عن الادراك الواعي للإنسان، هي ما مهد وقاد هذا المسار؟ أنها اللغة، تلك التي انجبت ذلك الكم الهائل والمتنوع من التعبيرات المؤقتة والفردية وصولا الى تعبير فرد يمكنه أن يمد دلالته على قضايا اكثر و اكثر خصوصية، انتهاء للتدليل عليها جميعا، وتفترض القدرة على التعبير عن التفكير المنظم). الفيلولوجي، أذن , تلميذ اللغة والدين، هو من يتحدى، هنا، الفلسفة بقضية جديدة، التي استمدها من بحوثه الخاصة .
ان ( يوسينر) لم يؤشر مقتربا جديدا فقط , بل تابعه بإصرار، موظفا , في سبيل ذلك , جميع معرفته التي استمدها من تاريخ اللغة, والتحليل الدقيق للكلمات، وفي الأخص تحليل الاسماء الالهية. أن السؤال الذي لابد أن يطرح بشكل طبيعي هو ما اذا كانت الفلسفة قادرة، دونما استيعاب لمثل هذه العلوم، على معالجة هذه المشكلة التي تواجهها بها العلوم الانسانية؟ وما الذي يمكن ان تختاره من وسائل فكريه تعينها في مواجهة هذا التحدي ؟ وهل هناك من مسار آخر، غير التاريخ الحقيقي للغة والدين يمكنه أن يقربنا من الأصل الأولي للمفاهيم اللغوية والدينية؟ أو هل الامر سيان، أن نعرف تكوين مثل هذه الأفكار، وان نعرف الدلالات والوظائف النهائية لها؟








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فصائل المقاومة تكثف عملياتها في قطاع غزة.. ما الدلالات العسك


.. غارة إسرائيلية تستهدف مدرسة تؤوي نازحين بمخيم النصيرات وسط ق




.. انتهاء تثبيت الرصيف العائم على شاطئ غزة


.. في موقف طريف.. بوتين يتحدث طويلاً وينسى أنّ المترجم الصينيّ




.. قتلى وجرحى في غارات إسرائيلية على مخيم جباليا