الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المال والسلطة والسلاح

سعود سالم
كاتب وفنان تشكيلي

(Saoud Salem)

2022 / 3 / 7
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


أركيولوجيا العدم
١٢٥ - الأنا والبراكسيس
إذا كان كاليجولا يريد إمتلاك القمر لأجل تجاوز ذاته، عن طريق مطاردة المستحيل، فإن "أورست - Oreste" بطل سارتر في مسرحية الذباب، يبحث بدوره عن تجاوز هذه الذات التي لم يعد يحتملها، فيقول لـ " إليكتر - Electre " أخته التي بدأ الندم ينخر قلبها بعد إغتيال أمها، فيقول لها : تعالي، سنمضي، سائرين بخطى ثقيلة ، محنيين تحت عبئنا الثقيل. ستعطيني يدك، ونمضي ...
إلكتر : إلى أين ؟
أورست : لا إدري، نحو أنفسنا. ففي الجهة الثانية من الأنهار والجبال، ينتظرنا أورست آخر وإلكتر أخرى. يجب البحث عنهما بصبر.
وليس هناك ما هو أصعب على الإحتمال بالنسبة للإنسان أكثر من حصاره في كينونة مغلقة ونهائية وبدون أمل في تجاوزها إلى شيء آخر، حيث الحياة السابقة بكاملها تصبح قدرا لا سبيل للفكاك منه. وعندما يعلن أورست فرحه من قتل أمه والإنتقام من قاتل والده قائلا : إنني حر يا إلكتر، الحرية أنقضت علي إنقضاض الصاعقة.
إلكتر : حر ؟ أنا لا أشعر إنني حرة. هل تستطيع أن تجعل كل ما حدث كأنه لم يحدث ؟ إن أمرا قد حدث، ولم نعد أحرارا في تبديله. هل تستطيع أن تمحو عنا كوننا، إلى الأبد، قاتلي أمنا ؟ وهكذا يتحول الفعل إلى عبء يحمله المرء على أكتافه طوال الحياة، كما يقول أورست : وكلما كان أثقل حملا، كنت أكثر سرورا به، لأنه هو حريتي. الفعل هو الحرية في الإختيار، غير أنه في نفس الوقت، هذا الإختيار يجعل كل الإختيارات الأخرى مستحيلة وتدخل دائرة العدم. من هنا يأتي هذا القلق المرعب تجاه الحرية، هذه الحرية التي هي الإنسان ذاته ولا مناص له من تحمل مسؤوليته تجاهها فنحن " محكوم علينا بالحرية"
الفعل هو الحرية والحرية هي الوجود البشري، ومنع الإنسان من الفعل، هو تحويله إلى كائن جامد وميت، الفعل هو إمكانية التجاوز لأنه هو هذه الحرية التي هي الإنسان ذاته في العالم. والفعل، حتى ولو كان لإي أقصى عبثيته، كحمل سيزيف لصخرته لأعلى الجبل، يبقى ضمانا لوجود سيزيف وعدم تحوله إلى صخرة تدحرجها الظروف والأيام.
الإنسان لكي يكون لا بد له من الفعل، ولكي يفعل لا بد له من أن يملك الوسائل التي تمكنه من الفعل. "الكينونة"، "التملك" و"الفعل" هو الثالوث الأنطولوجي المقدس الذي يشكل خصوصية الإنسان وإندماجه في مشروع لا ضرورة له وكان بالإمكان ألا يكون وهو مشروع الحياة. وحرية الإنسان لا تترك له مجالا للخروج من دائرة الفعل والتملك في حياته اليومية وفي علاقاته المعقدة بالآخرين داخل المجتمع البشري المكون من أمثاله المختلفين. هذه العناصر الثلاثة تشكل جوهر وصلب الإنسان المعاصر الباحث عن مصدر شرعية وجوده في هذا الكون، دون أن يدرك خصائص وعرضية هذا العالم الذي ينغمس في تضاريسه حتى الإختناق. ولا شك أن الفعل والتملك والكينونة الفردية كعناصر أولية في جوهرها تبدو لأول وهلة وكأنه لا علاقة لها بالمؤثرات الخارجية كالثقافة أو البيئة أو التاريخ أو حرارة الشمس أو برودة الثلج، غير أنه ما أن تترجم عمليا وتتموضع في سلوك أو تصرف فردي أو جماعي في الحياة العملية وتترجم بلغة المجتمع إلى مفاهيم أكثر وضوحا مثل السلطة المتمثلة في الدولة والمؤسسات الحكومية، والمال المتمثل في المؤسسات الإقتصادية، والسلاح الذي تمثله المؤسسات العسكرية بكل أنواعها، حتى تعود المؤثرات الخارجية لتأخذ أهميتها ودورها في تحديد السلوك الإنساني في الحياة العملية الحقيقية. فعندما نحاول تحليل ظواهر إجتماعية كظاهرة العنف مثلا أو الأنظمة الشمولية السلطوية أو ظاهرة الفساد السياسي وسرقة المال العام والتمسك بالسلطة، فإنه لا يمكن فهم هذه الظواهر المتفشية في المجتمعات المختلفة دون الرجوع إلى الأسس الأنطولوجية التي تنبع منها هذه المصائب والكوارث الإجتماعية. العنف مثلا ليس مثل الزكام أو الإنفلونزا أو الكوفيد أو مرض القرحة، العنف ليس ظاهرة مرضية بل رغبة في التواجد في هذا العالم وفرض كينونته على الأشياء والفضاء والمكان والزمان، باختصار العنف هو وجه من وجوه الرغبة في الحياة. و"الرغبة " هي "الوعي" ذاته في بنيته الأصلية المتعالية المندفعة نحو الخارج - فالوعي دائما وعي بشيء ما - الرغبات ليست جواهر نفسية صغيرة قابعة في طيات الوعي أو تسكن مندسة بين ثناياه. الرغبة هي كينونة الواقع الإنساني بمعنى النقص والسلب وعدم كمال هذه الكينونة، وبالتالي هي في سباق مجنون لتجاوز ذاتها ولتجاوز كل عرضية وكل وجود. وكما يحدد سارتر في كتابه الكبير "الكينونة والعدم"، الإنسان هو ما ليس هو، وليس هو ماهو، بمعنى أنه في محاولة أزلية للتطابق مع كينونته دون جدوى، كمن يحاول أن يسبق ظله أو يمسك به. الواقع الإنساني مجهود عبثي وبطولة أسطورية كي يصبح إلها تتطابق كينونته مع وجوده، من دون أن يرتكز هذا المجهود على أية أسس مسبقة، بل ومن دون وجود موضوع يبذل هذا المجهود، الرغبة وحدها هي التي تعبر وتمثل هذا المجهود العدمي والمتعالي. الرغبة في السلطة والمال كوسائل ليتمكن الإنسان من الإستحواذ على الأشياء وتغييرها أو خلقها - ماياكوفسكي يقول بأنه لم يربي عقله لسنوات طويلة من أجل إستنشاق عبير الأزهار، وإنما من أجل خلقها - التملك والفعل إذا وسائل من أجل الكينونة. كينونتي ستنكمش إلى الصفر المطلق إذا لم أتملك أي شيء من أشياء هذا العالم، من الأشياء المادية كالسيارة والآي باد والبيت والأرض ورأس المال إلخ، أو من الأشياء الغير مادية كالذكاء والمعرفة والعلم والجمال والقوة والعلاقات البشرية إلخ. وعدم تملكي لأي شيء على الإطلاق سينتج عنه عدم قدرتي على الفعل والحركة والتأثير في الأشياء والمجتمع، وسأصبح بطبيعة الحال مجرد رقم في سلسلة الأرقام الطويلة لمجهولي الهوية. فلكي لا تكون فقط مجرد رقم في سجلات البلدية، لابد لك من العمل والقيام بشيء ما، وللفعل أدوات ووسائل لابد لك من الحصول عليها وإمتلاكها بطريقة أو بأخرى، وفي هذا العالم الرأسمالي الذي نعوم فيه اليوم كأسماك عمياء وعارية، السلطة والمال والسلاح أو القوة هي الوسائل البدائية التي تمكن الإنسان من تغيير العالم وبالتالي من حجز مكان أو مقعد له تحت الشمس وصفحة بإسمه في سجل التاريخ الإجتماعي والبشري.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. رغم تحذيرات الحكومة من تلوث مياهها... شواطئ مغربية تعج بالمص


.. كأس أمم أوروبا: فرنسا تسعى لتأكيد تفوقها أمام بلجيكا في ثمن




.. بوليتيكو: ماكرون قد يدفع ثمن رهاناته على الانتخابات التشريعي


.. ردود الفعل على قرار الإفراج عن مدير مجمع الشفاء الدكتور محمد




.. موقع ناشونال إنترست: السيناريوهات المطروحة بين حزب الله وإسر