الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


غربة فان جوخ

سعود سالم
كاتب وفنان تشكيلي

(Saoud Salem)

2022 / 3 / 10
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


أركيولوجيا العدم
١٢٦ -فان جوخ وإستراحة السجناء

ليس هناك ما هو أصعب للإحتمال بالنسبة للإنسان المعاصر من فقدانه لحريته الأساسية، أي حرية الحركة والتفكير والعمل، كما هو الحال في الأنظمة الرأسمالية، الديكتاتورية منها أو الليبرالية. ذلك أن حصار الإنسان في كينونة مغلقة وغير قابلة للتجاوز والتطور، هو في الحقيقة نوع من الموت والتحجر والتشيء. وحالات الحصار والإنغلاق والحبس، والتي تقيد حرية الإنسان، متعددة الأنواع والأشكال في هذه المجتمعات. ولا شك أن السجن والمصحات العقلية وكل أنواع المؤسسات الإجتماعية التي تحاول تطويع الإنسان وجعله يناسب القالب الإجتماعي القائم ـ سرير بروكست ـ هي مؤسسات تساهم في تعميق الإستلاب الوجودي، وجعل الإنسان - الفرد مجرد "حالة" بين ملايين الحالات الأخرى. والعمل بدوره، بدلا من أن يكون وسيلة لتحقيق وجود الإنسان ومعبرا عن جوهر الإنسان المعاصر، أصبح مجرد وسيلة لإستلاب الإنسان وخطوة أخرى لفقدان هويته كوجود واع. مثل أن يقوم الإنسان بعمل لا معنى له ولا يهمه إطلاقا أو لا فائدة منه - صخرة سيزيف - مما يجعله يدور في حلقة فارغة بلا نهاية. ولا شك أن السجن هو خير مثال لحالة فقدان الإنسان لذاته وتشيئه.
ولقد عبر فان جوخ عن حالة الحصار هذه في لوحة من روائع أعماله، لوحة جولة السجناء La ronde des prisonniers، وهي لوحة زيتية رسمها فان جوخ في فبراير ١٨٩٠ في مصحة سان بول (Saint-Paul Asylum) في مدينة Saint-Rémy في الجنوب الفرنسي. هذه اللوحة ٨٠x٦٤ سم، مستوحاة من نقش للفنان غوستاف دوريه - Gustave Doré يرجع لسنة ١٨٧٢، لساحة التمرين في سجن نيوجيت (Newgate).
عانى فان كوخ من اعتلال الصحة العقلية في عام ١٨٨٨، ودخل طواعية في مستشفى للأمراض العقلية من مايو ١٨٨٩ إلى مايو ١٨٩٠. خلال الفترة التي قضاها في المصحة، لم تكن له إمكانية الخروج والتجول في الحقول لإختيار مواضيع لوحاته أو للرسم في الهواء الطلق وفي الحقول كما كانت عادته، لذلك طلب من شقيقه ثيو أن يرسل له بعض الرسوم المطبوعة لأعمال فنانين آخرين ليقوم بتحويلها إلى رسومات زيتيه. وقد شجع مدير المستشفى، الدكتور بيلون، وشقيق فان كوخ ثيو على مواصلة الرسم للمساعدة في شفائه. وقد أرسل له ثيو العديد من الصور والنقوش المطبوعة في بعض الدوريات والمجلات الفنية، مثل المجلة الهولندية، (De Katholieke Illustratie) التي وجد فيها هذه الصورة، أصل اللوحة التي نحن بصددها. تُصور اللوحة مجموعة من السجناء يسيرون في دائرة في ساحة صغيرة تشبه الزنزانة، ساحة سجن خانقة، محاطة بجدران من الطوب مع عدد قليل من النوافذ المقوسة الصغيرة في الأعلى، ويبدو أنّ السجناء يستعرضون أمام محقق أو شرطي ليتعرف أو ليتذكر وجوه السجناء. ويهيمن على العمل خفض درجات اللونين الأزرق والأخضر في الأعماق المظللة للفناء، مع وجود بقع حمراء على الطوب الأفضل إضاءة. وفي أعلى اللوحة توجد فراشاتان باللون الأبيض تكاد لا ترى. بعد بضعة أشهر فقط من رسمه لهذا العمل الخانق المفعم باليأس والتشاؤم بمصير البشرية، أطلق فان جوخ النار على نفسه في يوليو ١٨٩٠، وكانت هذه اللوحة أحد الأعمال المعروضة حول نعش فان كوخ أثناء جنازته. ولقد كتب إميل برنارد عن هذه اللوحة قائلا : "المحكوم عليهم يسيرون في دائرة محاطة بجدران عالية للسجن، لوحة مستوحاة من "غوستاف دوريه " من ضراوة مرعبة والتي هي أيضًا رمز لنهايته. ألم تكن الحياة هكذا بالنسبة له، سجن كبير مثل هذا مع جدران عالية – عالية جدًا وهؤلاء الأشخاص يسيرون إلى ما لا نهاية حول هذه الحفرة، أليسوا هم الفنانين المساكين والأرواح الفقيرة الملعونة التي تمر تحت سوط القدر؟" بعد وفاة ثيو فان جوخ في يناير ١٨٩١، ورثت اللوحة زوجته جوانا، ثم مرت عبر عدة ملكيات متوالية حتى تم تأميمها من قبل الحكومة السوفيتية وأصبحت جزءًا من متحف الدولة للفن الغربي الجديد في موسكو، ثم انتقلت اللوحة إلى متحف بوشكين الذي تم إنشاؤه في عام 1948.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. دروس الدور الأول للانتخابات التشريعية : ماكرون خسر الرهان


.. مراسل الجزيرة يرصد آخر تطورات اقتحام قوات الاحتلال في مخيم ن




.. اضطراب التأخر عن المواعيد.. مرض يعاني منه من يتأخرون دوما


.. أخبار الصباح | هل -التعايش- بين الرئيس والحكومة سابقة في فرن




.. إعلام إسرائيلي: إعلان نهاية الحرب بصورتها الحالية خلال 10 أي