الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


سيد القمني مأثرة الرحيل إلى جبل التجلي/2

بدور زكي محمد

2022 / 3 / 14
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


سيد القمني
مأثرة الرحيل إلى جبل التجّلي/2

البحث في مجاهل التاريخ يضع الباحثين والباحثات على ضفاف حادّة، فكلما تحركت المياه في جوارها، تماوجت الإجتهادات وتنوعت الفرضيات، وحينذاك تقف الحقيقة حائرة، إذا لم تسعفها الآثار بما يدعم هذا الرأي أو ذاك. في هذا السياق وأنا أكتب الجزء الثاني من مقالتي عن الراحل الدكتور سيد القمني، تذكرت ما قاله الطبيب وسيم السيسي عالم المصريات، في إحدى محاضراته على اليوتيوب، من أن عالم الآثارٍ الإسرائيلي زئيف هرتسوغ من جامعة تل أبيب، قال بأن اليهود لم يمُّروا من مصر، وبالتالي فلا صِّحة لرواية خروجهم منها. يؤكد ذلك ما نشره موقع الرأي اليوم، نقلاً عن مقالة لهرتسوغ نشرها في صحيفة هآرتس الإسرائيلية قبل عامين، وأكدّ فيها على أنه لا يوجد أي إثبات على قيام امبراطورية داوود وسليمان، وأن السبب الرئيس وراء عدم اقتناع علماء الآثار بقصة خروج اليهود من مصر كما وردت في التوراة، هو الغياب الكامل لما يشير إلى بني إسرائيل في تاريخ مصر القديم... ونبه إلى أن علماء الآثار لم يعثروا على أي أثر لبقائهم أربعين عاماً تائهين في سيناء. وأنا إذ أقدِّر لهذا العالم الإسرائيلي شجاعته في نفي أساطير اليهود، لا أعتقد بأن سيد القمني غافل عنها، فقد أشار إلى تناقضات التوراة في أكثر من موضع، ونقد الكثير من أساطير التراث وتضارباتها، فعلى سبيل المثال ينقل عن سِفر الخروج أن المصريين مَرَّروا حياة الإسرائيليين بعبودية من الطين واللبِّن (أي سخَّروهم في البناء)، بينما يوصيهم نص آخر بأن لا يكرهوا المصريين لأنهم كانوا نزلاءَ في أرضهم، ويذهب نص آخر إلى أن بني إسرائيل أحتجوا على النبي موسى بقولهم: أخذتنا إلى القفر (سيناء) بينما كنا في مصر جالسين إلى قدور اللحم، وهذا ما ينفي فكرة الإضطهاد. أراد القمني أن يكشف تضارب النصوص في التوراة، ويقدم تفسيراً طبيعياً لكثير من الظواهر التي بدت كمعجزات كالعصا التي تنقلب أفعى، وانشقاق البحر. أعود لرحلة الدكتور إلى جبل التجَّلي، واستعيد حديثه عن الشراكة المقدسة بين اليهود والمسيحيين والمسلمين، في تبجيلهم للموقع الذي تجّلى فيه الإله، وكيف استلهموا من ذاكرتهم الإيمانية مشهد التجَّلي الأعظم، وصورة الجبل يندكُّ دكّاً من هول الظهور المقدس، فعلى تلك الأرض من صحراء سيناء شاء الله أن يُجيب نبيه موسى إلى ما تطلع إليه من الرؤية المستحيلة، فجاءت بالأخبار روايات الأديان الإبراهيمية الثلاث، وتشعبت في اختلافاتها لتورث الأجيال مزيجاً من الاسفار والقَصص. في محاضرة ممتعة وجديدة في بعض تفاصيلها، يحدِّثنا القمني عن سفره الطويل صوب الجبل المنشود، وينبه إلى أن ما يعرضه يستند إلى نصوص في التوراة، كمادة معرفية، ويعيد التذكير بأن المقصود ببحثه هو موسى التوراتي فقط. وهو بهذا الإستدراك يكون قد استبق بعض الإعتراضات التي صرخ بها دعاة وكتّاب لم يقرأوا كتبه جيداً أو أنهم تعمدوا الإساءة إليه بحجة الدفاع عن الإسلام. وفي رأيي أن مقصد القمني في تتبعه لروايات التوراة، أن يتوصل إلى معرفة جلِّية بعقيدة اليهود وانعكاساتها على علاقتهم التاريخية بمصر والمنطقة العربية، وبصدد هذه العلاقة الإشكالية يُنسب إلى سيغموند فرويد قوله بأن عقدة اليهود الأزلية هي حضارة مصر. ولكي يصف القمني الطريق المؤدي إلى جبل التجَّلي، كان عليه أن يناقش الفرضيات المتعددة بشأن موقع رعمسيس المدينة التي ذكرتها التوراة كنقطة انطلاق ل "ستمئة الف" من المشاة من الرجال في طريقهم إلى سيناء، كما ورد في سِفر الخروج، ذلك لأن النساء لا يُشار إلى أعدادهنّ، وكذلك الأطفال. في موسوعته القيِّمة: النبي موسى وآخر أيام تل العمارنة، التي أخذت منه عمراً طويلاً في البحث والاستنتاج، توصل إلى أن موقع رعمسيس القديمة يكون في شرقي الدلتا، عند تل المسخوطة كما يطلق عليها العامة نسبة إلى الُّلقى الأثرية (التماثيل) التي يسمونها المساخيط. وقد خالف كثيراً من الدراسات التي حددت مواقع أخرى للمدينة دون مراعاة لجغرافيتها التي حددتها نصوص في التوراة. ولأجل ذلك كان على القمني أن يجول في قفار التاريخ، يرسم خرائطاً ويتتبع مسار أنهر قديمة، وبحيرات، ويتوثق من أن المدينة موصولة بالبحر عبر مسار نهري، وكل هذه المتطلبات دعته ليستنطق المدن المفترضة سابقاً ليكتشف أنها لا تطابق ما ورد في وصف رعمسيس وحيثياتها الجغرافية. ولا يتسع هذا الموضوع لبيان الجهد المعرفي الذي بذله القمني، أشير فقط إلى تأكيده على أن المنفذ الوحيد إلى سيناء كان يمر منها حسب وصفها التوراتي. ويالها من رحلة شاقّة كلفته العودة إلى الأسلاف في وسائط نقلهم، فقد ركب حماراً لكون هذا الكائن الصابر المثابر يشابه في مسيره خطوات الإنسان من حيث المسافة. وقد أخذ نصيبه من التعب، لكن متعة الإكتشاف فاقت أتعابه، فأثناء بحثه عن موقع رافيديم الذي أشارت له التوراة، وصل إلى قرية رافيا، التي تسبق الوصول إلى الجبل المنشود، ونزل في ضيافة بعض ساكنيها من البدو، وأكل المَنَّ، والسلوى. ويصف المنَّ بأنه عسل لذيذ يملأ الإنسان بالطاقة، وهو مادة صمغية تشبه الكهرمان تلتصق بالشجر، أما السلوى فهي طيور السمَّان التي يعرفها المصريون، والسيناويون مازالوا يصطادونها في موسم هجرتها، بنصب شباك عالية تقابل البحر المتوسط، وهم يطلقون عليها إسم السلوى. وهنا يشير القمني إلى أن قوم موسى ضجروا من أكل المَنّ والسلوى، وتمردوا على نبيّهم لأنه منعهم من ذبح الحيوانات. وبين الضجر ومحنة اختلاف الإيمان، والتيه في الصحراء، توجه بنو إسرائيل لعبادة العجل الذهبي الذي صنعوه من الذهب المسلوب من المصريات. وهنا ينبه القمني إلى تعدد آلهتهم فقد دخلوا مصر-حسب التوراة- وهم يعبدون الإله إيل ، وخرجوا منها بإله جديد إسمه يهوه وهو إله مصري كان اسمه سِت، وكان المصريون في شرق الدلتا على الحدود مع البادية (شرق محافظة الزقازيق) التي سكنها الإسرائيليون، يعبدونه دون أن يسمونه خشية أن يصيبهم أذاه، فهو يرمز إلى الشر، فيدعونه يهوه، ففي عقيدتهم أن النطق باسم الإله يستحضره، لذلك هم ينطقون باسم آمون إله الخير. ويؤول القمني إسم يهوه إلى أصله (هو) وباللهجة المصرية (اللي ما يسماش، المخفي، اللي هو.. ) وهنا ربما تواجهنا مشكلة التداخل بين اللغات.
في حديث القمني عن جبل التجَّلي نتتبع معه الطريق إليه، ونتوق لرؤية الأحجار المتراكمة التي شكّلت جبلاً ليس كالجبال كما يصفه القرآن الكريم: ".. فلما تجَّلى ربُّه للجبل جعله دكاً وخرَّ موسى صَعِقا.." وما نلبث أن نستحضر صورة التجَّلي في خيالنا، حتى يأخذنا إلى أعماق بعيدة عن زمن موسى، إلى تأريخ أقدم شهد أول علاقة للعبريين بمصر، لحظة وصول الأب إبراهيم، أبو الأنبياء إلى مصر، ذلك أن القمني كان مهتما بالبدايات، فنراه يقول أن إبراهيم لاقى ترحيباً وتكريماً من ملك مصر، وكانت العلاقة جيدةً بين اليهود والمصريين، وبعد خروجه من مصر أختتن تأثراً بالعادة المصرية القديمة، فلم يكن الختان شِرعة لدى قومه. ويوضح القمني بأن الختان كما تنص التوراة، هو علامة العهد بين إبراهيم وربّه، مقابل الوعد بمنح نسله الأرض بين النيل والنهر الكبير الفرات. ويمضي القمني في تشريحه لنصوص التوراة، فيذكر أخبار النبي يوسف الذي لاقى حظوة لدى ملك مصر الهكسوسي بحيث جعله أميناً على خزينتها، وسمح له بجلب قومه، فتناسلوا وكثرت أعدادهم وعمّ خطرهم. لكن الأحوال تغيرت بعد طرد الغزاة الهكسوس على يد الملك أحمس الأول الذي عاقب بني إسرائيل لتحالفهم مع الهكسوس وإساءاتهم لشعب مصر، وهناك تفاصيل مثيرة أوردها القمني عن علاقة النبيين إبراهيم ويوسف بالقائمين على أمر مصر في زمانهم، ويمكن لمن يبغي المزيد أن يراجع موسوعته عن النبي موسى. إضافة إلى ماتقدم يشير الراحل الجليل إلى مرحلة أخرى من توتر العلاقة بين المصريين واليهود، وظهور انعكاساتها في نبوءات إشعياء وحزقيال في القرن السادس قبل الميلاد، ويشرح القمني سبب هذا التحول بأن ملوك مصر كانوا يشنُّون حملات لتأديب بدو سيناء والحجاز وبادية الشام، الذين كانوا يغيرون على أراضي مصر في موسم الحصاد ليسلبوا الفلاحين محصولهم، ويخطفوا ما استطاعوا من الأطفال والنساء، وهذا يعني أن اليهود كانوا من بين المُغيرين. وقد عبّر إشعياء عن حقده على مصر وتنبأ لشعبها بالخراب والهلاك، وأمطرها بتوقعات لا يمكن لعقل بشري أن يقبلها، فضلاً عن ما تثيره من اشمئزاز، وهذه بعض من خرافات اليهود.
ويخلص القمني في بحثه، إلى أن اليهود كما روت توراتهم، أخذوا معهم وهم خارجون مع موسى من مصر إلهاً مصريا (يهوه) وإن عهد إبراهيم مع الله هو الختان المصري، ليتذكر كل يهودي ذلك العهد كلما نظر لجسده. ختاماً أقول أنَّ رحلة القمني إلى الجبل الساكن في قلوب المؤمنين على اختلاف مشاربهم لجديرةٌ بالمتابعة، وهذا ما دعاني لاختيار عنوان مقالتي، فقد كان الراحل يعبِّر عن روح تتجَّلى في توقها لمعرفة نقيّة، تنشد الحقيقة ولا تُحكّم الرغبات وسلطة المعتقدات، لكنها في الوقت نفسه لا تتجاهل الأساطير بقدر تمثيلها لفكر أقوام عاشوا في زمن سحيق، وكانت قدراتهم العقلية على قدر زمانهم.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. من يدمر كنائس المسيحيين في السودان ويعتدي عليهم؟ | الأخبار


.. عظة الأحد - القس تواضروس بديع: رسالة لأولادنا وبناتنا قرب من




.. 114-Al-Baqarah


.. 120-Al-Baqarah




.. الرئيس #السيسي يستقبل سلطان البهرة ويشيد بدور الطائفة في ترم