الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


سؤال المنهج: الحلقة الثالثة

رواء محمود حسين

2022 / 3 / 18
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


والعلاقة التفاعلية مستمرة، في ضوء التفسير المتأمل لوحدة العلاقة الجدلية عن طريق تقديم البعد الرمزي الموصل للوحدة الرمزية بوصفها علاقة بين الكل المُفَسَّر. فعن طريق الإيمان بغيب لا متصور (لامتعين) أو بعبارة ثانية، استحضار الإيمان باللامحدود الوجودي (غير المتعين أو غير المادي)، من قبل المحدود الوجودي المتدين استحضاراً فاعلاً، من خلال فعل هادف يقصد هذا الاستحضار(وعي بالاستحضار)، إذ يمر الاستحضار، وكما تقدم، عبر فعل نفسي داخلي يشرك عناصر المستحضر كلها، أو أبعاده من داخل، لكي يستحضر، بمعنى يقوم بعملية الاستحضار، تقدم عملية الاستحضار، المشارة نتيجة هي حضور اللامتعين في المادي المحدود الوجودي: (الإنسان المتدين) لأداء فعل، هو نتيجة من نتائج الاستحضار المشار، القيام ب(فعل روحي)، من قبل المحدود الوجودي المتدين، وكما أشرنا، إذ يقدم مصطلح (الوجودي) المتوسط بين (المحدود) و(المتدين) تفسيراً ثنائياً لا أحادي الجانب ، بمعنى المحدود الوجودي الفردي والجمعي، إذ يشملهما الفعل الروحي كليهما، بمعنى ( اقامة الصلاة) أو القيام بها، تنتقل وحدة العلاقة الجدلية في تفسيرنا بعد ذلك في الابعاد الثلاثة المشارة 1 – فعل داخلي (الايمان الغيبي). 2 – فعل خارجي روحي (اقامة الصلاة). 3 – فعل خارجي مادي (الإنفاق من رزق الله).
يبين الغزالي أن النفس الانسانية الناطقة تنقسم قواها أيضاً إلى طاقة عاملة وإلى طاقة عالمة وكل واحدة من الطاقتين تلقب عقلاً بمشاركة الإسم فالعاملة قوة هي مبدأ انفعال لبدن الإنسان إلى الأفاعيل الجزئية الخاصة بالروية على لازم آراء تخصصها مصطلحية ولها مراعاة بالقياس إلى القوة الحيوانية النزوعية، ومراعاة بالقياس إلى القوة الحيوانية المتخيلة والمتوهمة، واتعاظ بالقياس إلى نفسها وقياسها إلى القوة الحيوانية النزوعية، أن يحدث منها فيها أشكال تخص الإنسان يهيأ بها لسرعة فعل وانفعال مثل الخجل والبكاء والحياء والضحك وما شابه ذلك ومقياسها إلى القوة الحيوانية المتخيلة والمتوهمة هو أن تستخدمها في استنباط التدابير في الأمور الكائنة والفاسدة واستنباط الصنائع الإنسانية، وقياسها إلى نفسها أن فيما بينها وبين العقل النظري تتولد الآراء الشائعة الشهيرة مثل إن الكذب قبيح والظلم قبيح والصدق حسن والعدل جميل، وعلى الجملة جميع حذافير الشريعة فهو إسهاب هذه المعروفات المتولدة بين العقل النظري والعملي، وهذه القوة هي التي يجب أن تتحكم على سائر قوى البدن على حسب ما تحتمه أحكام القوة حتى لا تنفعل عنها مطلقا بل تنفعل هي عنها وتكون مكبوحة دونها لئلا يحدث فيها عن الجسم أشكال منقادة مستفيدة من الأمور الطبيعية وهي التي تسمى رذائل الأخلاق بل يجب أن تكون غير منفعلة البتة وغير منقادة بل متسلطة مستولية فتكون لها فضائل الأخلاق. [1]
يبين الغزالي أن طريق السعادة العلم والعمل، وقد أجمعوا على أن الفوز والنجاة لا تحصل إلا بالعلم والعمل جميعاً، وأن أجمعوا على أن العلم أشرف من العمل. وكأن العمل مكمل له وسائق بالعلم إلى أن يقع موقعه، والكلم الطيب يعود إلى العلم عند البحث، فهو الذي يصعد ويقع الموقع، والعمل كالتابع له يرفعه ويحمله. وهذا تنبيه على علو رتبة العلم. إن سعادة كل شيء ولذته وراحته في وصوله إلى كماله الخاص به. [2]
ثم تعلم أن الكمال الخاص بالإنسان هو إدراك حقيقة العقليات، على ما هي عليه، دون المتوهمات والحسيات التي يساهمه الحيوانات فيها. ثم تعلم أن النفس بالذات متعطشة إليه، وبالفطرة مستعدة له، وإنما يعزلها عنه اشتغالها بشهوات البدن وعوارضه مهما استحوذت عليه ومهما غلب الشهوة وهزمها وسلم العقل عن رقها وعبوديتها إياه، وأكب بالتفكر والنظر على مطالعة ملكوت السماوات والأرض، بل على مطالعة نفسه وما خلق فيها من العجائب، فقد وصل إلى كماله الخاص، وقد سعد في الدنيا إذ لا مغزى للسعادة إلا حصول النفس كمالها الممكن لها، وإن كانت درجات الكمال لا تنحسر. ولكن لا يخطر بتلك اللذة ما دام في العالم محظوراً بالحس والتخيل وعوارض النفس، كالذي عرض للمطعم الألذ، وفي ذوقه خدر فيزول، فيشعر باللذة المفرطة. [3]
يبين ابن خلدون أن عالم الواقعات الحقيقية إنما يستكمل بالفكر، وأن عالم الكائنات يحتوي على أنفاس محضة، كالعناصر وعلاماتها والمصورات الثّلاثة عنها، الّتي هي المعدن والنبات والحيوان. وهذه كلّها مرتبطات بالقدرة الإلهيّة وعلى أعمال منبثقة عن الحيوانات، واقعة بمقصودها، مرتبطة بالقدرة الّتي جعل الله لها عليها: فمنها نسقي مرتّب، وهي الأعمال البشريّة، ومنها غير منتظم ولا مرتّب، وهي أعمال الحيوانات غير البشر. وذلك الفكر يميز التنسيق بين الحوادث بالطّبع أو بالوضع، فإذا عزم إيجاد شيء من الأشياء، فلحين الترتيب بين الحوادث لا بدّ من التفطّن بسببه أو علّته أو شرطه، وهي على العموم مبادئه، إذ لا يوجد إلّا ثانيا عنها ولا يمكن وقوع المتقدّم متأخّرا ولا المتأخر بالتقدم. وذلك المبدأ قد يكون له مبدأ آخر من تلك الأساسات لا يوجد إلّا متأخّرا عنه، وقد يرتقي ذلك أو ينتهي. فإذا انتهى إلى آخر المبادئ في مرتبتين أو ثلاث أو أزيد، وبدأ في العمل الّذي ينشئ به ذلك الشّيء بدأ بالمبدإ الأخير الّذي انتهى إليه الفكر، فكان أوّل عمله. ثمّ تابع ما بعده إلى آخر المتسببات الّتي كانت بداية فكرته. [4]
ويضرب ابن خلدون المثال الآتي: لو فكّر في إيجاد سقف يكنّه تحول بعقله إلى الجدار الّذي يسنده، ثمّ إلى الأساس الّذي يقف عليه الجدار فهو آخر الفكر. ثمّ يشرع في العمل بالمبدأ، ثمّ بالحائط، ثمّ بالسّقف. وهو آخر العمل. بعض. ثمّ يشرع في عملها. وأوّل هذا الفكر هو المتسبب الأخير، وهو آخرها في العمل. وأوّلها في العمل هو المتسبب الأوّل وهو آخرها في الفكر. ولأجل الإيجاد على هذا التبويب يجمع الاطراد في الأعمال البشريّة. وأمّا الأعمال الحيوانيّة لغير البشر فليس فيها اطراد لعدم الفكر الّذي يعثر به الفاعل على التصنيف فيما يفعل، إذ الحيوانات إنّما تتبين بالحواسّ ومدركاتها منفصلة خليّة من الرّبط لأنّه لا يكون إلّا بالفكر. ولمّا كانت الحواسّ المفترضة في عالم الكائنات هي الانتظامية، وغير الانتظامية إنّما هي تبع لها، انشملت وقتذاك أعمال الدواب فيها، فكانت مسخّرة للبشر. [5]
ويضيف ابن خلدون: واستولت أفعال البشر على عالم الحوادث، بما فيه، فكان كلّه في طاعته وتسخّره. فهذا الفكر هو الخاصّة البشريّة الّتي تميّز بها البشر عن غيره من الحيوان. وعلى قدر حصول الأسباب والمسبّبات في الفكر مرتّبة تكون إنسانيّته. فمن النّاس من تتوالى له السببيّة في مرتبتين أو ثلاث، ومنهم من لا يتجاوزها، ومنهم من ينتهي إلى خمس أو ست فتكون إنسانيّته أعلى. واعتبر ذلك بلاعب الشّطرنج: فإنّ في اللاعبين من يتصوّر الثّلاث حركات والخمس الّذي ترتيبها وضعيّ، ومنهم من يقصّر عن ذلك لقصور ذهنه. وإن كان هذا المثال غير مطابق، لأنّ لعب الشّطرنج بالملكة، ومعرفة الأسباب والمسبّبات بالطبع، لكنّه مثال يحتذي به الناظر في تعقّل ما يورد عليه من القواعد. والله خلق الإنسان وفضّله على كثير ممّن خلق تفضيلا. [6]
وأيضاً من مسائل المنهج الحداثي المتدين الإنفاق من رزق الله، وهي علاقة بين المحدود الوجودي المسلم، إذ يمتد المصطلح (الوجودي) ليشمل المحدود المسلم، كما تقدم الفردي والجمعي، فهي علاقة متبادلة، علاقة فرد بمجموع، وعلاقة الثاني بالأول، على اساس توازن (لا مصلحي)، إذ يتم احتساب العلاقة (اقتصادياً)، على حساب (المنفعة المتبادلة)، بين الفرد ومجموعه. العلاقة بين المحدود المسلم (الوجودي الفردي والجمعي)، في ضوء تفسير فلسفة التحليل الديني الجديدة، علاقة (لامصلحية) إذ هي (علاقة ربانية)، بكل ماتشمله (الربانية) بعدها مصطلحاً من أبعاد ومساحات تحليلية وتفسيرية ورمزية شاسعة، في العلاقة المثا-واقعية، علاقة تجاوز الروحي للمادي، من خلال توازن بينهما، أي من خلال تجاوز (البعد الاقتصادي) في المحدود الوجودي المسلم (الفردي والجمعي)، أو (صراع البقاء) بالمصطلحات الحديثة، التي لاتعبر عن وجهة نظر اسلامية، بل (حوار البقاء) من وجهة نظر الأخيرة، أي المصطلح (الربانية) في مجال الدراسة الآني، عن وصلة لامنفصلة بين المحدود الوجودي المتدين وبعده الاقتصادي، بمعنى رغبة (اللاأنفاق) فيه. إذن من خلال تجاوز الذات في المحدود الوجودي المتدين، تجاه موضوع الذات، تجاوزاً لايطغى على حساب الموضوع، والموضوع هنا هو الآخر بالنسبة للأنا، أي الفردي والجمعي كليهما، بمعنى (يستلبه)، بل يؤصل فيه ويؤسس تجاوز الذات، أو موضوعها في التجاوز، في الموضوع (الآخر بالنسبة للأنا)، يجعل الآخر، أي من خلال هذا التجاوز من قبل الأنا، كالأنا في فعلها، أي (التجاوز الاقتصادي) للبعد الاقتصادي الفطري، نحو انفاق متوازن ، وعلى أساس علاقة متوازنة شمولية، بين الفردي والجمعي في المحدود الوجودي الإنسان المتدين، يمكن أن تحقق أو تؤسس الفعل الاقتصادي الهادف (الواعي أو العامل) نحو رفاهية اقتصادية تشمل الكل (الفردي والجمعي) في المحدود الوجودي المتدين، وهذا هو أساس (النظرية في الاقتصاد المتدين).
إن الإيمان بالغيب يشير الى فعل الايمان الحضوري، في المحدود الوجودي المتدين، من خلال فعلي الايمان: (الإيمان الحضوري) و(الإيمان القبلي للحضور). إنه فعل الإيمان (الحضوري) من خلال فعل هادف، قاصد أو واعي، تجاه موضوع يستوجب ويستدعي لزوم الايمان الحضوري، وكذلك الايمان بما أنزل على النبي الأكرم، ليعبر عن علاقة (لامنفصلة) بل (اتصالية) بموضوع الايمان الحضوري، أعني علاقة الذات (المحدود الوجودي المتدين) بموضوعها (الإيمان الحضوري). إذا كان الفعل في المقطع (لازماني)، بمعنى كونه غير محدد بزمن معين، بل (ممتد)، إذ يغطي كل زمان أو أبعاد الزمان (الإيمان الحضوري) بموضوعه، بمعنى علاقته به، لان الفعل نفسه من خلال بنيته اللغوية (لامتحدد) ببعد زماني معين، إذ أنه على أساس تحديد (البعد الزماني اللامتحدد) لفعل الايمان الحضوري، من خلال بنيته اللغوية نفسه، ينطوي على تأكيد الفعل (اللازمني المحدد) في (الزماني المحدد)، زمان المحدود الوجودي الإنسان المسلم، إذ هو زمن فعله تجاه موضوع فعله. إذن زمن الفعل يشملني أنا ، ويشمل الأنا البعدية، إذا أردت أن أوجز بدل استخدام تعابير (الماضي ، الحاضر، المستقبل)، بعدها تعابير تجزيئية لزمان فعل الايمان، بتعبير أولي، وعن (الفردي الجمعي) في ذات المحدود الوجودي: الإنسان المتدين، بدلالة الفعل الإيماني، أما عن زمان فعل الإيمان، فالتعابير الانوية المشارة، أنا ماقبلي ، وأناي أنا، والأنا البعدية، فهي يمكن أن تعبر، ومن خلال وجهة نظر أخرى، عن امتداد المطلق الوحيوي، في المحدد النسبي، لكي يغطيه بإطلاقه كله، ويتجاوزه بامتداده بالمطلق وفيه، مطلقه هو، أي مطلق النص الوحيوي. واذا كان المقطع من النص كله، يمتد ليشمل ـو يغطي، من خلال امتداده الزماني نفسه، بعده بعداً، او امتداد مطلق في النسبي المحدود، أي الوجود الأرضي، امتداد اللازمني المحدود في المحدد الزمني، هو من خلال تفسير آخر، يمتد في مكان الفعل، بعده الثاني، الملازم لزمانه، بمعنى أرضيته، أو محل وقوع الفعل، أو وجود المحدود الوجودي : الانسان المتدين، وليدخل الزمان والمكان بالنسبة إلى فعله، أي المحدود الوجودي في علاقة متصلة، علاقة مطلق بنسبي، بالنسبة لكليهما، الزمان والمكان، وعلاقتهما كل منهما بالاخر، بوصفهما بعدين لامنفصلان، بل متصلان كذلك بالفاعل (المحدود الوجودي المتدين)، صاحب الفعل ، بعدّه ذاتاً فاعلة، متصلة بموضوع فعلها، موضوع فعل الذات الفاعلة، الايمان الحضوري.
والحضور، بوصفه مفردة استخدمت في الترميز الى فعل الايمان، ما أشير إليه آنفاً، حضور الايمان نفسه في ذات المحدود الوجودي: الانسان المتدين، فاعل الإيمان، وحضور ذاته في موضوع ذاته كذلك، (الإيمان الحضوري)، من خلال تجاوزه لنفسه إلى موضوع فعله. الإيمان الحضوري، يؤكد حضوره، في وجود المحدود الوجودي من داخل، بوصفه ذاتاً (فاعلة)، هدفها موضوع الإيمان، ومن خارج ذاته، في الوجود الخارجي، بوصفه شمولاً لذات الفاعل، حضور الإيمان في داخل المحدود الوجودي المتدين، وفي خارج حضوره، يؤكد دوره في بناء العالم، وفي بناء إنسانه، اي إنسان العالم. ليس الإيمان الديني ايماناً نسبياً، بل هو إيمان حقيقي ودقيق، فالإيمان لا محدد بزمان أو مكان، فحضور الإيمان في المديات الزمنية الثلاث (الماضي، الحاضر، المستقبل)، يعني من وجهة نظر أخرى حضوره في مكان هذه المديات، وفي وجود المحدود الوجودي المتدين الموجود في مكان هذه المديات في زمن (الماضي، الحاضر، المستقبل)، وتغير امتدادها المكاني، بدءاً من وجود المحدود فيها، وجود المحدود الوجودي: الإنسان المتدين، في هذا العالم، إلى تغيير الوجود الكلي الأكبر، أي تغيير العالم، بعده امتداداً واسعاً وشاملاً قابلاً للتغيير، وبوصفه موضوعاً للتغيير. إذن التغيير يبدأ، وبوصفه فعلاً واعياً قاصداً أو هادفاً من قبل الإنسان، وفي ضوء نور الله، لتغيير العالم، والإنسان، المحدود الوجودي فيه، من عالم إلى اخر يتم انتزاع سلبياته الوجودية ومنه، عن طريق هذا التجاوز المغير. من خلال حضور الإيمان في اللامكاني المحدود والزماني، وفي المحدد منهما، خصوصاً في ذات المحدود الوجودي المتدين.
وفي هذا السياق يتجلى (الإيمان القبلي للحضور)، بوصفه ملازماً للإيمان الأول (الإيمان الحضوري)، أولاً من خلال التلازم اللغوي، بوصفه بنية كلية، واحدة، متصلة، غير منفصلة،، وملازم تلازماً فعلياً (البعدي- البنيوي)، إذا أردنا تجاوز بنية النص نحو مدلولها، الدال نحو فعل، من خلال المدلول نفسه، يؤكد الايمان ولا يلغيه، من خلال فحصه من داخل، أي (الإيمان القبلي للحضور)، أي البنية غير اللغوية بل الفعلية كذلك، من داخل، من خلال ذلك يمكن تأكيد وحدة الموضوعين، من جوانب أساسية كثيرة، تؤكد عدم انفصالهما عن بعض، بوصفهما موضوعين للفعل، اذ يقف التوحيد في طليعة الجوانب الأساسية الجامعة لوحدة موضوع فعل الإيمان. كل دعوات الأنبياء والمرسلين اشتركت في وحدة موضوعها العقدي، بوصفه موضوعاً يتناول التوحيد، واخلاص الواحد بالعبادة، بكل معطيات الإخلاص، بعدّه ركيزة أساسية لموضوع الإيمان، وهذا ما اشتركت به كل الدعوات النبوية التوحيدية. إذن فعل الموضوع ، أو الموضوع بوصفه فعلاً، هو واحد في كليهما (الإيمان الحضوري) و(الإيمان القبلي للحضور)، وبذلك يمكن إدراك البنية اللغوية لموضوع الإيمان، في عرض كلا الإيمانين، متسلسلة في السياق، من خلال تقديم (الإيمان الحضوري) على (الإيمان القبلي للحضور)، لأن الأول يستدعي الثاني ، أي يوجبه ويؤكده، من خلال تجاوز الأول إلى الثاني، تجاوزاً لا يلغي الأول أو صلته بالثاني ، بل يؤسس ويركز صلته، أي الأول بالثاني وبالعكس، وإن الثاني امتداد للأول في عمقه التاريخي وبعده العقدي، وبالعكس كذلك – وإن كان الإيمان الأول، أي (الإيمان الحضوري)، يباين الثاني، أي (الإيمان القبلي للحضور)، في جوانب أخرى، مثل التشريع، على اساس مرحلته التاريخية، وصلتها بواقعه العملي، لكن هذا لايلغي الوحدة الموضوعية لكلا الإيمانين.
وبذلك يكون الإيمان بالآخرة آخر فعل للمحدود الوجود المتدين ومقدمات نتيجته الأخيرة كما سيرد بالنسبة للموجود عموماً، وللمحدود الوجودي: الإنسان المتدين تخصيصاً، الآخرة تأتي أو تبتدأ إذ تنتهي حياته الأولى المادية الأرضية من خلال الموت الذي يشكل الانقطاع الأخير الفيزيولوجيـ إذ ينتهي بالموت آخر أفعال الفسيولوجية بداية وجوده الآخر وتأكيداً على انتهاء وجوده البدائي أو الأرضي، والبدائي لأنه امتداد لما لانهائي الوجود، امتداده الثاني أي المحدود الوجودي في وجود آخر. إذن على أساس الموت الذي يشكل انقطاع المحدود الوجودي عن وجوده الداخلي ذاته وعن وجوده في خارج، أي في العالم البدائي، أي عن امتداده في كليهما، لذلك فإن الموت ذاته يشكل ابتداء الوجود من نوع ثاني بالنسبة للمحدود الوجودي في امتداد آخر، أقصد عالماً آخر.
يدرس الوجوديون الموت، ويعد في طليعة المباحث التي تدرسها الوجودية بتركيز إذ يشكل أي الموت، نقيض امتداد المحدود الوجودي الأول، أي بدايته الأولى، أي الولادة على أساس اعلانها بداية وجوده بوصفه محدوداً وجودياً، في وجود بدائي، العالم الأرضي، ويكاد الموت أن يكون اخر مباحث أنطولوجيا في الوجودية، إذا نظرنا إليه على أساس تاريخ المحدود الوجودي، أي مراحله الحياتية في سبيل ترتيب مراحل الانطولوجيا المشارة، إذ يشكل الموت، كما تقدم، العالم بالنسبة للمحدود الوجودي من نوع ثاني. هذا بتركيز خلاصة دراسة الوجودية لمبحث الموت وان كانت دراستهم إياه تتصل به نفسه على أساس العلاقة علاقته بالموجود البشري لا على أساس ميتافيزيقي.
من خلال امتداد المحدود الوجودي بفكره اي استرجاعه إياه، ولما فيه، على أساس تأملاته في أبعاده في الزمن المحدود، تبتدأ دراسة مبحث الموت بوصفه دراسة انطولوجية للوجود ولموجوده (المحدود الوجودي) تأمل المحدود الوجودي لامتداده في زمانه، أي زمان وجوده في عالمه من داخل أو خارج يحمل أبعاداً تأملية في الأبعاد التقليدية للزمن (الماضي الحاضر والمستقبل) إذ يشكل البعد الثاني في الامتدادات الزمنية، تأكيداً على وجود المحدود الوجودي، من خلال تأمله في ذات وجوده الآني (أنا أفكر إذاً أنا موجود) الكوجيتو الديكارتي، حيث يتم قلب هذا الكوجيتو في الوجودية ليكون أنا موجود إذا أنا أفكر ليكون دليلاً على تجاوزه لشكوكه في وجوده أو عنه، لأن شك الوجودي يشكل بداية وعي المحدود الوجودي في وجوده، إذ يتوقف التأمل إلى مرحلة عجزه عن مواصلة التأمل حيث يصل إلى (الجزء الخاوي) في ذاكرته ليوقف آخر تأملاته، أو يتوقف الأخير في وجوده الزماني والمكاني إلى حدود بداياته الأولى، إلى بداية تشكل ولادته الأولى، أي اعلان بدء تاريخ وجوده، أي المحدود الوجودي الأرضي. وخلال امتداد تأمله في البعد الزماني الثالث لوجوده، أي المستقبل يبدو الجزء الخاوي في ذاكرته يستعيد نفسه فيه، إذ ينتهي، والتأمل هنا غير عاجز عن التذكر، لكن عن تحديد نهايته، إذ يتوقف عند انتهائه حدود زمانه بوصفه موجوداً في هذا العالم.
إن أبيات الشاعر الألماني ريلكه يمكن أن توضح بدرجة كبيرة وضع الموت بوصفه مبحثاً في الوجودية، أو طريقة دراسة الوجودية له:
" إن نفي مشيتنا ما ينطق بأننا في طريقنا إلى الرحيل،
وهكذا نعيش لكيلا نلبث أن ننصرف مأذوناً لنا بالرحيل..
وربما كان عدم البقاء هو المعنى الاوحد هذا الوجود".
لكن ما يقوله الوجود من أن الموت إذن هو الرمز الكبير للتناهي البشري، وربما للعبث البشري، [7]فنحن نختلف معهم في هذا التوصيف للموت. فإذا كان الموت دليلاً على التناهي البشري، إذ تنتهي حياة الإنسان وباقي الموجودات بالموت، لأن الموت نفسه دليل على هذا التناهي من وجهة النظر الدينية، فالموت هو تناهي المحدود الوجودي في وجوده الأرضي المادي، لكنه ليس دليلاً على العبث البشري، ليس دليلاً على عدم وجود (عالم) آخر من نوع ثاني مختلف عما نراه في عالمنا الدنيوي، والاختلاف كذلك مع الوجوديين في أن الموت دليل على عبثية الوجود الأرضي، فالموت يؤكد عدم العبثية في الكون، وأن هناك غاية محكمة للخلق، من قبل الحكيم الذي أبدع هذا الوجود، بل العبث البشري إنما يكون من قبل أولئك الذين غرتهم الحياة الدنيا، واتخذوها لهواً ولعباً ولم يكن لهم أي هدف في الحياة، ولا أي تخطيط باتجاه الآخرة. هذا هو العبث البشري إنما يكون من البشر العابثين فحسب، أما الكون والخلق فلا عبث فيه مطلقاً بل هناك غاية محكمة تقف خلفه، وعناية واختراع إلهي أوجده.
كتب الإمام الغزالي عن (نفي الخوف من الموت)، فذكر أن للإنسان حالتان، حالة قبل الموت، وحالة بعد الموت. أما قبل الموت، فينبغي أن يكون الإنسان فيها دائم الذكر للموت. والناس فيها قسمان: غافل وهو الأحمق الحقيقي الذي لا يتفكر في الموت وما بعده إلا نظراً، في حال أولاده وتركاته عند موته، ولا ينظر ويتدبر في أحوال نفسه، ولكن لا يتذكر إلا إذا رأى جنازة، ولا يعود إلى الله عز وجل بأفعاله إلا بأقواله، فيكون كاذباً في أقواله تحقيقاً. وأما العاقل الكيس فلا يبارحه ذكر الموت، كالمسافر إلى مقصد الحاج مثلاً، فإنه لا يزايله ذكر المراد، وأعمال المنازل في الحط والترحال لا تنسيه مقصوده. وعلى الجملة، فذكر الموت يبعد فضول الأمل، ويكف غرب المنى، فتسهل المصائب ويحول بين الإنسان وبين الطغيان. [8]
ويضيف الإمام الغزالي أن من ذكر الموت، تتولد القناعة بما رزق والمبادأة إلى التوبة، وترك المحاسدة والاكتراث بالدنيا والفعالية في العبادة، وينبغي أن يكون المتراخي عن عبادته، ألا يصبح يوماً إلا ويقدّر أنه سيموت تقديراً للموت العاجل، فإنه ممكن. ومهما قدّر الموت بعد سنين، لم يحرص على العبادة، ولم تفتر رغبته في الدنيا، بل لا ينبغي أن يترك نفسه أكثر من يوم، فيكون كل يوم على تقدير الاستعداد للرحلة نهاراً. فكل من يستنظر أن يدعوه ملك من الملوك كل ساعة، فينبغي أن يكون جاهزاً للإجابة، فإن لم يكن فربما يأتيه الرسول، وهو غافل فيحرم عن السعادة. وما من وقت، إلا ويرى فيه الموت ممكناً، فإن قلت: الموت فجأة بعيد، قلت: فإذا وقع المرض، فالموت غير بعيد. وذلك يمكن في أقل من يوم، ولا يكون بعيداً.[9]
إذاً سؤال المنهج بالنسبة للحداثة الدينية، يتمثل بتقديم تفسير رؤيوي ماهوي وكلي وتجريدي، على أساس عده منهجاً تأملاً سكونياً أو توحد حول الذات، والبعد عن العلاقة مع الموضوع، وعكوف أو عزوف، وعدم عمل على أرض العمل، بل سؤال المنهج بالنسبة للحداثة الدينية هو منهج فعل وحركة وتغيير، وعلاقة متوازنة بين الذات والموضوع. والهدف التغيير نحو الأفضل دوماً.



الهوامش:


[1] أبو حامد محمد بن محمد الغزالي الطوسي (المتوفى: 505هـ): " معارج القدس في مدراج معرفة النفس"، الناشر: دار الآفاق الجديدة - بيروت الطبعة: الثانية، 1975، ص 49 – 50.
[2] أبو حامد محمد بن محمد الغزالي الطوسي (المتوفى: 505هـ): " ميزان العمل"، حققه وقدم له: الدكتور سليمان دنيا الناشر: دار المعارف، مصر الطبعة: الأولى، 1964، ص 194 – 195.
[3] الغزالي الطوسي: " ميزان العمل"، ص 195 – 196.
[4] عبد الرحمن بن محمد بن محمد، ابن خلدون أبو زيد، ولي الدين الحضرمي الإشبيلي (المتوفى: 808هـ): " ديوان المبتدأ والخبر في تاريخ العرب والبربر ومن عاصرهم من ذوي الشأن الأكبر"، المحقق: خليل شحادة الناشر: دار الفكر، بيروت الطبعة: الثانية، 1408 هـ - 1988 م، 1/ 592.
[5] ابن خلدون: " ديوان المبتدأ والخبر في تاريخ العرب والبربر ومن عاصرهم من ذوي الشأن الأكبر"، 1/ 592 – 593.
[6] ابن خلدون: " ديوان المبتدأ والخبر في تاريخ العرب والبربر ومن عاصرهم من ذوي الشأن الأكبر"، 1/ 593.
[7] أفكار الوجودية أعلاه عن الحياة والموت من خلال د. جون ماكوري: "الوجودية Existentalism"، ترجمة الدكتور إمام عبد الفتاح إمام، مراجعة الدكتور فؤاد زكريا، سلسلة عالم المعرفة (58)، الكويت، 1982م، الفصل العاشر: "التناهي والذنب"، 2- الموت، ص 279 – 288، وتلاحظ الاقتباسات أعلاه في الصفحات، 283، 287، على التوالي.
[8] الغزالي: " ميزان العمل"، ص 393.
[9] الغزالي: " ميزان العمل"، ص 394.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أمريكا تزود أوكرانيا بسلاح قوي سرًا لمواجهة روسيا.. هل يغير


.. مصادر طبية: مقتل 66 وإصابة 138 آخرين في غزة خلال الساعات الـ




.. السلطات الروسية تحتجز موظفا في وزارة الدفاع في قضية رشوة | #


.. مراسلنا: غارات جوية إسرائيلية على بلدتي مارون الراس وطيرحرفا




.. جهود دولية وإقليمية حثيثة لوقف إطلاق النار في غزة | #رادار