الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مقهى الملحدين : في مقاهي بغداد العظيمة .. هكذا تكلم علي-دشت (5)

سليم خالد

2022 / 3 / 23
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


افتتاحية :
( مقاهي بغداد )
في فترة قديمة بالكوكب الأرضي كانت بغداد هي المدينة الرائدة الأولى بكل مقاهيها ومؤسساتها التعليمية وفي تلك الفترة بغداد هي المكان الجذاب الأول لكل العقول المفكرة متقدمة على أغلب دول العالم وتحديدا في الفترة 800-1100م.
يعتبر المقهى في بغداد منتدىً إجتماعياً يلتقي بهِ الناس للترفيه عن أنفسهم، وقد يكون أحياناً مكاناً تناقش فيهِ شؤون أهالي المحلة أو البلدة من مواضيع إجتماعية ودينية وسياسية وتعلمية وأدبية وعلمية وغيرها ففيه تعقد فيهِ جلسات مختلفة حسب المناسبات التي تخص شخص أو جماعة معينة، سواء كانت هذه المناسبة مفرحة أو محزنة، عامة أو خاصة .في المقاهي البغدادية حيث يُقدم الشاي بواسطة "قدح" وتتكون أدوات اعداد الشاي من الأبريق ويسمى (قوري)، وخزان الماء الحار ذو الصنبور ويسمى (سماور) واعتاد البغداديون على إرتياد المقاهي لشرب الشاي الحارويعتبر الشاي الحار هو المشروب الروحي للشعب العراقي في جميع الأوقات والمواسم.
خصوصية المقاهي البغدادية متفردة ولا تشبه غيرها من ناحية مكانتها ونكهتها وشخوصها وحتى نوع قهوتها ومشاريبها وأغنياتها . إضافة إلى مشروبات أخرى مشهورة لديهم كالقهوة والحلوى وغيرها الكثير من اللذائذ.

وفي هذا المقال أدعوك أيضًا لشرب الشاي الأحمر المبخر تحولت المقاهي المنتشرة على جانبيه إلى منتديات ثقافية شكلت مناخًا أدبيًا وثقافيًا وفنيًا جذبت الأدباء والكتاب والمسرحيين والتشكيليين من كل أنحاء البلاد، ومرت المقاهي بفترات من الانحسار والنهوض بحسب تعاقب الأحوال فيها واضطرابها أو استقرارها، وستشهد مقاهيها عودة عظيمة نظرًا لأنها تمتلك زخم تاريخي هائل بالثقافة والحضارة.


مقدمة طويلة :
( مقاهي بغداد العظيمة )
*ملاحظة سريعة : يُقصد بمصطلح بغداد العظيمة هي عندما كانت بغداد في فترتها الذهبية وعندما كانت أحد أهم المراجع العلمية الهامة في العالم. وإننا نرجو أن تعود بغداد أقوى مما كانت عليه في المستقبل القريب.
حينما نتحدث عن بغداد العظيمة فنحن بالتأكيد نتحدث تاريخ بغداد ونهضتها وحضارتها وجمالها وعن العصر الذهبي لبغداد وهو في الفترة الواقعة بين 800-1100م كانت البلاد منفتحة على جميع الثقافات والأديان والبلاد , ولكن مالا يفهم بالموضوع هو إصرار التيارات الإسلامية بإنساب تلك الفترة إلى "الحضارة الإسلامية " وتكاد الكتب الإسلامية تزُج بكل تلك المزاعم بأن ماحدث هنالك كان بسبب "نهضة إسلامية ما" وهذا بالتأكيد غير صحيح ..أو بالأصح ليس كما يصوره رجال الدين في مخيلتهم للناس ولقد تناسى بشكل متعمد هؤلاء بأن ما كان يجمع العلماء آنذاك هو قاسم اللغة حيث كان الكثير من العلماء والأدباء ذوي الأسماء الكبيرة غير مسلمين وماكان القاسم الأكبر بينهم الذي يجمع هؤلاء هو قاسم اللغة العربية وليس الإسلام أي أن موجة الحضارة في بغداد العظيمة كانت بسبب "الحضارة العربية" ولسبب ما تم طمس هذا المصطلح في كتب التاريخ بشكل متعمد وتغييره إلى "الحضارة الإسلامية" وبالأصح بأن التيارات الإسلامية آنذاك كانت تحارب وتخرس التيارات العلمية بل وتصل إلى درجة تكفيرها.

يقول لنا الباحث الفرنسي : حينما نستهشد بالتيارات العلمية فإنه يصعب أن نستشهد بأسماء جميع العلماء والعباقرة الذي ظهروا في تلك الفترة ولكن سنذكر أكبر الأسماء التي ظهرت في تلك الفترة . نذكر من بينهم فقط الخوارزمي (780 - 850) الذي اخترع علم الجبر أو اللوغاريتم. ومعلوم أنه انتقل باسمه حرفياً إلى اللغات الأوروبية. وقد استفاد منه الفيلسوف ديكارت لبناء نظرياته العلمية والفلسفية.

ونذكر الحسن ابن الهيثم (965 - 1039)، وكان واحداً من أكبر علماء الفيزياء في كل العصور. ومعلوم أنه هو الذي أسس علم البصريات، وذلك قبل العالم الأوروبي روجر بيكون (1220 - 1292) بزمن طويل. كما اكتشف قانون العطالة الذاتية الذي سيصبح أول قوانين الحركة لدى العالم الشهير إسحاق نيوتن.

وأما عن الفلاسفة، فحدث ولا حرج!
فالكندي الذي مات عام 873 كان أول من اهتم بالفلسفة ودرسها وكتب فيها، ولذلك لقبوه بفيلسوف العرب الأول. ثم تلاه الفارابي (878 - 950) الذي لقبوه بالمعلم الثاني، بعد أرسطو الذي كان يدعى بالمعلم له مصنفات كثيرة في الفلسفة والطب والموسيقى والسياسة والاجتماع والمنطق والعلوم، اتهمه ابن القيم باتهامات الكفر والزندقة والإلحاد.
. ومؤلفات الفارابي في الفلسفة السياسية والأخلاقية لا تزال تدرس في كثير من جامعات العالم.

ثم تلاه الشيخ الرئيس ابن سينا (980 - 1037) الذي تجاوزت شهرته حدود العالم العربي الإسلامي لكي تصل إلى الغرب اللاتيني المسيحي عن طريق الترجمة. ويقال إنه كان عبقري العباقرة. وكان مولعاً أيضاً بالحب والعشق والجمال , والمؤسف بأنه قد كفّره علماء دين كثيرون، قال عنه ابن القيم الجوزية في "إغاثة اللهفان": "إنّه إمام الملحدين الكافرين بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر". وقال عنه الكشميري في "فيض الباري": "ابن سيناء الملحد الزنديق"
ولا داعي لأن نذكر اسم ابن رشد (1126 - 1198) الذي أصبح أستاذاً للغرب طيلة قرون عدة، عندما تحول إلى تيار فكري طويل عريض يدرسونه في جامعات السوربون، وبولونيا بإيطاليا، وكذلك جامعة بادوا، هذا بالإضافة إلى جامعة أوكسفورد، وجامعات ألمانيا، وسواها من البلدان الأوروبية.*




مدخل :
التاريخ البشري مليء بموجة حروب وصراعات عنيفة في الحضارات وبين التيارات وحتى بين أهل التيار الواحد يذهب ضحايا تلك الصراعات العديد من الأفراد ... والضحية الأولى هي الطفل غالبا كل ذلك وأكثر هي مقتطفات نتناول تغطيها في سلسلتنا الجديدة.
عن السلسلة : سلسلة مقهى الملحدين هي عبارة عن سلسلة متنوعة من المقالات والأفكارتتنوع بأطروحاتها وتمتزج في أفكارها وتصبغ بطابع موضوعي عصري لأنها موجهة للشباب بدرجة خاصة وللعموم بدرجة عامة.
كل نسخة تختلف عن الأخرى وموضوعة في سياق متصل-منفصل, هذه السلسلة ليست بالضرورة تدعوا للإلحاد أو التدين بقدر ماهي تدعوا لتحريك العقول نحو اتجاهات عقلية - منطقية - فلسفية.

(21) الحضارة العربية : صراعات حادة بين التيارات الفكرية والإسلامية في الحضارة العربية القديمة.
كما ذكرنا سابقًا نحن لانستطيع الإستشهاد بكل الأسماء في تلك الفترة ولكن يكفي بأن نستشهد الأسماء الكبيرة في كلا المجالين
التيارات الفكرية : ابن سينا – الكندي – ابن الهيثم – ابن الرشد – الفارابي – جابر بن حيان - الرازي - الخوارزمي
التيارات الإسلامية : الغزالي - أبو النصر الخمقدي، وأبو منصور العطاري، وأبو بكر بن العربي وابن القيم والكشميري




في فترة الحضارة العربية حصلت هنالك تطورات علمىة في شتى المجالات شملت الهندسة والأحياء والطب والرياضيات والفيزياء والفلسفة وهذا القسم هو ما انبهر منه العالم الغربي لاحقًا وانبهر منه العالم نذكر مثلاً استفادة أوروبا من الأرقام العربية واختراع الرقم صفر على سبيل المثال وكمثال آخر كتب أبو الطب ابن سينا حينما ترجمت للعديد من اللغات وابن حيان في الكيمياء والأمثلة كثيرة جدا ومشهورة.

واذا ماوصلنا لنقطة إستنتاج -لكل ماورد هنا- فهي مفادها بأن جميع الإختراعات والإكتشافات لم تكن موجودة على طول مدة وجود الإسلام الممتدة لأكثر من 1400 عام بل النهضة حدثت في فترة ضيقة محددة 300 عام في بغداد العظيمة ولكن المؤسف بالموضوع بأن جميع التيارات الفكرية والأسماء المشهورة آنذاك من ابن سينا وابن الهيثم وجابر بن حيان والخوارزمي وغيرهم قد تد تكفيرهم أثناء حياتهم وقد عاشوا حياة مليئة بالخنق الفكري وقد تم تكفيرهم من قبل التيارات الإسلامية ..على رأسهم المسمى بـ"الشيخ الغزالي" حيث كانت شهرته تفوق هؤلاء العلماء بسبب تمسكه بالصبغه الدينية وقد أصدر العديد من الفتاوى مفادها بتجريم الرياضيات والفلسفة والعلوم وشيطنتها واستحلال دم اتباعها كما كان يرى بأن الكيمياء هي من أعمال السحر والشعوذة وهذا بالطبع ماسينكره الإسلاميون الحاليون بسبب تغير الظروف والأحوال.

نحن نعلم بأنه سيأتي بعض القارئين ويطرحون السؤال التالي : لماذا فقط تتكلمون على التيارات الإسلامية دون التيارات الفكرية ؟!
حسنًا ..نحن بالفعل نتحدث عن الاثنين .. ولكن بعيد عن كل الانحيازات نحن نريد أن نصل لنقطة جادة ومهمة يجب على الإنسان العاقل أن يفهمها ويتفحصها جيدًا وهي كالتالي :
- إن التيارات الفكرية أو العقول المفكرة موجودة في كل مكان بدول العالم وهي ليست محصورة في بغداد القديمة في أوروبا الحديثة ولكن التيارات الفكرية تحتاج لمكان جذاب يحتويها ويحترمها لكي تخصب وتنموا وتتطور ونحن عندما نبحث عن تاريخ العقول المفكرة فإننا نجدهم مشغولين بعلومهم وأنفسهم و لانجد واحدًا من العقول المفكرة يأمر بقتل رجل دين في حين نجد بأن العديد من رجال الدين في كل مكان بالعالم يأمر بقتل العقول المفكرة في كل مكان وزمان.
- وما تلك النهضة التي حولت أوروبا من عصورها المظلمة إلى عصورها الحديثة إلا نهضة حدثت بسبب تفكك الدين عن سلطة القيادة العليا وحصر الدين في بيئته الضيقة "المعابد".
- بغداد العظيمة كانت مكان خصب ومناسب لينموا فيه العلوم وماحصل من إنفجار للعقول المفكرة آنذاك وشهرة أسمائهم حتى هذا اليوم لم يكن إلا لأن ذلك المكان وفر لهم بعض الحرية الفكرية والأمان وكانت بغداد آنذاك مكانًا مثاليًا للهجرة إليها للتعلم ..(وإننا كما قلنا مسبقا نرجوا أن تعود بغداد في عظمتها ونهضتها يومًا ما ) اليوم بغداد لم تعد إلا حطام مدينة مقارنة بماضيها ونحن كعقول عربية نتمنى أن تنهض مرة أخرى وتكون مكانًا جذابًا للعقول المفكرة وتنافس الدول الغربية اليوم في نهضتها وحضارتها .. نحن لازلنا واثقين ببغداد والوطن العربي ولكن نريد أن نصل لنقطة حيث يبقى فيه الدين الإسلامي خارج تأثير العلوم والفنون حيث يبقى في مجاله الضيق "المعابد" كما نجحت أوروبا بحصر دينها الكاثوليكي إلى معابد الكنيسة.
- فكما نرى عندما يتفشى الدين في مكان ما فإنه سرعان ما يسبب خنق سياسي وإقتصادي وعلمي وفني وحروب طائلة لاتنتهي بمسمى جهاد في سبيل الله ويخنق الأفراد ذاتهم ويجعلهم يعيشون تحت معايير مزودجة مضحكة ومثيرة للشفقة.







(22) الطفل والدين : نشأة الطفل العربي والوشم الديني

: " في كل قرية هنالك شعلة (المعلم) .. ويوجد من يطفأها (رجل الدين)" هوغو
يقول د.علي الوردي في كتابه شخصية الفرد العراقي
لقد وجد أن اهم عامل في تكوين الشخصية هي الجماعة الأولية التي ينشأ فيها الطفل لأول عهده بالحياة. وأعني بالجماعة الأولية تلك الجماعة التي تتألف من أفراد العائلة والجيران ورفقاء الطفولة وأقترام المدرسة. فهذه الجماعة في الغالب تصب شخصية الطفل في قالب يصعب عليها بعد ذلك أن تبدله أو تغيره، فالطفل إذ يفتح عينه للحياة يجد أنه قد أُعطي منزلة, عالية أو واطئة, من قبل أولئك الذي يحيطون به. فهم يصدرون عليه حكماً حسناً أو قبيحاً ويظلون يكررون عليه هذا الحكم, بحيث يأخذ الطفل يتصور نفسه طبقاً لما تتصوره الجماعة المحيطة عنه. وعلى هذا تبدأ شخصية الطفل بالنمو تراكماً على هذه النواة المركزية: "نواة النفس الناشئة".
ولنأت بمثلين محسوسين على ذلك نراهما في كثير من الشخصيات التي نلقاها كل يوم. فهذا طفل قد نشأ في بيت ثراء وشهرة وقد وهب شيئاً من صباحة الوجه وحسن القامة إضافةً إلى جمال الملابس وحسن الهندام. فتراه إذن محفوفاً بالإحترام بين أقرانه وأبناء جيرته علاوة على حب والديه له وتدليلهما إياه. فهو مسموع الكلمة رفيع الصوت كثير الأصدقاء والأعوان, لا يكاد ينازعه أحد حتى يتهافت الناس إلى مساعدته والوقوف إلى جانبه, سواءً أكان ظالماً أو مظلوماً, انه ينشأ إذن وهو واثق بنفسه يأتي بالكلام على عواهنه ويعتقد أنه أتى بالوحي المبين لأنه تعود أن يجد من الناس قبولاً لكل ما يأتي به حقاً أو باطلاً. وشخصية هذا الطفل ستكون في الغالب منبسطة متفائلة صافية الأديم ليس فيها ما يدعوها إلى الكفاح أو الكدح المتواصل. وبعكس هذه الشخصية ذلك الدميم الكادح الذي ينشأ في بيت فقير فتراه مضطهداً لا يكاد ينطق بكلمة حتى ترى الإحتقار بادياً على الوجوه, انه قد يصبح منطوياً يطلب الشهرة من طريق غير طريق الأصدقاء والعشراء... ومن هذا النوع ينبغ النابغون, وكذلك قد يخرج منه المجرمون أو الجبناء أو أصحاب الحقد والتلعثم والبلاهة.*


(23) الحضارة الإسلامية والحضارة الحديثة : صراعات بين الإنسان والدين

من يرى وضع الحضارة العربية الحالية وفي عصر الدول الحديثة مع الدين
يستنتج بصحة العبارة القائلة "الناس على دين ملوكهم" تلك العبارة الواردة وهي من الأحاديث بالمناسبة ورادة في كتاب المقاصد الحسنة رواها السخاوي بدرجة عدم ثبوت.
وبعيدًا عن كل ذلك فإنها بالفعل صحيحة فنجد اليوم بأن دين الأفراد العربية يتلون ويتصبغ حسب دين أبائهم ومليكهم وهذا من الأدلة والحجج الدامغة التي لايستطيع المتدين تفسيرها فنحن نطرح السؤال القديم لماذا وصلت إلى الدين الصحيح في الملة الصحيحة عن سائر غيرك من 7.9 مليار بشري ؟! ناهيك عن اكثر من 100 مليار بشري قد عاش في هذا الكوكب منذ فجر التاريخ الذين عاشوا في هذا الكوكب الواقع في مجرة درب التبانة من بين ملايين المجرات الأخرى ؟! سؤالي مرة أخرى لماذا أنت ؟! إنني لا أجد فارقًا بين مسابقات الانستقرام العشوائية في اختيار فائر ما ومسابقات الجنة في اختيار روادها . كونك تدين بديانة ما كالإسلام فهذا يعني لديك هذا الإعتقاد المبطن بأنك أنت الفائز الذهبي بجنات النعيم ومن هم غيرك في جرف الجحيم يقعون ؟! لماذا تعتقد ذلك ؟! ليس هنالك سوى إجابة واحدة لذلك "الغرور"
نعم الغرور , إن الإنسان المتدين البدائي القديم قد امتلأ فيه الغرور لكي يزرع هو في نفسه فكرة أن الجنة الذهبية من نصيبه والشواء في النار من نصيب من يخالفه .
لقد صدق نفسه ذلك الإنسان اليهودي القديم حينما انخدع بأفكاره تلك وحسب التاريخ فإن تلك الأفكار محفوظة الملكية للمنظومة اليهودية. سرقها فيما بعد الإنسان المسيحي والمسلم ومن يعلم عدد السرقيات الفكرية لذلك النوع من الأفكار فيوجد لدينا من الأديان اليوم مايصل إلى خمسة آلاف دين.


يقول عالم الاجتماع علي الوردي :
إن الحضارة الحديثة وكل حضارة بشرية ظهرت في تاريخ العالم لايمكن أن تخلو من مساوئ خاصة بها. من الممكن القول بأن الحضارة الحديثة هي أكثر مساوئ من الحضارات التي سبقتها وذلك لأنها أكثر تقدمًا واختراعًا.
ويرى عالم الإجتماع علي بأن هذا القول قد لا يتفق معه المفكرون العقلانيون لأنهم قد اعتادو على النظر حسب المنطق القديم وهو التصنيف الثنائي الذي يعتمد على متضادين خير أو شر , حق أو باطل , نافع أو ضار
أود بالإشارة هنا إلى أن العقل الديني أيضًا يرجع لهذه النقطة وهو الإعتماد على التنصيف الثنائي فإما مؤمن أو كافر , معي أو ضدي وهو بالطبع يرجع لذلك لأنه بسبب اعتماد الدين على العقول القديمة التي كانت وليدة بيئتها تعتمد على هذا المقياس في نظرتها للأمور ولأنها ناشئة في صبغة دينية فمن الصعب جدا تغييرها أو تحديثها بأي شكل كان!
وهذا الأفكار الدينية قد وضعت الإنسان في صراعات حادة مع نفسه لا يستطيع هو الخروج منها حتى هذا اليوم
لذلك فإن التيارات الدينية تعيش أزمة حرفية أكثر من أي تيار أخرى بسبب أنها تعيش أزمة الحضارة الحديثة.
أما في التيارات الدينية في حضارتها القديمة سواء في بغداد أو زمن عصور الإسلام الأولى من قريش والخلافات الراشدة والأموية والعباسية ومابعدها فلم تكن تعرف سوى سياسة التصنيف الثنائي وهو ( معي أم ضد ؟) فكل مافعلته من ممارسات قامت ثقافتهم على الهمجية والتنكيل والبقاء للاقوى. كانوا كالقطيع لايحكمهم دستور أو قانون, ولم يعرفوا أي شكل من أشكال الدولة ولطالما كانت هذه ثقافاتهم وممارساتهم ومنطقهم ..وكل مافعله محمد هو أنه وحد العرب توحيدا سياسيا ونظم همجيتهم وتعطشهم للقتل في اطار قوة عسكرية واحدة موجهة هدفها التوسع مكونة من كميات كبيرة من صعاليك الصحراء أغراهم بالمال والسبي والجنس الدنيوي وعاهرات الجنة من الحور العين ثم اغراهم بغزوا البلدان الاخرى واستولوا على حضاراتها التي كانت قائمة أصلا قبل الإسلام * كما فعل مع بلاد الأندلس وغيرها وإذًا خرجنا بإطار استنتاجي هنا نجد بأن لايوجد شيء إسمه حضارة إسلامية كما تدعي التيارات تلك الدينية فمتى حضر الدين مكان ما انهارت المنظومة بأكملها بسبب إعتماد الأديان على المنطقيات الثنائية الضيقة.
وخلاصة القول هنا من يريد الآثار الحقيقية لما يسمى كذبا الحضارة الإسلامية فهي موجوده في مكان واحد فقط. هذا المكان اسمه القرآن. القرآن هو الحضارة الإسلامية والحضارة الإسلامية هي القرآن ولا شيء سواه. كل شيء خارج القرآن هو طارئ و يعود غالبا الى حضارات اخرى كانت قائمة قبل ان يستولي المسلمون على اراضيها وتخريب ما فيها ومحو هوية السكان الأصليين.

وفي ختامية لفقرة الصراعات في الحضارة الحديثة مع الإنسان أحبذ اختمها لمقولة مشهورة للكاتب الياباني نوبواكي نوتوهارا صاحب الكتاب المشهورة "العرب – من وجهة نظر يابانية" حيث يقول :
نحن نظن أن الحاكم يجب أن يشعر بالمسؤولية تجاه شعبه ، وعليه أن يعطي مجالاً لغيره ليخدم هذا الشعب ، أما في الوطن العربي فالسلطة والشخص شيئ واحد لا يمكن الفصل بينهما ، فالحاكم العربي ما زال يتمتع بالامتيازات التي كان يتمتع بها الحاكم في العصور ما قبل الحديثة. بالطبع هناك إستثناءات لكنها الإستثناءات التي تثبت القاعدة كما يقال، والمعيار الوحيد لكرامة المواطن ووطنيته هو مقدار ولائه للحاكم وطاعته له والتسبيح بحمده في جميع الأوقات والظروف والمناسبات، وهذا كله غريب علينا نحن اليابان في الوقت الحاضر على الأقل.


(24) في مقاهي بغداد مع علي الوردي : هكذا تحدث علي-دشت ج1
.
يعد الوردي من اوائل من درس الظاهرة الدينية والاسلامية في العالم العربي في زمن كان الانشغال بالتيارات الايديولوجية والثورية العلمانية هو الخطاب السائدة في الخمسينات والستينات من القرن العشرين المنصرم . فقد كان يعتقد ان الدين مازال يشكل النظام المعرفي والاخلاقي والسياسي في العالم العربي , واحد جوانب الشخصية العراقية - التي هى كما اكد سابقا - انها مزدوجة القيم (ظاهرها اسلامي وباطنها بدوي) , وهذا الامتياز والريادة تحسب للدكتور الوردي.*
.اي ان القيم الحقيقية التي تحركه وتحدد توجهاته النفسية والاجتماعية والسياسية هى قيم البداوة والتغالب والاستئثار وليست القيم الدينية والأخلاقية.
انتقد الدكتور الوردي بقوة الفكر الماضوي عند الاسلاميين والانغماس به والتماهي معه على حساب المتبنيات العصرية والحديثة
انتقد كذلك تماهي الاسلاميين بالصراع الطائفي وتاجيجه واعادة بعثه في موارد عديدة من خطاباتهم وسلوكياتهم.
يعتقد الدكتور الوردي (بانه لايوجد خلاف جوهري في قضايا الدين بين الشيعة والسنة) , وان الصراع بينهما (خرج من كونه نزاع حول المبادىء العامة وصار نزاعاً على الرئاسة الدينية السياسية)



انتقد الدكتور الوردي اصل المنظومة الفكرية التي يستند عليها الاسلاميون الشيعة والسنة في النقاش والجدل وتاييد التصورات الدينية والمذهبية التي ينادون بها او يدافعون عنها , وهى المنطق او الجدل الارسطي الاغريقي . وذكر ان هناك منطقان او منهجان سائدان : احدهما هو المنطق الاستنتاجي الذي ينطلق من المقدمات الكلية . والاخر نسميه المنطق الاستقرائي او العلمي الحديث . والمنطق الاستنتاجي هو الذي كان سائدا في العالم منذ انشاه الاغريق في القرن الخامس قبل الميلاد وحتى اليوم في دول العالم الاسلامي والعربي , فيما ان الدول الغربية والمتقدمة قد تجاوزته قبل قرون عديدة , وهو السبب في تقدمها وتطورها والاكتشافات العلمية الحديثة التي تميزت بها. ويعود سبب اصرار الاسلاميين (وحتى غير الاسلاميين من عامة المثقفين والمتعلمين العرب والعراقيين) على تبني المنطق الارسطي دون الجدل الهيغلي والاستقرائي هو انه يعتمد الكليات العقلية التي يريدونها كاساس في النقاش والجدل ثم ينطلقون منها لبيان صحة ارائهم الدينية والمذهبية وحتى الطائفية.
يذكر الوردي بانه (كان ذات يوم في مجلس ضمن جماعة من رجال الدين (المسلمين طبعا) وقد اجمع هؤلاء الرجال على ان سكان الارض ملزمين بالبحث عن الدين الصحيح , فاذا وجدوه اعتنقوه حالا . فكل انسان في نظر هؤلاء مجبور ان يترك اعماله ويذهب سائحا في الارض يبحث عن دين الحق . وقلت لهم (ولماذا لم تسيحوا انتم في الارض للسعي وراء الحق) قالوا وهم مندهشون لهذا السؤال السخيف (اننا لانحتاج الى السعي وراء الحق لان الحق عندنا) . انهم يتخيلون انهم وحدهم اصحاب الحق من دون الناس , ونسوا ان كل ذي دين يؤمن بدينه - كما يؤمنون هم بدينهم) - وعقب الوردي قائلا (ان من الظلم حقا ان نعاقب الناس على عقائدهم التي لقنوا بها في نشاتهم الاجتماعية لان الانسان يؤمن بعقيدته التي ورثها من ابائه اولا , ثم يبدا التفكير حول تاييد تلك العقيدة . ومن النادر ان نجد شخصا بدل عقيدته من جراء التفكير المجرد وحده , فلابد ان يكون هناك عوامل اخرى نفسية واجتماعية تدفعه الى ذلك من حيث يدري او لايدري.)


(25) هكذا تحدث علي-دشت : وعاظ السلاطين والإستبداد الديني ج2
انتقد الوردي ظاهرة وعاظ السلاطين عند اهل السنة . وهذه الظاهرة تبلورة في دولة بنو امية لتبرير اعمال الخلفاء الشنيعة والفاسدة والظالمة بحق الرعية والموالي . وقد تصاعدت هذه الجماعة في العصر العباسي بصورة عجيبة حتى اصبح الوعاظ لايفتون للخلفاء فقط , وانما حتى لزوجاتهم واولادهم - كما في حالة القاضي ابو يوسف تلميد ابو حنيفة النعمان بن ثابت - الذي كان يفتي السيدة زبيدة (زوجة هارون الرشيد) بما كانت تريد وتعطيه مقابل ذلك الاموال والجواهر , كما ذكر ذلك الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد . وقد اكد الدكتور الوردي السند الديني لهذه الظاهرة في كتابه (دراسة في طبيعة المجتمع العراقي) بقوله (تغلب على اهل السنة نزعة الطاعة للحكومة واحترام اوامرها . فهم يعتقدون ان السلطان ظل الله في الارض وان طاعته من طاعة الله , ويستندون على الاية "واطيعوا الله وسوله واولي الامر منكم") . وقد انتقد ظاهرة التلاعب والتلاحم بين السلاطين واتباعهم من الوعاظ والشيوخ الدكتور الوردي بقوله : (ويخيل إلى أن الطغاة وجدوا فى الواعظين خير عون لهم على إلهاء رعاياهم وتخديرهم ؛ فقد انشغل الناس بوعظ بعضهم بعضا , فنسوا بذلك ما حلّ بهم على أيدى الطغاة من ظلم) .
وفيما يخص انتشار الاستبداد الديني فقد ذكر الوردي (ان الحكومة الاسلامية صارت طاغية مستبدة تدوس باقدامها حقوق الشعب وتنهب امواله وهى مؤمنه بانها ظل الله في ارضه وهى اذن لاتختلف عن اي حكومة اخرى من حكومات العصور القديمة)

وكخاتمة لكل ماسبق فإننا يمكن أن نشير على الجراح العربية ونضغط عليها كما أننا نود أن نشير بأحد أهم أفكار هذه المقالة ولُبّها وهي كما قالها الدكتور علي الوردي بالإعلان عن أن العلة الأساسية في تدهور العقلية العربية تتمثل في سيادة المنهج الأرسطي القديم –المنطق الثنائي كما سميناه هنا أيضًا- في التفكير .... هكذا قالها الدكتور علي الوردي .. هكذا تحدث علي-دشت.




______
المراجع

- بغداد والعصر الذهبي : كتاب جديد للمدير السابق لمركز دراسات الشرق المعاصر في جامعة السوربون
- د. علي الوردي، شخصية الفرد العراقي
- عدة مقالات وكتب للدكتور علي الوردي
- مقال للكاتب جبار علي حسين اللعيبي بعنوان خرافة الحضارة الإسلامية
- مقال للباحث سلمان الهلالي
- مقالات أخرى

فهرس السلسلة


الموضوع الأول :
1- فشل معايير النبوة
2- القرآن
3- الله والآلهة القديمة
4- القتل والجهاد
5- الإلحاد
الموضوع الثاني :
6- الإنسان بين العلم والدين
7- العقل بين العلم والدين
8- الليبرالية + فشل مشروع الإصلاح الإسلامي
9- العلمانية
10- رجال الدين
الموضوع الثالث :
11- الوهم
12- الأديان
13- المصير بعد الموت
14- البراغماتية
15- مستقبل الأديان
16- الحقيقة المطلقة
الموضوع الرابع :
17- غاية محمد
18- فيروس الإله
19- جنون الإيمان
20- الجنة والجحيم.
الموضوع الخامس :
21- الحضارة العربية
22- الطفل والدين
23- صراعات الحضارة
24- هكذا تحدث علي-دشت ج1
25- هكذا تحدث علي-دشت ج2








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. قداس عيد القيامة المجيد بالكاتدرائية المرقسية بالعباسية برئا


.. نبض أوروبا: تساؤلات في ألمانيا بعد مظاهرة للمطالبة بالشريعة




.. البابا تواضروس الثاني : المسيح طلب المغفرة لمن آذوه


.. عظة قداسة البابا تواضروس الثاني في قداس عيد القيامة المجيد ب




.. البابا تواضروس الثاني : نشكر الرئيس السيسي على تهنئته لكل أق