الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الحياة كمرض مزمن

سعود سالم
كاتب وفنان تشكيلي

(Saoud Salem)

2022 / 3 / 25
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


أركيولوجيا العدم
العودة المحزنة للقفص الزجاجي
١٣٦ لا دواء لداء الحياة !

يفتح الإنسان ذراعيه للحياه، فيُصلب - لويس أراغون

عالجنا في الصفحات السابقة قصة المواطن جان-كلود رومان، الطبيب والباحث المزيف والذي أرتكب مذبحة قتل فيها كل عائلته حتى لا تنكشف لعبته، وحكم عليه بالسجن المؤبد، ولكنه أطلق سراحه بعد ٢٦ عاما، ويبدو أنه أختار الجانب الديني والإنحياز لله لينقذ نفسه من الإنتحار، إلا إذا كان هذا الإختيار، الحياة في دير للرهبان، ليس إلا لعبة أخرى لخلق نسخة جديدة يقدمها للمجتمع بدلا من شخصيته الأصلية. ذلك أنه أدرك بأنه ليس هناك سبيل للرجوع إلى الوراء، كل خطوة نخطوها تصبح قدرا، فكرة العود الأبدي النيتشوية، تبدو هنا مجرد أسطورة فلسفية حتى لا نقول شعرية. الطريق ذو إتجاه واحد ولا يمكن العودة إلى الوراء أو الجري في الإتجاه المعاكس. منذ البداية، منذ لحظة الصفر، من الميلاد حتى الموت، طريق واحد، متعرج ومتذبذب، ذو نتوئات وحفر، غير أنه ذو إتجاه واحد، يشير دائما إلى اليوم التالي، ما نسميه المستقبل. الإنسان يولد بيولوجيا دون إستشارته ودون علمه، الإختيار عملية لاحقة للميلاد البيولوجي وليس قبله، وهذا الإختيار اللاحق، إذا حدث، ربما هو الذي يحدد الميلاد الحقيقي للإنسان الإجتماعي. ذلك أن الطبقة الأنثروبولوجية الوجودية العميقة للإنسان تقع في البنية الثابتة لكينونة هذا الإنسان والتي هي كينونة فرديّة غريبة ومغتربة. على الرغم من التأكيد أنّ هذه البنية، حسب تعريفها تشمل وجود العالم والتّواجد مع الآخرين، فإنّه يُنظر إلى كليهما حصرًا من منظور الكينونة الفرديّة، في حين يظلّ تكوين الذات الاجتماعيّة والوجود الاجتماعي مهمّشًا لدى العديد من المفكرين والفلاسفة ولدى غالبية المواطنين في عالم مزيف تغلب عليه ظاهرة العزلة والفردية والتوحد. لأنّ الاستيعاب النظري لمفهوم الكينونة الاجتماعيّة في بعدها ما فوق-الفردي، وإدراك أنّ للوجود الفرديّ بعدًا اجتماعيًا أمران مختلفان. يكتسب تحليل العلاقات الاجتماعيّة بين الناس، معنى سوسيو-أنطولوجيًا فقط عند إجرائه في ضوء تكوين الكينونة الاجتماعيّة واقعيا وليس نظريا فقط؛ لا تكون العلاقات بين الأشخاص اجتماعيّة إلّا حين تحدث داخل المجتمع وبين أفراد المجتمع. حقا الإنسان يولد بالصدفة ورغما عنه، ولكن ليس أمامه سوى أن يعيش حتى يموت أيضا بالصدفة. والعيش يعني بكل بساطة، إستعمال هذه الإمكانيات اللامحدودة لممارسة الحياة مع الآخرين وممارسة الحرية. بل أن الحياة تعني أيضا إمكانية إختيار لحظة إنهاء هذه الحياة، رغم محدودية هذه الحرية، من الناحية الإجتماعية والثقافية. ذلك أن الميثولوجيا الدينية، والمؤسسات التعسفية الناتجة عنها، تحرم هذه القرارات الفردية الشديدة الحرية، فالله هو وحده الذي يقرر مواعيد الميلاد والموت. وهي مواعيد مجدولة، أي لها جداول في ملفاته وكراريسه السماوية المسجل فيها مسبقا كل كبيرة وصغيرة من أعمال كل بشر على ظهر الأرض. ففي الخرافات الدينية الإسلامية: " خلق الله ما يسمى بـ"القلم الأعلى" بعد خلق الماء والعرش وهو ثالث المخلوقات، وهو جِرم عظيم جدًّا على شكل نور، ثم خلق بعد القلم الأعلى "اللوح المحفوظ " وهو رابع المخلوقات، قال بعض الفقهاء إنه فوق العرش، وقال بعضهم إنه تحت العرش. وجرمه عظيم جدًّا مقداره ومساحته مسيرة خمسمائة عام، طوله ما بين السماء والأرض وعرضه ما بين المشرق والمغرب. وقد أمر الله القلم أن يجري على اللوح المحفوظ فجرى بقدرة الله ومن غير أن يمسّهُ أحد من الخلق وسطر في اللوح المحفوظ كل ما سيكون في العالم حتى نهاية الدنيا. وهذا معنى الحديث الذي رواه الإمام أحمد والترمذيّ عن عُبادة بن الصامت عن محمد قال : "أوَّلُ ما خلق الله القلم ثم قال اكتب فجرى بما هو كائن إلى يوم القيامة" وكذلك الحديث الذي رواه مسلم : "كتبَ اللهُ مقاديرَ الخلائقِ قبل أن يخلقَ السموات والأرضَ بخمسين ألف سنة وكان عرشُه على الماء"، ونقرأ في القرآن : {وكلُّ شىء أحصيناه في إمامٍ مبين} (سورة يس/12).
وتحت جميع الظروف، وجد هذا السجل الإلهي أم لم يوجد، بين لحظة الميلاد ولحظة الموت هناك الحياة، بكل ما تحتويه من زخم وثراء وفوضى وعيثية، بكل حرارتها وبرودتها، بكل سعادتها وتعاستها، الحياة هي كل ما يمكن أن يفعله الإنسان، وليس هناك بضاعة أخرى بديلة في السوق، والأمر والأدهى من ذلك، أنه رغم تفاهة الحياة وعبثيتها، فإنها أحسن ما يوجد على الساحة، بمعنى أن الحياة أفضل من عدم الحياة. غير أن هذا التفضيل لا يجب أن يدخل في الإعتبار بخصوص ما نحن بصدده. ذلك أنه ليس هناك خيار آخر في الواقع، الإنسان مجبر أن يحيا ويبني مشروعه الوجودي في هذه المساحة الزمنية والتي قد تطول أو تقصر، دون أن يكون لذلك أية أهمية تذكر، وكذلك يبني مشروعه الوجودي في هذه الصحراء الفراغية، عندما تمكن لأول مرة من أخذ حجر ثم قذفه أمامه ليخترع ليس فقط الآلة والأداة وإنما الفضاء والمسافة التي بدأت تفصله تدريجيا عن أصله الحيواني، ليقترب أكثر فأكثر من الإنسانية أو من الألوهية. ولكن الإنسان كائن لا يتمتع بذاكرة قوية، وهو عادة ما ينتابه النسيان. وهو ما جعل العرب يعتقدون بأنه سمي بهذا الإسم لأن له علاقة بالنسيان، وقد ذكر ابن منظورعن ابن عباس قوله : "إنما سُمِّي الإنسان إنساناً لأنه عهد إليه فنسي؛ بدليل قول القرآن (ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم يجد له عزماً). ولهذا فإن عامة البشر يتركون حياتهم تنمو أوتوماتيكيا وبطريقة عفوية وطبيعية مثل شجرة أو نبتة برية، دون الإهتمام بها ودون تغذيتها أو ريها، دون توجيهها نحو النور أو الشمس أو الظل، دون حمايتها من البرد والثلج أو رياح القبلي الساخنة. ملايين البشر يأتون لهذه الحياة ويذهبون دون أن يتركوا أي أثر، يأتون، يولدون ويموتون بدون هدف وبطريقة عشوائية مثل الأشواك والنباتات الصحراوية. كائنات تشارك في كينونة العالم دون أن تتجاوز هذه الكينونة الصماء والثقيلة نحو شفافية الوجود. لقد نسوا بكل بساطة وجودهم، نسوا ممارسة الحياة وممارسة الحرية وغطست أقدامهم وأجسادهم في الوحل.

يتبع








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. دروس الدور الأول للانتخابات التشريعية : ماكرون خسر الرهان


.. مراسل الجزيرة يرصد آخر تطورات اقتحام قوات الاحتلال في مخيم ن




.. اضطراب التأخر عن المواعيد.. مرض يعاني منه من يتأخرون دوما


.. أخبار الصباح | هل -التعايش- بين الرئيس والحكومة سابقة في فرن




.. إعلام إسرائيلي: إعلان نهاية الحرب بصورتها الحالية خلال 10 أي