الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ملفات عن الحياة الموت وأشياء أخرى

عزالدين بوروى

2022 / 3 / 29
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


الملف الثاني: حول سؤال المعنى.

كان سؤال المعنى دائمًا يؤرقني، كوني لم أجد له أي جواب على طول مسيرتي الحياتية. سؤال "المعنى " يرهق العقل والبدن، ويقلق دواخلنا، ويجعلنا حيارى كوننا لم نجد الأجوبة الكافية لمعضلة الحياة ومعانيها المضمرة.
انتظرت طويلًا إلى حين فُرضتْ عليّ شروط معينة ورمتني الأيام في حضن إحدى المستشفيات العمومية ، ليس كمريض وإنما كمتطوع للسهر على رعاية أحد الأقارب لمدة ليست بالهينة. تطوعي هذا جعلني قريبا من المرضى ومعايشة المرضى ، منهم من وافته المنية ومنهم من نجا بأعجوبة.
هشاشة الأوضاع بالمستشفى وغياب الساهرين على صحة المرضى الذين يسارعون الزمن أملا في البقاء ستفرض عليّ أن ألعب أحد الأدوار: دور الممرض.
كنت أظل الليل بأكمله متجولًا بين الأسرة حاملًا معي أسئلةً وجودية بحجم آلام أولئك المرضى.
مرت الأيام وبدأت الأمور تتعقد شيئًا فشيئا ، كثرت وثيرة الوفيات ، وأصبحت الأمور تحدو حذو الكارثة ، هناك من كان يلفظ أنفاسه الاخيرة في ساعات متأخرة من الليل، ولا أحد كان يستطيع نقل جثته صوب مستودع الأموات. لم تكن الجثة الوحيدة ، وإنما جثث كثيرة كفّنتها بهذه اليد التي تزيل الغبار الآن عن هذه الملفات العالقة بالذاكرة. منهم من كان يلفظ أنفاسه الأخيرة وفي عينيه بريق أمل ورغبة جامحة في الاستمرار والبقاء على قيد الحياة رغم مرارتها.
تلك الوجوه ،ذلك الأمل، ذلك الضعف ، تلك الإنهزامية ، وأشياء أخرى لا تزال محفورة بالذاكرة بإزميل الزمن الصدئ. حسبتني حينها "حفار قبور" أو ربما ناقل موتى ، كيف لا وأنا ظللت على طول ليالي أكتوبر الباردة أنقل جثثهم واحدة تلو الأخرى نحو مستودع الأموات. ألفت ذاك الروتين وأصبحت الموت والحياة عندي سيان ،لقد غاب المعنى ،وأصبحت الجثث الملقاة أمامي لا تحرك فيّ ولا إحساسًا واحدا. تبددت المشاعر وعادت الأرواح رخيصة ، كوني اطلعت على آمالها التي ظلت عالقة بقارورات الأكسجين ، لكنها كانت آمال زائفة ، آمال تشبه إلى حد كبير فقاعات الصابون ،سرعان ما كانت تتبدد في الهواء ، وتظل الحقيقة الواحدة ،ليس الموت، وإنما الخذلان. فما أصعب أن تفارق حياةً ألفتها بتناقضاتها ومرارتها.
بدا الموت حينها مزحة، فارغا من أي معنى كما الحياة. أما أنا فقد ألفتُ نقل الجثامين ، وهذا هو طبع الإنسان منذ بداية الخليقة إلى يومنا هذا ، يألف كل شيء ، يا له من خسيس!!
إنتهت مهمتي داخل المستشفى ،لكن لم تنته الأسئلة عن هزّ مملكتي الرمادية ، أرهقتني كثيرا إشكالية المعنى مباشرةً بعد خروجي بخفي حنين من مستشفى المدينة ، كان سؤال : ما معنى الحياة ؟ يشدني شدا …
على مرآي كان الناس يموتون واحدا تلو الآخر ، وكنت أنا في تلك اللحظة مشغولا بتفكيك قسمات وجوههم ومحاولة قراءة باطن الأشياء. حقا توصلت في النهاية أن الأمر كان شبيها بخدعة ،مسرحية ، أو شيء من هذا القبيل.
جلستُ مطولا مع ذاتي بعد هذه الأحداث ، وظللت أدقق النظر في أصابع يدي، كيف استطاعت هذه الأعضاء الصغيرة حمل كل تلك الجثث ووضعها داخل مستودع الأموات الذي كانت تنبعث منه رائحة نتنة تشبه رائحة الجيفة؟ كيف استطاع قلبي تحمل كل تلك الأجواء المشحونة ؟ كيف استطاعت أذناي الصبر على سماع كلمة "الموت" مرات عديدة ؟ كيف وكيف؟
عرفت متأخرًا أن هناك خطأ منذ البداية ، وأننا كبشر في مرحلة "نهاية الفهم".

(يتبع)








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. صنّاع الشهرة - تعرف إلى أدوات الذكاء الاصطناعي المفيدة والمج


.. ماذا وراء المطالب بإلغاء نحر الأضاحي في المغرب؟




.. ما سرّ التحركات الأمريكية المكثفة في ليبيا؟ • فرانس 24


.. تونس: ما الذي تـُـعدّ له جبهة الخلاص المعارضة للرئاسيات؟




.. إيطاليا: لماذا تـُـلاحقُ حكومة ميلوني قضائيا بسبب تونس؟