الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


التسامح والتعايش الاجتماعي في بصرة الامس. نماذج بسيطة من الذاكرة

رزاق عبود

2022 / 3 / 29
المجتمع المدني


صور من التسامح والتعايش الاجتماعي في بصرة الامس!
ربما لا توجد مدينة لم يتعايش بها سكان العراق من كل القوميات والاديان والطوائف والمذاهب والاثنيات جنبا الى جنب بتسامح وتصافي واحترام مشترك. الصورة، ربما، ليست وردية بالكامل، لكن الانطباع العام هو السائد. ولكل مدينة قصصها، وحكاياتها، وذكرياتها، وشخصياتها التي تتحدث عن ذلك الوئام الجميل.
لكن البصرة تميزت بتواجد اناس واجناس وقوميات واديان لم تتواجد في مدن العراق الاخرى. كونها ميناء العراق الوحيد وتجاورها مع ثلاث بلدان واطلالتها على الخليج العربي رحل اليها الناس واستقروا بها من مختلف قارات الارض، ولكونها ارض النخيل والمياه والحبوب والفواكه والبساتين الخضراء والقرى الوادعة والاهوار الواسعة وارض الثوار والافكار والنفط والموانئ والاهم: ارض الناس الطيبة السمحة الكريمة، حل بها التجار والصناع والخبراء والعلماء والادباء والفنانين والشعراء والفقراء من كل مدن العراق والخليج العربي والعالم. بعد قيام جامعة البصرة ازداد التنوع والتعدد لاغراض دراسية وتدريسية.
البصرة كانت جامعة للفن والموسيقى والادب ومدارس الفكر والفلسفة قديما وحديثا. منها انطلق الشعر الحر ومنها تطورت موسيقى الخليج ومنها ترسخت فنون ورقصات الزنوج والخشابة واغانيهم وتراثهم الغني وتاريخهم الثوري ومنها انطلقت اولى الفرق النسائية الغنائية، وعلى مسارح ملاهيها ونواديها برز اول المغنين والمغنيات في العراق وصدحت موسيقى واصوات لا زالت خالدة ومتداولة حتى الان.
كل ما ذكر معروف لأي عراقي وخليجي وعربي اخر، واي مهتم بشأن العراق وحضارته وتاريخه، ففيها الاثار والاهوار والصحارى والجبال والبساتين والقفار. فيها البناء الحديث والمعمار البصري الجميل والشناشيل المميزة، وبقايا حضارات ومدن اندرست!
لكن اهل البصرة وزوارها والدارسين فيها والمتعاملين مع تجارها والمنتقلين اليها وغيرهم يعرفون بشكل خاص الميزات الاساسية للبصرة التي اشتهرت بها: الكرم والطيبة والبساطة والتسامح العجيب وحب التعاون وتقديم المساعدة. ففي وقت كانت العشائر في مدن اخرى تقاتل بعضها، كانت البصرة تحتضن كل غريب. وتميزت بصور صارت من الحلم في عراقنا الحالي للاسف. نحدثكم او نذكركم ببعض الامثلة والنماذج التي نعتز ونفتخر بها:
في العشار كانت هريسة يوم العاشر من محرم تطبخ وتوزع من بيت العائلة السنية بيت العبايجي!
بيت باش اعيان العائلة السنية العريقة المعروفة تدفع تكاليف مآتم الحسين التي يقوم بها فلاحوها الشيعة، وتخرج فرق القامة والزنجيل من جامعهم جامع باش اعيان (الكواز او المشراق) لتواصل طريقها الى العشار. كما قامت العوائل السنية الثرية الاخرى مثل المنديل، والنقيب، والذكير، والخضيري، وغيرهم بدعم المآتم الحسينية بالتبرعات وذبح الضحايا يوم العاشرمن محرم وتوزيع لحومها على الفقراء وتوفير الاماكن لاقامة المجالس الحسينية!
لاحفلات ولا افراح ولا اعراس مسيحية خلال شهر محرم وكثير من الكنائس ترفع العلم الاسود في ابوابها معلنه عزائها يوم العاشر من محرم، كذلك كانت تفعل الكثير من البيوت والمحلات المسيحية، ولا يشهرون افطارهم ابدا في شهر رمضان احتراما لمشاعر المسلمين الصائمين. كذلك فعل الصابئة المندائيين واليهود.
حنا الشيخ اكبر تجار وملاكي البصرة المسيحي يدفع او يشارك في تكاليف مجالس العزاء في اسواقه ويحضر بنفسه مع ابنائه مجالس العزاء الحسينية مشاركا اخوته من المسلمين الشيعة تذكرهم لواقعة الطف، كما تبرع لبناء او تصليح الكثير من الجوامع والحسينيات. من هنا جاء لقبه (الشيخ)!
ابناء حنا الشيخ، والاخوان ادور والبير طليا يلطمان في مجالس عزاء البچاري والعشار مع اصدقائهم من المسلمين الشيعة والمعروف ان البير كان يقسم بالقرآن!
مجالس العزاء الحسينية النسائية تحضرها النسوة من السنة والصابئة والارمن والسريان والكلدان والاشوريين في المحلات التي تقام فيها هذه المراسيم، ولا تسمع اصوات غناء او موسيقى تصدر من بيوتهم ايام عاشوراء والكثير من النساء المسيحيات والصائبيات يلبسن السواد خلال عشرة محرم او في الاقل يوم العاشر من محرم!
التاجر الهندي الهندوسي صاحب محل الساعات(نات) الشهير قرب البريد المركزي القديم يحضر مع ابنائه مجالس العزاء ويدفع تبرعات للمجالس والمواكب كغيره من التجار غير المسلمين في المدينة. كان هو وابنائه يلبسون السواد خلال عشرة عاشور واسماء ابنائه عربية: صلاح، وصباح!
المسيحي الارمني صاحب صيدلية العراق يوزع الهريسة يوم العاشر من محرم وكثير من المحلات المسيحية تغلق محلاتها يوم العاشر من محرم اسوة ببقية التجار المسلمين.
عبدالمسيح تاجر المواد الاحتياطية للسيارات نقش على باب بيته في محلة بريهة اية من القرآن: (هذا من فضل ربي)! في نفس المحلة ذات الاغلبية السنية والمسيحية اقيم سنويا مجلس عزاء الحسين. يشارك اغلب سكان المحلة في التبرع له، وتخرج صواني القاسم من بيت التاجر السني مقابل مقر العزاء، كما يقوم نفس البيت بتقديم الشاي والماء البارد كل يوم للحاضرين في المجلس اضافة الى وجود (حب) ماء السبيل المثلج في باب بيتهم طوال شهر محرم (عاشور)!
في العشار حيث القشلة، وام الدجاج، والتميمية، والخندق وغيرها وهي المناطق الشعبية التي يتعايش فيها الناس من كل مذهب ودين يتصدر الصابئة هناك التحضيرات لايام عشرة عاشور ويشاركون في اللطم والقرايات وينظمون الردات والقصائد الحسينية واغلب محلات الصاغة كان فيها صورة للامام علي وكذلك العلم الاسود في محلاتهم التي تغلق يوم العاشر من محرم!
كثير من الاطباء المسيحيين واليهود لا يتقاضون اجرة الزيارة في عياداتهم الخاصة من فقراء المسلمين! اغلب المولدات (القابلات المأذونات) كن مسيحيات مثل جدة حلوة، وجدة نجمة، وجدة مقبولة ولعل اشهرهن الدكثورة فيكتوريا عتيشة وهي من اصل اسكتلندي متزوجة من دكتور العيون العراقي الشهير بولص عتيشة والملقبة بأُم البصريين لكثرة من ولدوا تحت اشرافها!
من جانبهم كان جمهورالمسلمين يحترمون عادات واعياد وتقاليد العوائل من الديانات الاخرى ويقدمون التهاني لهم وزيارتهم في المناسبات الدينية والخاصة، ويطرق اطفال المسلمين ابواب البيوت المسيحية واليهودية والمندائية ايام (الگيرگيعان) وكانوا الاسخى في تقديم ما يطلبه ويتمناه الصغار.
كثيرا ما يقبل اطفال المسلمين ايدي القساوسة المسيحيين اذا صادفوهم في طريقهم كما تنهال الهلاهل والواهلية واغصان الياس من النساء المسلمات على اطفال المسيحيين في مسيراتهم الايمانية اثناء المناسبات الدينية خاصة اعياد الميلاد وهم في طريقهم الى كنائسهم المختلفة. ابواب بيوت ومنازل العوائل المسيحية كانت تزين بسعف النخيل المستحصلة من البساتين القريبة التي تمتلكها في الغالب عوائل مسلمة! خاصة اثناء اعياد الميلاد المجيد ورأس السنة الميلادية تيمنا وتشبها بالسيد المسيح عند دخوله مدينة الناصرة في فلسطين!
تقوم النساء المسلمات باشعال الشموع في الكنائس المسيحية، كما تقوم بعض المسيحيات بوضع الحناء في ابواب جامع الامير، اومرقد عبدالله بن علي الهادي! ويشاركن في الزيارت والسفرات الى مراقد العزير وسلمان بن داود ومقامي صاحب الزمان وعبدالله بن علي في اطراف القرنة او مقام علي الشرقي في اطراف العمارة وحتى سيد محمد في اطراف سامراء وغيرها وهن يرتدين العباءة السوداء برفقة النسوة اوالعوائل المسلمة.
تبادل الاطعمة خاصة الكبة المصلاوية المسيحية وخبز العروگ البصري، ويتقبلون بامتنان خبز العباس وزردة فرحة الزهرة والهريسة والقيمة وغيرها من اطعمة عاشور والمناسبات الدينية والاجتماعية الاخرى، والاكلات البصرية الخاصة وتبادل التهاني في اعياد وافراح الطرفين. كانت الصداقات والزيجات المختلطة معروفة ومقبولة! وهناك الصورة المشهورة التي يفتخر بها البصريون لثلاث بنات: يهودية ومسيحية ومسلمة والرابعة التي التقطت الصورة كانت صابئية.
اثناء ما يسمى بالفرهود الذي نظمه العميل نوري السعيد بالتعاون مع المخابرات البريطانية والعصابات الصهيونية لاجبار يهود العراق على الهجرة الى "اسرائيل" بعد ان رفض غالبية يهود العراق اغتصاب فلسطين او الهجرة لاسرائيل فقد حمت العوائل المسلمة والمسيحية جيرانهم واصدقائهم من اليهود من هجمات الغوغاء المنظمة من سلطات نوري السعيد، كما حمى التجار المسلمون والمسيحييون محلات واموال وتجارة وبيوت اصدقائهم وجيرانهم وشركائهم من اليهود! ولقد دافع بعض التجار واصحاب المحلات بالسلاح وهددوا باطلاق النار على من يتعرض لاموال اليهود في محلاتهم المغلقة.
لم يتعرض محل عزرا ناجي زلخة لاي نهب او اعتداء بعد اعدامه ظلما وتعليق جثته في ساحة ام البروم مع بعض يهود البصرة في 27/1/1969 رغم ان محله يقع في اكثر شوارع البصرة ازدحاما(شارع المغايز) كذلك لم تتعرض محلات المغدورين الاخرين زكي زيتو، والبير حبيب توماس لاي اعتداء رغم ان السلطات تركتها غير مقفلة بشكل مقصود!
حتى على المستوى الرسمي فان مجلس محافظة البصرة، والمجالس البلدية كانت تضم اسماء يهودية ومسيحية ومندائية بل كان هناك قضاة في المحاكم من كل الديانات! التاجر اليهودي ساسون لاوي كان مثلا عضو مجلس اللواء عام 1946.
مدرسة حداد الاهلية لم تكن مغلقة على المسيحيين فقط ولا حتى مدرسة الراهبات او مدرسة الرجاء العالي (مدرسة امريكان) ولا المدارس الاهلية اليهودية مقتصرة على اليهود فقط، ولا مدارس المسلمين الخاصة (الاهلية) فقد جلس في صفوف تلك المدارس جنبا الى جنب ابناء الديانات والمذاهب والطوائف كلها! كذلك هو الحال في مبرة البهجة الشهيرة!
كان في البصرة معابد وثنية وتجري فيها مراسيم هندوسية، وبوذية، وسيخية، وتمارس الطقوس بحرية وامان دون ان تتعرض للمضايقات او المنع، حتى المحافل البهائية كانت موجودة قبل ان تمنعها وتحاربها حكومات نوري السعيد.
مثلما يتقافز اطفال العوائل المسيحية فوق نيران "نيروز" وربيع الاول ويكسرون الجرار (الشرابي) القديمة مع اترابهم المسلمين ابتهاجا ب"طلوع صفر" يجتمعون ايضا مع عوائلهم في بيت عائلة مسلمة اومسيحية ويقومون مع اهاليهم بصبغ وتلوين البيض برسوم والوان زاهية استعدادا واحتفالا بعيد الفصح، والمناسبتان تحملان عبق زهورالربيع ودفأ وروح التعايش الجميل!
هذا كان غيض من فيض لما كنا نعيشه ونفتقده الان للاسف الشديد!
هل لا زال ذلك الاخاء والصفاء والتعايش الجميل والوفاق قائما في البصرة، ام انه اختفى مع اهلها الطيبين الذين سحقتهم الحروب، ودمرهم الخراب، ومزقتهم الطائفية، واختطفتهم الغربة وضيعتهم المنافي؟؟!
اتمنى ممن عاشوا وشهدوا تلك الفترة الذهبية اغناء الموضوع بملاحظاتهم، واضافاتهم وامثلتهم، وذكرياتهم، وتجاربهم الشخصية، فالخراب المنظم الذي تعيشه البصرة وزرع الفرقة المقصود اليوم يفرض علينا تذكر ماضيها الجميل وعرضه وتقديمه الى الاجيال الحاضرة التي لم تشهد غير الحروب، والدمار، والارهاب، والفساد، والطائفية، والتعصب الاعمى، والجريمة المنظمة، وانتشار(نشر) المخدرات القاتلة.
عسى ان نرسم معا ونستعيد الصورة الزاهية لبصرة الامس!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الأمم المتحدة: إزالة دمار الحرب في غزة يتطلب 14 سنة من العمل


.. السودان.. مدينة الفاشر بين فكي الصراع والمجاعة




.. إعلام إسرائيلى: إسرائيل أعطت الوسطاء المصريين الضوء الأخضر ل


.. كل يوم - خالد أبو بكر ينتقد تصريحات متحدثة البيت الأبيض عن د




.. خالد أبو بكر يعلق على اعتقال السلطات الأمريكية لـ 500 طالب ج