الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الأنساق الثقافية ، التكوّن والتّأثير

علي حسين يوسف
(Ali Huseein Yousif)

2022 / 4 / 2
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


النَّسَقُ شَبَكَةٌ معقَّدةٌ مِنْ المُعْتَقَدَاتِ المُشْتَرَكَةِ وَمنَ الأَفْكَارِ والرّموز الْمُتَدَاخِلَة الَّتِي يَسْعَى أَطْرَافُهَا بِوَعْيٍّ أَوْ لَا وَعِيّ مِنْهُمْ إلَى تَحْقِيقِ التّكافلِ وَالِاسْتِقْرَارِ فِيمَا بَيْنَهُمْ ، فَهُو سُلُوكٌ اجْتِمَاعِيٌّ يَتَضَمَّنُ جمعاً مِنْ الْأَفْرَادِ المتفاعلينَ يمارسونَ بِانْسِجامٍ مَجْمُوعةً مُعيّنةً مِنْ الْأَفْعَالِ والتفاعلاتِ الْقَابِلَةِ للتّكيّفِ وَالتَّحَقُّقِ لِوُجُود صِلاتٍ مُتَبَادَلَةٍ فِيمَا بَيْنَهُمْ .
وَالْوَاقِعُ يَشْهَد عَلى أَنَّ النّاسَ ـ عامَّةً ـ يَعِيشُونَ ضِمْنَ اِنْساقٍ ثقافيّةٍ مهيمنةٍٍ تتحكًمُ بسلوكيّاتهم ؛ أفراداً أَوْ جَمَاعَاتٍ لكنّهم قَدْ لا يَنْتَبِهُون إلى الْأَسْبَابِ الَّتِي تحرّك تِلْك الأنساق وَلا إلى كَيْفِيَّةِ تَكَوُّنهَا إذ غَالِباً مَا تَكُونُ خفيّةً وَمُتَدَاخِلَةً وَلا يُعْرَفُ مِنْهَا إلَّا النَّتَائِجُ والمُخرجات عَلَى الرَّغْمِ مِنْ أنّها ذَات تَأْثِير كَبِيرٍ عَلى الآرَاء والمعتقداتِ وَالنَّظَرِيَّاتِ الَّتِي يُؤْمِنُ بِهَا النّاسُ .
إنَّ أَيَّ تَغْيِيرٍ فِي السُّلُوكِ الاجْتِمَاعِيّ , أَوْ فِي الأَفْكَار والمُعتقداتِ الَّتِي يُؤْمِنُ بِهَا النَّاسُ يُعَدّ انعكاساً وَاسْتِجَابَةً لتغيّر النَّسَقِ المعرفيّ الْمُضْمَر ويشي ـ في الوقتِ ذاتهِ ـ بحركيّتهِ , وَإِنْ كَانَتْ أَسْبَابُ هَذِا التَّغَيُّر غَيْرَ وَاضِحَةٍ , لِتَعَدُّدِها وَتَدَاخُلِهَا كَمَا مرّ .
وَبِمَا أنَّ الْمَعَارِفَ والمعتقدات جميعاً تَعَدّ سلوكيّات بشريّة ثمِّ أنَّها مخرجاتٍ تَعْكِس زَمَانَ الثَّقَافَةِ المَحليِّةِ وَمَكَانَهَا , فَإِن كلّ مَعْرِفَةٍ , وكلّ اتِّجَاهٍ فِي حُقُولِ الثَّقَافَةِ لاَبُدَّ أَنْ يَخْضَعَ ــ أولاً ــ إلَى حركيّةِ تِلْك الأنساقِ الْمُضْمَرَةِ , وَيَتَغَيَّر ــ ثانياً ــ تَبَعاً لمقتضيات حاكميَّتها .
وَالسُّؤَال الْأَهَمّ ــ هُنَا ــ هُو : مِن يَتَحَكَّمُ فِي تِلْكَ الأنساق الْمُضْمَرَة , وَكَيْف تتمأسسُ , لتتمتع بِهَذِه السَّطْوَة مِنْ التَّأْثِيرِ ؟
أَنَّ أَيَّ تَحَوَّلٍ أَو تَغْيِيرِ عَلَى مُسْتَوَى السُّلُوك أَو النَّظَرِيَّة يُمَثِّلُ اِسْتِجَابَةً لمتطلباتٍ مُعَيَّنَة , كَمَا أَنَّهُ يُمَثِّل اِسْتِجَابَةً لِعَدَدٍ هائِلٍ مِنْ تِلْكَ الرَّغَبَاتِ والميولِِ الَّتِي تَنْشِدُ التَّحْقِيقَ لكنّها تظلّ زمناً فِي طَوْرِ التكوِّن ، تَنْتَظِرُ الظُّهُورَ , تتبلورُ فِي ذَاكِرَة الأَفْرَاد , والمجتمعاتِ عَلَى شَكْلِ رَغَبَاتٍ تَتَرَاوَح بَيْن الْمَمْنُوع والمرغوب , فَهِيَ فِي أَوَّلِ أَمْرِهَا مَوَاقِفُ مشتتةُ تتبلورُ شَيْئاً فَشَيْئاً حَتَّى تَنْضَج لِتُمَثِّلَ نَسَقًاَ مُؤَثِّراً فَتُصْبِح فَاعِلُةً بتراكمِها وتكاملِها , ويساعدها فِي نضوجِها ونموِها ضَعْفٌ الانساقِ المعلنةِ أَوْ قِدَمُ مقولاتها .
إن النَّسَقَ الْمُضْمَرَ يتبلورُ فِي الْخَفَاءِ وَيَدِبّ متسللاً إلَى ثَقَافَةِ الْمُجْتَمَع شَيْئاً فَشَيْئاً حَتَّى تُصْبِحَ مقولاتهُ ثَقَافَةً يُؤْمِنُ بِهَا النَّاسُ فِي العلنِ , وَعَلَيْه يُمْكِنُ أَنْ نَصْفَ تِلْكَ الِانْتِقَالَات بِأَنَّهَا مُفاجِئَةٌ أَو بَطِيئَةٌ مِن مَطْلَبٍ حَضارِيٍّ إلَى آخِرِ غَيْرِهِ لَكِنْ هَذِهِ الِانْتِقَالات الحضاريَّة قَدْ لَا تَمُرُّ بِسَلَامٍ دَائِماً فَكَثِيراً مَا ترافقها خَسائِرُ مِنْ نَوْعِ مَا فَقَدَ تَتَسَبَّبٌ فِي اشكاليّات مجتمعيَّة ومعرفيّة كَثِيرَةٍ , بِسَبَب مايُصاحبها أَحْيَاناً مِنْ انْفِلَاتٍ ومِنْ غيابِ التَّنْظِيم وطابع الصداميّة , أَوْ بِسَبَبِ الصِّرَاع الَّذِي يَحْصُلُ بَيْنَ الرَّغَبَات البَشَرِيَّة المُتَعَارِضَة , أَوْ بِسَبَبِ اتِّسَاع قَنَواتِ التَّغْيِير وَعَدَم ضَبْطِهَا , مِثْلَمَا يِحدّثُ الآن حِينَمَا زَادَت قَنَواتٌ الِاتِّصَالِ فَأَصْبَح التَّغْيِيرُ إِشْكالِيَّةً بِحَدِّ ذَاتِهِ , وللتّمثيلِ عَلى أَثَرِ الأنساقِ وحركيَّتها نذكِّر بمَوَاقِف الْمُجْتَمَع الْعِرَاقِيّ فِي بدايات النِّصْفِ الْأَوَّلِ مِنْ الْقَرْنِ المنصرم تجَاه تَعْلِيم الْإِنَاث ونذكِّرُ برفضهِ ـ قَبْل سَنَوَات ـ اسْتِعْمَال وَسَائِل التَّوَاصل الحَدِيثَة وَقَدْ تَغَيَّرَتْ تِلْكَ الْمُعْتَقَدَات إلَى حَالَةٍ مِنْ الرِّضَا والتَّكَيُّف شبه التَّامّينِ . .
فَقَدْ كَانَ الْعِرَاقِيُّون حَتَّى النِّصْفِ الثَّانِي مِنْ الْقَرْنِ الْفَائِت يَرْفُضُون إرْسَال بَنَاتِهِم إلَى الْمَدَارِس (بل رُبَّمَا رفضوا فَكَرِة الدِّرَاسَة لِلذُّكُور أيضاً) لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّ ذَلِكَ يَنْدَرِج ضَمِنَ الأخلاقيات وَالْمَبَادِئ الَّتِي لَا يُمْكِنُ مُخَالَفَتِهَا مُطْلَقًا لَكِنْ الِانْفِتَاح المجتمعيّ والوعيّ الفرديّ الَّذِي تَسَرَّب تَدْرِيجِيّا بَعْدَ ذَلِكَ أَخَذَ بالتبلور فِي أَذْهَانِ أَفْرَاد قَلَائِل بَادِئِ الْأَمْرِ ثُمَّ أَصْبَحَ شَيْئًا فَشَيْئًا ثَقَافَةٌ صَارَت نَسَقًا مُؤَثِّرّاً وَفَاعِلاً يَدْفَعُ النَّاسَ وبإيمانٍ كَامِل لِتَعْلِيم الْفَتَيَات وتثقيفهن إلَى الْحَدِّ الَّذِي أَصْبَحَ مَعَه الْمُجْتَمَع الْعِرَاقِيّ يُؤَاخَذُ مِنْ لَا يُرْسِلَ بَنَاتِه إلَى الْمَدْرَسَةِ وينتقده بِشِدَّة وَهَكَذَا تَسَلَّل نَسَق ثَقافِيّ جَدِيد يُؤْمِن بقيم وَمَبَادِئ معرفيّة وسلوكيّة كَانَت بِالْأَمْس الْقَرِيب مرفوضةً تَمَاماً . وَالْأَمْرُ يَنْطَبِقُ عَلَى أَمْثِلَةٍ كَثِيرَةٍ مِنْهَا رَفَض الْعِرَاقِيِّين لأجهزةِ الستلايت وأجهزة الموبايل وَالاَنْتَرْنِيت وتطبيقاته فِي بِدَايَةِ دُخُولِهَا إلَى الْبَلَدِ لَكِنَّ الْأَمْرَ تَغَيَّرَ تَمَاً بِمُرُور الْأَيَّام وتسرّب القناعات لنفوسِ الْأَفْرَاد حَتَّى بَاتَت تِلْكَ الْأُمُورِ ضَمِن متطلبات الْحَيَاة اليَوْمِيَّةِ . .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. -أمام إسرائيل خياران.. إما رفح أو الرياض- | #مراسلو_سكاي


.. استمرار الاعتصامات في جامعات أميركية.. وبايدن ينتقد الاحتجاج




.. الغارديان: داعمو إسرائيل في الغرب من ساسة وصحفيين يسهمون بنش


.. البحرين تؤكد تصنيف -سرايا الأشتر- كيانا إرهابيا




.. 6 شهداء بينهم أطفال بغارة إسرائيلية على حي الزهور شمال مدينة