الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


غوستاف لوبون: اليهود في تاريخ الحضارة الأولى

داود السلمان

2022 / 4 / 3
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


كثيرة هي المجالات التي خاض في مياهها الجارية، الفيلسوف والمؤرخ الفرنسي غوستاف لوبون. ومن هذه البحوث هو بحثه حول وجود اليهود في تاريخ الحضارة.
ويُعدَّ كتاب "تاريخ اليهود في الحضارة الأولى" اصغر كتاب من ناحية فقر المادة، وعدم الأتساع والغوص في اعماق بعيدة، لجلب مادة اكثر غزارة واعمق فائدة، لهذه الطائفة التي لعبت دورًا مهمًا في الحضارة الإنسانيّة القريبة. فالكتاب يبلغ 95 صفحة من القطع المتوسط، وقامت بطبعه "دار الرافدين"، وكالعادة قام بترجمته عن الفرنسية عادل زعيتر.
فالكل يعلم إن لكل ديانة أو طائفة أو مجموعة من البشر عاشت لسنوات طويلة على أرض المعمورة؛ لكل هؤلاء لابد من حضارة، أو إثر عيي تركته وهي تسكن في ارض معينة.
لوبون عكس جميع بحوثه وكتبه الأخرى، لم يضع مقدمة لهذا الكتاب، بل قام بالنيابة عنه مترجم الكتاب عادل زعيتر، ومن وجهة نظري القاصرة، فأن زعيتر لم يكم موفقا في هذه المقدمة، إذ أرى إنّه قد تحايل على هذه الطائفة (أقول هذا ليس من باب الدفاع عنهم) فوصفهم بأنهم ليس لهم حضارة تُذكر، ولم يتركوا أثرًا يدل على فكرهم ومشاركتهم وبقية المجتمعات الأخرى في صنع نتاج إنساني.
وقال زعيتر بالحرف الواحد: واليهود مع عَطَلهم من الفن والصناعة عَطَلًا تامًّا، يجدُ لهم لوبون آدابًا غنية، ولوبون يقول مع ذلك: "وليست تلك الظاهرة خاصةً ببني إسرائيل فقط؛ فهي تُشاهَد لدى جميع الأمم السامِيَّة، ولا سيما العرب الذين كانوا قبل الإسلام ذوي شِعْر بعيد الصِّيت حقًّا، على أن الشعر، مع الموسيقى، فنُّ جميع الأمم الفطرية، والشعرُ مع بُعده من التقدم موازيًا لتقدم الحضارة، تجده يضيق أهميةً وتأثيرًا كلما ارتقت الأمم؛ فقد اقتضت الحضارة قرونًا طويلةً لاختراع الآلة البخارية واكتشاف سنن الجاذبية، مع إمكان ظهور قصائد كالأوذيسة والإلياذة، وأغاني أُوسيان في أدوار الجاهلية".
ومن ناحية أخرى زعيتر يؤيد رأي لوبون القائل، بحسب ما ينقل المترجم: أن "قدماء اليهود لم يجاوزوا أطوار الحضارة السفلى التي لا تكاد تُميز من طور الوحشية، وعندما خرج هؤلاء البدويون الذين لا أثر للثقافة فيهم من باديتهم ليستقروا بفلسطين، وجدوا أنفسهم أمام أمم قوية متمدنة منذ زمنٍ طويلٍ، فكان أمرهم كأمر جميع العروق الدنيا التي تكون في أحوال مماثلة، فلم يقتبسوا من تلك الأمم العليا سوى أخس ما في حضارتها، أي لم يقتبسوا غير عيوبها وعاداتها الضارية ودعارتها وخرافاتها".
يقسم لوبون كتابه إلى أربعة فصول قصيرة، هي: الفصل الأول: البيئة والعرق والتاريخ – الفصل الثاني: نُظم العبريين وطبائعهم وعاداتهم – الفصل الثالث: دين بني إسرائيل – والفصل الرابع: الآداب العبرية.
ففي الفصل الأول يذكر لوبون: إنّه سيختلف تاريخ اليهود والأديان التي صدرت عنهم عن التاريخ الذي لا يزال مدوَّنًا في الكتب اختلافًا كبيرًا لا ريب، وبيان الأمر أن مؤسِّس النصرانية، كما صنعته القصة، كان أقل الساميين ساميَّة، فلم يكن من غير سببٍ أن كُفِرَ به وأن صُلِبَ، وأن هذا المتهوس الكبير مَثَّل في التاريخ دورًا كان يتعذَّر عليه أن يبصره، فأوجبت أحوالٌ مستقلةٌ عنه حاملة لاسمه ظهورَ آمال للعالَم عندما لاح نجمه، وليس في الإحسان العظيم العام والتشاؤم القاتم اللذَيْنِ قام عليهما مذهبه في البداءة، كما قام عليهما مذهب بُدَّهَة "بوذا" قبله بخمسمائة سنة، شيءٌ من السامية، فما كان لمبادئ كهذه أن يتمثلها ذلك الشعب اليهودي الصغير المتعصب الأناني الصلف المغرور المفترس، وإنما نبتت هذه المبادئ على مبدأ التوحيد المحلي الذي مالت إليه، على الدوام، روحُ الساميين - من أنصاف البرابرة كاليهود والعرب - الفطرية الخاثرة.
ويضيف ولما يحل الوقت الذي ترسم فيه يدُ الإنصاف تكوينَ تلك المعتقدات الكبرى، ولا يكاد فجر ذلك الزمن يلوح، ولا يزال المؤمنون والملحدون يُقيمون بدوائر من التصديق أو الجحود على غير برهان، ولا يزال الرجل المعاصر يئنُّ تحت عبء الوراثة الثقيل، ولا تزال متماسكة المؤثرات الإرثية التي حَصَرَتْ نفوس الغرب في قوالب منذ ألفَيْ سنة، وإن أخذت هذه المؤثرات تنحلُّ؛ فقد ترك الماضي في نفوسنا آثارًا يجب أن تمر عليها أمواج الزمان غير مرة حتى تمحوها.
وأمّا في الفصل الثاني فيرى أنّ اليهود ظلوا حتى آخِر مرحلة من تاريخهم في أدنى درجة من الحضارة قريبين من دور التوحُّش الخالص.
يقول ولم يجاوِز اليهود طبائع أمم الزرَّاع والرعاة إلا قليلًا جدًّا، وخضع اليهود لنظام رعائي ولم يكادوا يدخلون دائرة التطور الاجتماعي.
ولوبون يعتبر انّ توزيع الأعمال من العلائم التي تتجلَّى بها حال الحضارة لدى أحد الشعوب، والعبريون لم يكادوا يفرِّقون بين الحِرَف في عهد الملوك، فنرى كل أسرة في دور تاريخهم الطويل تتدارك احتياجاتها الخاصة، فتخبز خبزها، وتفتل غزلها وتحوك نُسُجها فتصنع منها ثيابها، وتزرع حقولها، وتربي أنعمها فتذبحها وتُعدُّ جلودها.
لهذا يؤكد لوبون أنّ الحِداد هي أول صنعة بدت مستقلة، غير أن المعادن لم تكن كثيرة لدى بني إسرائيل، فكانت الأدوات الحجرية والخشبية أكثر الأدوات انتشارًا، وما كانت الأسلحة نفسها مصنوعة دومًا من الحديد ولا من النحاس، ومن الحق أن كانت الصَّوَّانة التي تؤخذ من السيل أمضى من الرمح في يد هؤلاء الرعاة الجنود، فبالمقلاع قتَلَ داودُ جُلْيَات الجبَّار.
ويعتبر لوبون أنّ تلك العادات هي عادات الأعراب الذين لا يزالون يعيشون في أطراف البادية، وتلك العادات لم يُغيِّرها بنو إسرائيل حتى بعد أن أبصروا حضارات مصر وآشور الساطعة.
وعند ذكر دين بني اسرائيل وهو الفصل الثالث من الكتاب يعتقد لوبون: إن التوراة كتابٌ أُلِّفَ في أدوار مختلفة أشد الاختلاف، وإن التوراة مملوءةٌ بالارتباطات والاختلاطات والروايات المرتبة المصنوعة بعد قصير وقت، ويعقب شعر إشعيا الروحاني السامي في تاريخه ومكانه في العهد القديم إشراكُ الأجيال القديمة وأقاصيصها الجاهلية، ومما لا ريب فيه وجود ثغرة عدة قرون في ذلك لا تسدها وثائق التوراة.
وعليه يؤكد لوبون على إنّه ليس علينا أن نبحث هنا كيف يمكن ذلك؛ فقد سرنا واليهود حتى الزمن الذي عادوا لا يؤلفون فيه أمةً، فلا نرسم التحولات التي عاناها فكرهم بتعاقُب الأجيال بعد ذلك، وقد بيَّنَّا بما فيه الكفاية، التطورَ الذي أضحت به المذاهب الكلدانية دين اليهودية، بعد أن انتحلها هذا الشعب الجديد، فمن مجاوزة حدود هذا الكتاب أن نُبيِّن كيف صار دينُ اليهود المشتق من المعتقدات الكلدانية، الدينَ الكبير الذي هَيْمَنَ على أمم أوروبا المتمدنة نحو ألفَيْ سنة، وذلك باقترانه بالأساطير الآرية.
وفي فصل الرابع والأخير وهو في "الآداب العبرانية"، يشير لوبون بقوله إنّه إذا كان اليهود قد عطلوا من الفن والصناعة عطلًا تامًّا، وإذا كان اليهود قد ظلوا بمعزلٍ عن كل جمال يفوق المال، فإنك تجد لهم آدابًا غنيةً منوَّعةً يجدر ذكر بعض أجزائها.
وعليه يؤكد أنّه ليست تلك الظاهرة خاصة ببني إسرائيل فقط؛ فهي تُشاهَد لدى جميع الأمم السامية، ولا سيما العرب الذين كانوا قبل الإسلام ذوي شعرٍ بعيد الصيت حقًّا، على أن الشعر مع الموسيقى فنُّ جميع الأمم الفطرية، والشعر مع بُعْده من التقدم موازيًا لتقدم الحضارة تجده يضيق أهميةً وتأثيرًا كلما ارتقت الأمم؛ فقد اقتضت الحضارة قرونًا طويلةً لاختراع الآلة البخارية واكتشاف سُنَن الجاذبية، مع إمكان ظهور قصائد كالأوذيسة والإلياذة، وأغاني أُوسيان في أدوار الجاهلية.
ولوبون يذهب إلى إنّ حياة البداوة حالت، على الدوام، بين أهل البدو دون ظهور فنونٍ شاخصة، وأدَّتْ إلى عدم اكتراثهم لتركيب الخطوط المنسجمة، وهي لم تحفز ملكاتهم إلى غير سبيل الشعر، ولا سيما الشعر الغنائي.
وعليه، يصرّ لوبون على أنّ أقدم أغاني العرب هي الأجمل، ولما أقام العربي بالمدن بعدئذٍ حافَظَ على عادة الذهاب إلى تحت الخيام ليقوي وحيه، والعربي في قصده إخوانه الأعراب، يكون كما لو ذهب المدرسة ليتعلم اللغة الفصحى والوزن الرنان وأخيلة البطولة.
وفي موضع الدفاع عن اليهود يوضح لوبون إنّه كان عند العبريين سار الشعراء أو الأنبياء على سُنَّة الشعوب السامية، حتى في زمن الرخاء، حتى في زمن الجاه، حتى في أيام العهد الملكي الأولى، كان أولئك الذين يسمعون أقوى الكلام يتمثلون هذا الكلام في العزلة، فيبدون من ذوي الهوس والجرأة والخيال.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مظاهرات الطلاب الأمريكيين ضد الحرب في غزة تلهم الطلاب في فرن


.. -البطل الخارق- غريندايزر في باريس! • فرانس 24 / FRANCE 24




.. بلينكن في الصين.. مهمة صعبة وشائكة • فرانس 24 / FRANCE 24


.. بلينكن يصل إسرائيل الثلاثاء المقبل في زيارة هي السابعة له من




.. مسؤولون مصريون: وفد مصري رفيع المستوى توجه لإسرائيل مع رؤية