الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تراجيديا رجل الدين العراقي

ياسين النصير

2006 / 9 / 11
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


1

ما نعنيه بتراجيديا رجل الدين العراقي هي الكيفية التي يفهم بها مهمته في مرحلة يشتد فيها الصراع بين أن يتقدم العراق ليلحق بركب الأمم الحديثة،أوالبقاء ضمن مفهومات سلفية قديمة تقوده للخلف.. فهل أن رجل الدين العراقي مهيأ بالفعل ليلعب مثل هذا الدور التقدمي الثوري على المسرح العراقي؟ هذا هو السؤال الذي يكرره العراقيون اليوم.فنحن نعيش يوميا لنشاهد نصا يجري تمثيله على مسارحنا العراقية هو نص لتراجيديا التضحية، فتنصبت له الخيام في كل مدينة وضاحية وقرية، من شمال العراق إلى جنوبه ومن شرقه إلى غربه. ويتقاطر عليه الناس ليشتركوا في مشاهدته وأحيانا بتأدية بعض فقراته. النص مكتوب منذ اربعة عشر قرنا يمثله رجل الدين العراقي اليوم بخطاب مباشر للناس، وبلغة يختلط فيها الفصيح بالعامي، اللهجات العربية بالدخيل عليها. والمشاهدون هم أبناء العراق بكل أطيافهم،- تستطيع أن تتعرف عليهم من ملابسهم وغطاء الراس- والمحصلة اليومية لهذه التراجيديا التي تؤدى بالنص نفسه،وبالأصوات نفسها، وبالحركات نفسها، وبالديكور نفسه، هو مزيد من الضحايا باسم تراجيديا الدين التي لا تستمر بدون ان يكون لها ضحايا في كل يوم. تراجيديا سوداء تصورلهم أن ما يحدث في العراق هو قدر لابد من المرور به، وإن ما يجري هو أقل مما يتصوره عندما يمسك رجل الدين السياسي بدلا من العلماني بمقاليد الدولة. فالدماء التي ترويها التراجيديا يوميا على مسارح الشوارع ما هي إلا الدموع، ولكنها دموع مختلفة الألوان ومتعددة مصادر النضوح، وعلى الجمهورأن لا يتذمر، أو ينفض يده من المساندة والمشاهدة لتراجيديا رجل الدين العراقي،بل عليه أن يستمر بالبكاء الدموي وان يعمم هذه الثقافة وان يديمها ويسترشد بها فهي تراجيديا بنص وبأخراج جديد. أما ما نشاهده من نقص متزايد للمشاهدين يوميا، ليس سببه عدم إيمانهم بما يقوله رجل الدين السياسي على المسرح، بل لأنهم، ونتيجة لرسوخ إيمانهم الدموي ، خرجوامن قاعة العرض للشارع هاتفين مؤيدين، كي يفسحوا المجال للقادمين الجدد من بلدان أسلامية أخرى كي يشتركوا في البكاء الدموي للشارع العراقي. هذا هو العمل السايسي الجليل الذي يكتسب قيما معاصرة وتراجيديا لا تنضب مصادرها. وبالرغم من وعود التجديد والتغيير الذي يقال على ألسنة الممثلين يوميا من رجال الدين السياسيين، وتذيعه قنوات فضائية العالم والجزيرة، من أنهم سينقلون التراجيديا العراقية إلى مسارح دول الجوار، نجد الجمهور يبتعد عن سماع معزوفة أن تراجيديا الدم سببها القوات الامريكية فقط، وأنهم كانوا وما زالوا ضحية تراجيديا يرسم خيوطها الاستعمار وقوى دينية متخلفة.
نص التراجيديا الذي يمثله رجل الدين السياسي يوميا عل مسارح الأرض العراقية مفتوح، ويضاف إليه في كل عرض جملا وحركات جديدة، وعلى رجل الدين العراقي أن يجيد لعب الدور، وأن يحفظ ما يضاف للنص، وأن يؤديه بأمانة، ليقنع جمهورا بدأ يدير ظهره لمقولات الملالي السياسيين لاعن سماع خطابهم فقط، بل وعن قيامه بأي جهد يقلل من نزيف الدم العراقي بعد أن اجبر هذا الجمهور على قبول ما كان يرفضه وهو أن يتسلم من يدعي الدين مقاليد الحكم؟ ألم يكن صدام حسين محصنا بالأسماء الدينية الحسنى كلها ومسيرا لكل مرافق الإسلام السياسي في العراق وفي غير العراق،فماذا كانت نتيجته؟.
منذ اربعة عشر قرناً بقي رجل الدين العراقي تحت تأثير تراجيديا التضحية،وكأنها الثيمة الكونية التي تقود اي مجتمع للتطور، بل ووجعلها المحورالذي تدورعليه أشكالية الدين والسياسة بكل أطيافها. تراجيديا كتبت فصولها الارستقراطية العربية التجارية والعشائرية والدينية، لتحفر في الذات العراقية شرخا عمقته دولا بمصالح، يحتاج بعد أربعة عشر قرنا لأجنبي كي يصلحه!!هي تراجيديا التضحية التي يجب أن تتجدد كلما كانت هناك حاجة ضرورية للدماء العراقية، تراجيديا القبور والموت والدم، يمثلها ممثلون عراقيون من كل الأطياف الدينية والقومية، ويخرجها مخرج أعور دجال يحرك اللعبة من خارج قاعات العرض، وعندما تسأل عن المحصلة من تكرارهذا العرض الدموي اليومي، ومن قبول الممثل العراقي لأن يلعب دورا فيه، يقال لك أنها من أفعال الأجنبي أوممن يؤتمر بأوامرهم، وعلينا كي نبقى في مرابع الحكم الخضراء، أن نعيد عرض المسرحية نفسها،وبالممثلين انفسهم، وبالنص القديم الذي انفتح على ما يضيفه الجيران، وأن نوصل أضاحي اليوم باضاحي الأمس. فالعراق الذي أسس لتضحيات الموت المجاني قديما، ودفع لذلك ملايين الناس من أجل أن يُحتل أو يستقل، هو ما يجب أن يبقى داميا تتكرر تراجيديا الموت على أرضه يوميا.لذا نجد العرض المسرحي يتجدد بطريقة استذكار الثارات والمواجع وتحويلها إلى منبر دعائي ضد الآخرين.أن قيمة اي تراجيديا إذا كان لابد من استمرارها، تكمن في مسايرتها لحاجات الناس الثقافية والنفسية والدينية فتتحول من استذكار الموت إلى تقوية الحياة،من ردة فعل قديمة إلى حوار منفتح، ومن مفاهيم قاصرة إلى بنى جديدة للحداثة. ولن تكون هناك تراجيديا تُخضع الناس على مدى الزمن لما تريده فمثل هذه التراجيديا حتى لو كانت لأفضل الناس سينفض عنها الجمهور. فالمقدس هو في حياة الناس لا في موتهم. كي تستمرتراجيديا التضحية، علينا أن نضعها ضمن سياقها العالمي / الإنساني فنحولها من مأساة عادية قيلت في مرحلة قديمة، إلى صراع جوهري لنهوض العراق.


2

تراجيديا من هي هذه التي نعيش فصولها الدموية الآن؟ أهي تراجيديا شيعية / سنية بحيث تصبح ضيقة المعنى والهدف وتنحصر كما هي الآن بالصراع الطائفي الدموي؟. أم هي تراجيديا قبلية/ قومية، تتحول إلى دينية/قومية، وجدت نفسها في دهاليزالسياسة الدولية والإقليمية، فسمحت لدول اخرى أن تكتب فصولا جديدة لها تتلاءم وسياقها السياسي؟. أم هي تراجيديا التخلف/الحداثة بكل ما تحمله هاتان الكلمتان من معنى يعطل عجلة التنمية بافتعال أزمات الأمن والتهريب والفساد والمحسوبية والتبعية، ويشتت ثروات البلاد بطريقة الفهم الساذج للتنمية، كي جعلوا من العراق بلدا يعيش في الماضي. فالتراجيديا التي يعيشها رجل الدين العراقي، تراجيدية سوداء مأساوية،منغلقة بالرغم من أن الاجتهاد وهو مبدأ منفتح يلازم تراجيديا التضحية باعتبارها طاقة على فهم للنص كي لا يتقولب ضمن سياقات قديمة. وعلينا أن ندرك أنه ليس بمقدوره أحد إيجاد الحلول لقضايا التنمية والتخلف لمجرد أنه أستلم السلطة.أو أنه فكر بالحداثة خارج سياقاتها العالمية.لذا لاحداثة لنا دون الالتحام الفعلي بالعالم، ومن هناك يمكن أن نبحث عن خصوصيتنا كما فعلت اليابان وألمانيا وشرق اسيا والصين.ما يدعونا للإنغلاق على فهم تراثنا عاملان: عامل ذاتي متخلف خوفا من ان يفقد الإسلام السياسي سلطته ومراكزه، وعامل خارجي،بظهور قوى دول الجوار تمهد لاضعاف النهضة فينا كي تتقدم على حسابنا. والعاملان غير جدليين، بمعنى أنهما ينظران للتطور نظرة ذاتية قاصرة، فالعامل المحلي سمح بتمزيق ثوبه الوطني ليفصله على حجم الطوائف العددي،والعامل الأجنبي والاقليمي جاء بتصورات ناقصة عن عمق البعد الوطني العراقي الراسخ. وعلى قوى التحديث أن تعي أن التطورلا يتم ، لا مع نظرة المحلي المتخلفة ولا مع رغبات ومطامح القوى الأجنبية. فالمحافظة على كل مفردات المنظومة القيمية والأخلاقية القديمة والثابتة ومن بينها التضحية،لابد له من ان يلغي الحلقات ألاضعف في هذه المنظومة حتى ولو كانت تقدمية ومنها أن بعض جوانب التضحية كانت من أجل اصلاح الامة. وللأسف ان حجم الضعف الفكري في مجتمعاتنا هو الأكثر مما يعني أن الحداثة ستأتي على الكثير من الرموز الدينية والثقافية ومراكز السلطة ومكوناتها، تلك التي لم تتحرك بمفهوماتها القديمة بما يوازي حاجة المجتمع العراقي للتحديث.. وهو ما نشهده الآن من ان التشبث بالمفهومات كالتضحية وما يرافقها من مأسي،هو تأكيد على تفسير خاطئ لمعناها الإنساني والإيديولوجي ، فالقديم في برنامج ومنهاج الحزب السياسي الإسلامي بالرغم من تقدم بعض تصوراته، ليس هو الخطاب المعاصر لرجل الشارع العراقي. ومن هنا تبدو مفاهيم مثل التضحية كما لو كانت مقدسات لا يجوز المساس بها، لا بل أن تأدية شعائرها تقود أحيانا بدفع الالاف من الناس كي تموت بطريقة مجانية.

3
تكشف تراجيديا رجل الدين العراقي السياسي عن رؤية ضيقة لما يحدث في العراق بعد 9 نيسان 2003 مادتها إثبات الذات بعد غياب عن السلطة اكثر من ثمانين عاما في العراق، وتأخذ مسالة الغياب التشبث باي نموذج يمنح هوية الدين طابعا سياسيا مباشرا، وإلا ما سر أن يصبح رجل دين مثل حسن نصر الله نموذجا على توليد مأسي لشعب تعافى من محنه،بالرغم من أن إنتصاره ضعيف وستأكله الأيام تباعا،وهو ما يجعل مفهوم المقاومة عندنا في العراق سلبيا. وهو المسار نفسه الذي كانت فصائل من الشعب العربي، خاصة الفلسطينية والأردنية والمغربية تجد في صدام حسين نموذحا يحررها من واقع الضعف والإنكسار، فحدث العكس أن صدام حسين أدخلهم في النفق المظلم، حينما فسروا اقدامه على غزو الكويت هو تحرير لثروات النفط من سلطة العشيرة ليوزعها مجانا على العاطلين الكسالى من أميي البلدان العربية ومتخلفيها.المسألة ليست شيعية أو سنية،بحيث تكتسب مليشيات حسن نصر الله قوة سماوية لتقهر جيشا معتد آثم،وليست هي القدرة الإليهة التي جعلت صدام حسين نموذجا لقوى خسرت حروبا مع إسرائيل كي يعيد لها توازنها، كما أنها ليست سمات عراقية أو لبنانية خاصة كي تجعل التراجيديا الدموية بأسلوب التضحية من أجل مواقف سياسية، هي النموذج الذي يجب أن يستمر بعد أن امتلأت القاعة بمشاهدي من نوع واحد. أن ما نشاهده من تراجيديا رجل الدين السياسي وبامتياز هي مسألة اضطراب القيم السياسية لمفهوم التضحية الغائر في وجدان العرب منذ قيام الدولة العربية الإسلامية وإلى اليوم، وهو مبدأ اشكالي بدأ في قصور السياسي لرؤية ثورة الحسين "ع" خارج سياقها المعلن والتي هي ثورة إصلاح للأمة والوقوف ضد ممارسة التعسف والظلم والفساد لتستمر في رؤية رجل الدين الحديث لدوره السياسي ضمن ظروف عالمية واقليمية ومحلية معقدة ، كما أن أية ثورة تقدمية قديمة ليست ثورة مقدسة آتية إلينا من الغيب كما يتصورها أيديولوجيو التخلف من الملالي في العراق وإيران، إنما هي ثورة مناضل حقيقي، معروف النسب والحسب والمحتد، وجد طريقة للتعبيرعن موقف لإصلاح الأمة بعد أن اضطربت قيم ومفاهيم العدالة والحق فيها. ولذا علينا عندما نفكر بالعراق الحديث أن لا نلغي النماذج النضالية الكبرى كليا منه،مثل ثورة الحسين، بل ان نتفهم ظروفها ونجعلها نموذجا نحتذي به دون تكراره،نموذج وقف ضد سياق ونمط حكم قديم، فكانت علامة في تاريخ أمه لا تعرف الركون لمقولات وممارسات سياسية جامدة.

4

إن ما يحدثه رجل الدين العراقي وما يفكر فيه هو نتيجة لاشكاليةالتخلف/الحداثة، التي تجد لها في مجتمعنا العربي صورة قديمة لتستحضرها هي صورة المرآة، كلما احتاج رجل الدين العراقي لنموذج حديث استدعاها من ماضيه كي يرى ما يحدث في المجتمع، وغالبا ما تكون الصورة التي يراها هي صورة رجل الدين السياسي نفسه. فعندما تثور الشعوب من اجل ان تنهض وتبني وتغير حياتها وتجدد مفاهيمهما، تلغي كل ما هو مقدس عاطل عن التطور،في حين نحن نثور من اجل أن نعيش في الماضي المتخلف ونزيد المقدس القديم مقدسات جدد، ونؤسس لها المآتم والرواتب والمخصصات والثقافة الإرتكاسية. وعماد هذه الرؤية الضيقة هو الهيمنة على مقاليد الحكم بطريقة حرمان فئات أخرى من الشعب العراقي من ممارسة حقها في نقد السلوك المتخلف لمفهوم التضحية الوطنية.- وقد شاهدت بنفسي في أحدى زياراتي لمدينة البصرة أفواجا من مرتدي العمة البيضاء والسوداء وهم يسيرون في الشوارع الأمر الذي يستدعي وقفة متأملة من اي مدرسة دينية تخرج كل هولاء؟.أن سلطة الشارع التي باتت اليوم مهمة في تفكير رجل الدين هي الأكثر حضورا في الهيمنة على الناس، كانت سيطرة صدام حسين على الشارع تتم بالاكثار من رجال الامن والمخابرات حتى مزق نسيج الاسرة الواحدة،وكان يعتقد أن السيطرة على الشارع هي الخطوة المهمة في السيطرة على افكار وتصورات المجتمع،وجاء بعد التغيير من يفكر بالسيطرة على الشارع بالمفخخات والبنادق وهوتصور قاصر أيضا على فهم جدلية التراجيديا العراقية الحديثة، ثم جاء رجل الدين العراقي الشيعي والسني ليهيمنا على الشارع العراقي بحضوره الملفت للنظر وكأنه يرى نفسه في مرآة زمنه هو فقط، دون أن يرى أن المرآة تتسع لترية مشاهد ماضية خسرت الشارع لانها لا ترى فيه إلا حركتها. في حين ان فرحا حقيقيا احسسنا به عندما نزل رجل الدين المتنور في بداية التغيير إلى الساحة، وهو يعيد علينا تلاوة أفضل آيات التقدم بوعود وتجارب وفهم معاصرين، حتى وجدنا أن مرجعا مهما في تاريخ العراق وهو السيد علي السيستاني قبل ان تستغل تصريحاته استغلالا لا يليق بمرجعيتة، يبادر ببيانات كثيرة إلى وأد الطائفية وتحريم دم المسلم ويقابله من الطرف السني دعوات مماثلة. في حين إن عقلية رجل الدين العراقي الحاكم والسياسي الآن، تكشف عن فقر ثقافي في فهمه لآليات تطورالمجتمع العراقي ، بل وتجعل العراق قابعا في قبو زمني لا يرى حركة التاريخ إلا تراجيديا تتكرر كظل على حائط يمر من أمامه الناس كما يقول أفلاطون. وها نحن نرى فصولها الأكثر مأساوية عندما اخترقت جماعات تكفيرية وعدد من دول الجوار، بفعل قصور نظرة الإسلام السياسي لمبدأ التضحية لنسيج اللحمة العراقية لتغذي عنصرية دفينة في التركيبة الاجتماعية للعشائروالاقوام المختلفة باسم الاستشهاد والتضحية، فحولت العراق إلى ساحة حرب معلنة ولكن بايدي أبنائه.هذه هي المفارقة التي تغذيها دول وتوجهات غيرعراقية لقراءة مفهوم التضحية دينيا وأخلاقيا عندما جعلت منها مادة لتكوين مليشيات وجيوش وطوائف ومراكز قوى وجماعات، لا لتقوي فكرة ثورة الإصلاح التي نادى الحسين" ع" بها، بل لتجعل من الناس حطبا لحروب مستأجرة، كما هو الحاصل في العراق والصومال والسودان وافغانستان وباكستان، حروب بالنيابة عن دول تتصارع على ثروات بلداننا. إننا نعيش عصر تراجيديا سوداء طرافاها اثنان: الطرف الأول هو رجل الدين السايسي الذي يتمرأى يوميا بدماء الناس وهي تسيل لتعبد لهه الطريق للصعود إلى الحكم والاستغلال،والطرف الثاني التمذهب الديني السلفي الذي نهض من جديد ليعيد العراق بعد تحولاته إلى العيش في القبو الزمني المظلم. فاي تراجيديا هذه التي يرسمها ويمثلها هؤلاء العاجزون عن رؤية ما يجري في العراق لمجرد أنهم يؤلفون مليشيات تقتات على دماء الشعب ولتحول أخضرالعراق الجميل إلى صحراء روحية قاحلة إلا من حكاية مملة تتكرر على ألسنتهم. قراءة لاستدرارالدموع وولائم الهريسة واقامة التشابيه والتعازي وتكرارالحكاية القديمة نفسها،وضرب الدربش والنداء بالله حي فقط؟ لقد جمدوا القراءة المنفتحة لمفهوم التراجيديا في الديانات وجعلوها تعويذة ملفوفة بقطعة قماش فارسية وعربية،لاتحل عقدها إلا تحت تأثير استحضارالملائكة والشياطين والتكفيرين المفخخين.
إن قراءة تراجيديا كربلاء مثلا، وبروح معاصرة، وبعيدة عن الطائفية ورؤيتها الضيقة، يجدها كما أنصفها رجالات العلم والثقافة بدراسات مهمة؛ أنها ثورة للإصلاح السياسي والفكري والثقافي والاجتماعي والأخلاقي والقانوني، ثورة حدثت عندما وصلت حال الدولة الاسلامية على عهد بني أمية إلى الحضيض.هل يقرأ رجل الدين السياسي المعاني الكبيرة التي تقف وراء ثورة الحسين"ع" التي حدثت في العراق دون غيره؟اشك انهم يقرأونها خارج سياق تحويلها إلى تعاز ودموع وتطبير ومراثي شعرية بائسة واستدرار العطف وتكرار الحدث وروايته بطريقة مملة.الأمر الذي يستدعي تضحية أخرى وباسم الدين نفسه من قبل قوى ظلامية متخلفة تقتل الشيعة بالنيابة عن فئات تقتات على تدمير العراق.الحقيقة أن الحسين "ع" بثورته أراد تحديث الأمة عن طريق " الإصلاح" وهي المفردة التي كررها في خطبته وهو يواجه الأعداء، ومفردة الاصلاح تعني الطريق الوسطى التي يمكن أن تكون محورا للحوار وتبادل الآراء، وتعني كذلك البقاء ضمن سياق الدين الإسلامي..هذا هو جوهر ثورة التضحية التي قتل بها الحسين. وجعلها بداية لتراجيديا صراع الإسلام ضد الظلم، ولذا لم تكن ثورته معزولة عن تراثها الحضاري، ولا عن عمقها العراقي، فهي ليست تراجيديا مناسبات نتلوها باوقات محددة وشهر معين نلبس به السواد، أنها الثورة التي يجب أن تدرس وفق تطورات مفاهيم جديدة تقوم على الحق والعمل والتضحية،لا على التردد والسكون والديباجة بوريقات صفر تتداولها ايد الزوار دون قراءة. لانريد من أي أحد ان يقرأ تراجيديا كربلاء ناقصة، دون أن تكون قراءتها كشفا عن تاريخها والظروف التي حدثت فيها والسياسة التي ارتضها واجهة لها، هي ثورة متقدمة، ووجود إنساني صرف. ثم من قال ان هذه التراجيديا خاصة بالشيعة دون المسلمين كلهم، وخاصة بالعراق دون دول العالم، وخاصة بمدينة كربلاء دون مدن العراق، وخاصة بالملالي دون عامة الشعب؟. هل كان الحسين شيعيا أم سنيا وفق مقاييس ذاك الزمان؟. أسئلة منفتحة على التجربة العراقية التي ستنهض بالتأكيد ولكن خارج سياق مفهوم التضحية المجانية التي يقودها رجل الدين ليقنع بها المئات من أنهم مشاريع استشهاد في ادامة العنف حتى لو كان في ساحات الأضرحة المقدسة وبيوتات العبادة.لذا تقع علينا نحن التقدميين طريقة تفهم تراثنا بعد ان غُيب باسم الرؤية المقمطة للتراث، ووحدنا نستطيع أن نكشف عن أعماق هذه التراجيديا التي اسست الكثير من طرق فهم النضال والتضحية خارج سياقها العادي.

5
ما دفعني إلى معالجة تراجيديا التضحية وهي القضية الجوهرية في وجدان الإنسان العراقي باقتضاب هو قصور التيارات العلمانية ومن ضمنها التيار الماركسي العراقي، عندما ترك لرجل الدين السياسي والشعبي وغير المثقف، أن يقرأ تراجيديا كربلاء عوضا عنه، ليجيرها لصالح أغراض بعيدة عن جوهرها الإصلاحي الثوري الذي عزلها عن سياق الصراع بين قوى تحديثية ارادت بالاسلام أن يكون طاقة تجديدية، وقوى تريده ان يكون محجما ببيوتات وأرث وأموال ووجاهات. القراءة التاريخية الجدلية للثورات العربية الإسلامية احدى سبل تحديث خطاب الحداثة في العراق. لقد قرأ الفكر الماركسي ثورات الأسلام التقدمية تلك التي قامت من أجل الفقراء والبسطاء والمحتاجين قراءة جدلية فاستخلص منها القيم النضالية التي من الممكن استثمارها.في حين تولى الروزخونية قراءة ثورة الحسين العظيمة على عامة الناس نيابة عن القراءة التقدمية فجعلوها قراءة تعزية وندب وبكاء وحولوها إلى قضية ثانوية. على الماركسيين أن يقرأوا هذا التراث العظيم فهو ملكهم، ملك تصوراتهم الثورية والتقدمية، ملك الحقيقة الإنسانية والعدالة والديمقراطية التي ينشدونها،،لان تحديث المجتمعات لا تسير على كتف واحدة،هذه الجدلية تتطلب حوارا بين أطراف تبني وحدة جدلية جديدة، وعلى رجل الدين السايسي ان يدرك أن فهما اكثر واقعية لتراجيديا التضحية ودون مغالاة هو أن يجعل من ثورة الإصلاح، مفهوما ترميميا للدولة، وليس تبديلا أو إلغاءا لها، وهو اقل ما يمكن فعله في مثل ظروفنا الحالية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تأييد حكم حبس راشد الغنوشي زعيم الإخوان في تونس 3 سنوات


.. محل نقاش | محطات مهمة في حياة شيخ الإسلام ابن تيمية.. تعرف ع




.. مقتل مسؤول الجماعية الإسلامية شرحبيل السيد في غارة إسرائيلية


.. دار الإفتاء الليبية يصدر فتوى -للجهاد ضد فاغنر- في ليبيا




.. 161-Al-Baqarah