الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الفلسفة المثاليّة , شاعريَّة اللغة ووحدة الوجود

علي حسين يوسف
(Ali Huseein Yousif)

2022 / 4 / 4
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


ما يميِّز الفلسفة المثاليّة من جهة صياغتها لغتها الشّاعريّة الواضحة وأسلوبها الأدبيّ واستعاراتها المتخيَّلة أمّا ميزتها الفلسفية فقد تمثّلت بقولها بوحدة الوجود أو على الأقل اقترابها من هذه الفكرة , وقد كانت تلك الميزات من أسباب انتشارها بين النّاس , وسأقتصر على توصيفات أهم تلك الفلسفات مركّزاً على مثاليّة القرن التّاسع عشر وما بعده لا سيما الفلسفة الألمانية لجمالياتها الظاهرة على الرّغم من أننا قد لا نتفق مع عدد من مضامينها الفكريّة .
قبل كلّ شيء يمكن القول أنَّ الفلسفة المثاليّة في هذا القرن مدينة لـ (كانت ت1804) بشكل كبير لا سيَّما في مقولته (الشّيء في ذاته) على الرّغم من أنَّ كانت نفسه كان قد حذَّر من إطلاق العنان للتفكير في ( الشّيء بذاته ) أو (النّومين ) لكن الإغراء الذي تضمنته هذه الفكرة دفعت من جاء بعده من الفلاسفة (فخته وشيلنج وهيجل وفخنر وليتزه) بأن يتناولوا ( الثمرة المحظورة ) على رأي وولف .
لكن ماهو الشيء في ذاته ؟ لمعرفة الشيء في ذاته لابدَّ من استعراض بسيط لفلسفة كانت لكي نفهم كيف تصرف بها من جاء بعده من الفلاسفة بين مؤيد ومعارض لها .
يرى كانت إنَّ للعقل حدودا لا يمكن له أن يتجاوزها فهناك مسائل خارجة عن قدرته لا يمكن البرهنة على وجودها أو عدمها وعلى هذا الأساس كتب عمانؤيل كانت كتابه (نقد العقل المحض أو الخالص) أوضح فيه أنَّه لا يمكن للميتافيزيقيا – مثلا- أن تكون بمصاف الرياضيات من ناحية القوة واليقين ، لأنَّ طبيعة كلَّ منهما مختلفة عن الأخرى فقضايا الميتافيزيقيا لا تشبه قضايا الرياضيّات لأنَّ أحكام الرياضيات تركيبيّة قبليّة وهي تحصيل حاصل فهي بديهيّة وقطعيّة ولا تأتي بجديد غير معروف سابقا , فلا خلاف في 2+3=5 ولا حاجة للتجربة لإثبات تلك النتيجة .
كذلك لا تشبه مسائل الميتافيزيقيا أحكام علوم الطبيعة التي تأتي بنتيجة جديدة لا يعرفها العقل لكن بعد التجربة والتي أسماها كانت الأحكام التحليلية مثل الحكم بأنَّ ذرة هيدروجين مع ذرتي أوكسجين يولدان ذرة ماء أو إن الحديد يتمدد بالحرارة , فهذه الأحكام لا نتوصل لها ما لم نقم بتجارب لإثباتها .
إذا ليس هناك مشكلة في اثبات هذين النوعين من الأحكام لبداهة النوع الأول وتجريبيَّة النوع الثاني لكنَّ السؤال الملح : ما السبب الذي جعل القضايا الميتافيزيقيَّة والغيبيَّة لا تشبه هذين النوعين هذه الأحكام ولا تتمتع بقوتهما ؟.
لطالما تمنى كانت أن تكون قضايا الميتافيزيقيا شبيهة بتلك الأحكام ، وبعد جولة تحليلية مظنية درس من خلالها كانت عمل العقل ليتعرف آليات اشتغاله بوصفه هو الذي يفكر في هذه المسائل وهو الذي يولدها ويحكم بصحتها أو عدم صحتها وجد أن العقل يتمتع بقدرة على انتاج مفاهيم(قوالب) محددة تساعده على تفسير العالم الخارجي وادراكه وتضفي على الأشياء صورها مثل المفاهيم الرياضية والطبيعية كمفهوم الزمان والمكان والوحدة والكثرة , لكنه لا يستطيع انتاج هذه المفاهيم بدون التجربة وعليه فإن هذه المفاهيم تمثل نتاج العقل والتجربة معا ، أما قضايا الميتافيزيقيا فلا هي بالبديهية ولا تخضع للتجربة , فهي تسمو على التجربة مثل مفاهيم : الله والنفس والروح ودليل خروجها على التجربة وعدم خضوعها لها هو عدم القدرة على نفيها أو اثباتها لأن براهين نفيها تتمتع بالقوة نفسها التي تتمتع بها براهين اثباتها فيمكن أن ننفي أي واحدة منها ونثبته بالقوة نفسها , فهي قضايا متناقضة وخلافية , ومع ذلك فإن العقل يتصورها وينتجها ولا يستطيع أن يتخلص منها لذلك يجب الإبقاء عليها وحسم الجدل حولها بالإيمان بها لسبب بسيط وهو أن هذه المفاهيم تنشأ لتؤدي حاجات نفعية لنا إذ أن شوقا دفينا يدفعنا للمعرفة المطلقة وللتمسك بهذه المفاهيم لأسباب عملية وأخلاقية .
ومما تقدم يعني أن العقل هو الذي يطبع الأشياء الخارجية بطابعه وهنا نقترب مما ذهب إليه أصحاب مذهب ( الأنا وحدي ) .
وعليه فإنه من الخطأ أن نتصور بأن معرفتنا بالأشياء الخارجية تعكس حقيقة تلك الأشياء فمن المستحيل أن نعرف ( الشيء في ذاته ) فلا يمكن التوصل لمعرفته لأن طبيعة العقل نفسها غير مؤهلة لذلك , فكل ما نستطيع معرفته هو المظاهر الخارجية للأشياء ، وبذلك أصبحت مسألة حدود العقل رياضية بامتياز ؛ وقد برهنت تجارب كورت غودل على وجود هذه الحدود ؛ فالعقل لا يمكن أن يحيط بكل شيء ، ذلك لأن العقل هو نفسه هذا الكل ، فكيف بالجزء أن يحيط بالكل ! كما أنه لا يمكن للعقل أن يبرهن على نفسه ، لأنه لكي يبرهن على نفسه ، فإنه يحتاج إلى عقل فوقه له وسائل أقوى ؛ وإذا أردنا أن نبرهن على العقل الثاني نحتاج إلى عقل من فوقه ، وهكذا دواليك في تسلسل لا ينتهي ؛ وأما إذا سلكنا طريق البرهان على العقل بوسائل من رتبته ، فإننا نقع في الدور ؛ وبإيجاز ، وبحسب تعبير طه عبد الرحمن فإن للعقل حدوده التي لا يمكن أن تتجاوز وهي مبرهنة عليها رياضيا ببراهين طويلة ومعقدة وليست في متناول غير الرياضيين رغم أن البعض يحاول ذلك ولكن بلغة أخرى غير رياضية ، إما بلغة عقدية أو فقهية باعتبار أن العقل لا يصل إلى معرفة العالم الغيبي ، أو بلغة روحية أو صوفية باعتبار أن للعقل أطواره التي لا يمكن أن يتجاوزها ، أو بلغة فيزيائية أو طبيعية باعتبار أن العقل لا ينظر إلا في عالم الظواهر ؛ أما ما سوی هذا العالم الظاهر ، فهو غير قادر عليه ، لأنه يقع خارج حدوده .
وبالعودة إلى فلاسفة القرن التاسع عشر يمكن القول إن أول من أغرتهم فكرة (الشّيء في ذاته) كان فخته أو فشته ( ت 1814 م) وهو ابن فلاح من أهل سكسونيا فقد اعترف هو بنفسه بتأثر بكانت حتى قال في رسالة كتبها لأحد أصدقائه لقد أسلمت نفسي كلها لدراسة كانت إذ إن فلسفته تروّض الخيال وتكبح جنوحه عندي .
بحسب فخته فإنَّ الوعي حتّى يكون وعيا يتطلب وعيا يعيه لذلك أقرَّ فخته بوجود (أنا ولا أنا) والأنا تولد اللا أنا لأجل أن تعرف نفسها وأنَّ كلّ شيء حتّى الشّيء بذاته هو من نتاج (الأنا) أو العقل أو الوعي , فالتّجربة والمدركات كلّها لا صورتها وحدها تتولد من هذه (الأنا) التّي تشترك فيها النّفوس الفرديّة , وهذه (الأنا المطلقة) تقسّم نفسها الى (عارف ومعروف أو عالم ومعلوم) ، لأن النّمو الخلقي للأنا يقتضي وجود عقبات تتخطها بجهد خلقي , ولهذه الأسباب يجب أنَّ تقسم (الأنا المطلقة) الى نفوس كثيرة ، وإلّا تعذر سنوح الفرصة لممارسة الواجبات المتبادلة وهذه النّفوس الكثيرة كلّها مظاهر تفصح عن النّظام الخلقي العام الذي يتمثل في الأنا المطلقة أو الله ، وفخته لا يعترِف بوجود شيءٍ موضوعي وجودًا حقيقيًّا ، فالطبيعة عندَه هي تلك اللاذات التي تنشأ لكي تتغلَّب عليها الذات ، ومعنى ذلك أنه لا يرى الأشياء أغراضًا في ذاتها، ولكنها وسائل فقط تُمكِّن الإنسان من تحقيق الغاية الأخلاقية من وجوده .
خلاصة ما تقدم : إن الوعي ليس ناتجا عن الاحساس بشيء في الخارج ، لأن هذه الاحساسات من إنتاج الوعي هي الاخرى فالذات تضيف للإحساس طابعها الخاص وبذلك تتحول هذه الاحساسات أو الانطباعات الى ذاته ، كالألوان والاضواء والاصوات , فالإحساسات تمثل نتاج الوعي وصناعته , وهنا نجد فيشته قد اعترف بوجود عالم خارجي (خارج الأنا) إلا أنه تحاشى ذكره إلا بعد تصنيعه ومروره من خلال الأنا .
أما شلنج (ت1854 ) هذا الفيلسوف الشاعر فقد صاغ فلسفته بلغة عاشق يتعبد في محراب الوجود على الرغم من أنه كان قريبا من أفكار كانت في محاولته تخليص حقيقة العالم الطبيعي من النّزعة الخياليّة التّي ترى بأنَّ العالم مجرد مظاهر أو أفكار ، إلا أنه ذهب إلى القول أنَّ جمال العالم المادي يمكن أنَّ يكون مبرراً كافياً لحقيقة وجوده ، وهو دلالة كافيّة أيضاً على (المطلق ) كما يدل عليه العقل , ومعنى هذا القول أنَّ المطلق ليس هو العقل ولا هو المادة وإن يكن يظهر نفسه فيها كليها ؛ إنّه (الشّيء بذاته) الذي لا يُعلم ما هو فهو ليس في متناول التّجربة .
ويمكن أن تفسر فلسفة شيلنج بأنها من فلسفات وحدة الوجود فالذي يتبادر منها أن الرجل أقر بوجود الطبيعة لكنه وحدها مع العقل ليكونا وحدة مشتركة هي الله , فالله عنده هو الطبيعة والعقل معا مندمجين في كلّ واحد .
أما هيجل ( ت ۱۸۳۱ ) فقد عارض فكرة الشّيء بذاته الكانتيّة الذي لا يُعلم أو المطلق المجهول , وتقوم فلسفة هيغل على اعتبار الوعي سابقاً للمادة ، وهي الفكرة التي قلبتها الماركسية حين جعلت المادة سابقة على الوعي فهي من تحدد مداركه ، وذهب هيجل الى أنَّ العقل والطبيعة الماديّة هما المطلق بذاته لا مجرد مظاهر أو دلائل تدل عليه , وإن العقل والمادة ليسا حقيقتين متميزتين ولكنهما عنصران تتكون منها عمليّة كشف المطلق عن نفسه , فالعقل بحاجة الى العالم الشّيئي كي يمارس عليه تمرحله على الرّغم من أنَّ هذا العالم الشّيئي في ذاته هو عالم عقلي , فكلّ حقيقي معقول ، وكلّ معقول حقيقي , ولا بدَّ من التّأكيد على أنَّ تطور الحقيقة يسير وفق منطق جدلي ؛ فإن فكرة ما تحدث ( مبحثاً ) فتقوم فكرة أخرى تعارضها ( مبحث مضاد ) ثم يتضح أنَّ الفكرة الأخرى غير ملائمة أيضا ، فتقوم فكرة ثالثة لكي تحدث انسجاماً بين ما هو صحيح في الفكرتين الأوليين ( نتيجة مركبة ) , وللتمثيل على ذلك نأخذ فكرة (الصيرورة) فهي فكرة مركَّبة من فكرة الوجود وفكرة عدم الوجود , ويرى هيجل أنَّ العالم يتألف من أمثلة هذه المركبات .
رفض هيجل الآراء التي تنظر إلى الأشياء بعزلها عن بعضها البعض فقد آمن قبل كل شيء بترابط أشياء الوجود وترابط حوادثه وآمن بحركية الوجود فالوجود بكل جزئياته لا ينفك متحركاً ومتغيرا (متناقضاً) وفق ثلاثية جدلية حتى يصل إلى الفن والدين والفلسفة ، التي هي الأشكال العليا لوعي الــروح لذاتها .
وقد كان تصور هيجل لسير الحقيقة بهذا الشّكل المنطقي المعقول مدعاةً لدراسة التّاريخ العالمي والنّظر إليه على أنّه قد يسهم في كشف أسرار الحقيقة أو القصة الالهيّة ثم أنَّ شعار هيجل (كلّ معقول حقيقي) دفع عدد من اليساريين أنَّ يتخذوه شعارا لفلسفاتهم وإلا كان غير حقيقي , وقد قابلهم آخرون يمينيون تمسكوا بالنّصف الآخر من المقولة الهيجيليّة (كلّ حقيقي معقول) أي ما هو كائن فهو الصواب .
أما فخنر ( ت ۱۸۸۷ ) فقد اعتبر العالم جمعيه من الأرواح ، والله هو الرّوح الأعلى الذي يحتويها جميعاً , والأرواح في داخلها معنويّة ولكنها في الخارج تتراءى على صور أجسام ماديّة ، وكما أنَّ صغار الأجسام تندمج فيما هو أكبر منها ، وكل الأجسام داخلة في نطاق الكون الطبيعي ، فكذلك تدخل بعض الأرواح ضمن غيرها ، وروح الله تشمل كل الأرواح , والحياة والوعى لا ينبعثـان من الممات والغيبوبة ، بل الأرجح أنَّ هاتين صورتان منحطتان للآخرين نتيجة حركة ذاتيّة ثانويّة .
أما ليتزه ( ت ۱۸۸۱ ) فكانت فلسفته مثاليّة حلوليّة , فالحقيقة المطلقة عنده مادة عقليّة خالصة ، أما الظواهر الماديّة فهي صور تحدثها الأرواح أو الذرات الرّوحيّة ( كما قرر ليبنتز من قبل ) , ولكنَّ ليتزه يرى أنَّ هذه الأرواح أو الذرات الرّوحيّة على عكس مارآها ليبنتز) لیست مواد مستقلّة ولكنّها صور أو حالات لله وهو المادة اللانهائيّة الوحيدة , والظواهر الميكانيكيّة هي مظاهر ناتجة عن القوانين المنظمة التّي يسير الله بها هذه الحركات الكامنة التّي تتجه لغايات الهيّة
ويمكن أنَّ ندرج مع من تقدم من الفلاسفة شوبنهور وهارتمان ونيتشه ووندت على الرّغم من أنَّ فلسفات هؤلاء الأربعة كانت تصب كلها في فكرة الإرادة وهنا يقابل هؤلاء الفلاسفة المثاليين الذين اعتبروا الحقيقة المطلقة هي الفكر أو العقل ، لكن المتأمل يجد أنَّ فكرة الإرادة لم تكن جديدة فقد جعل ديكارت (ت 1650) من قبل المكانة الأولى للإرادة ، كما شجع كانت النّزعة الإراديّة حين قرر أنَّ الحقائق العليا من المستلزمات الخلقيّة أو العمليّة .
وقد اعتبر شوبنهور (ت 1860 ) الحقيقة المطلقة هي إرادة عامة لاعقل لها , وذهب الى أنّه ليس ثمت أشياء فرديّة أو إرادة فرديّة , فالفرديّة مجرد وهم لأنها قائمة على فروق الزمان والمكان التّي أظهر كانت أنها مجرد صور تظهر فيها الأشياء بذاتها وليست بعناصر لهـا , وزيادة على هذا فأن الإرادة شر في أساسها ولا يمكن أنَّ تروى غلتها أبداً , وما الحياة الا مباءة لمطامح لا تقنع , وإن أفضل السبل أنَّ يخترق الإنسان حجب الوهم الفردي ويرى عقم مطلب الإشباع ويعتبر الحيـاة كأنها قطعة من الفن , وهكذا انتهت فلسفة شوبنهور التّشاؤميّة به الى نوع من إنكار الذات البوذي .
وقد ارتقی هارتمان ( ت ١٩٠٦ ) بفلسفة شوبنهور الإراديّة والتّشاؤميّة (الى فلسفة غير الواعي ) , فبينا اعتبر شوبنهور العرض ( أو المعرفة ) مجرد آلة للإرادة ، وضعهما هارتمان على قدم المساواة ويرى أنهما معاً يؤلفان (المطلق ) الذي لا وعي له ، والذي ينفصل تدريجياً إليهما ويصير واعيا ويدرك مأساة الرّغبة في الحياة ، ويجعل هارتمان الإثنين ( الإرادة والعرض أو المعرفة ) يتعارضان ( كما في حالة الانهماك في بعض المطالب العقليّة كمباحث العلوم مثلاً ) قد يصل الحال الى انعدامهما وبذلك تنتهى شرور الوجود , وبهذه الطريقة يسترد الإنسان إلهه غير الواعى .
أما نيتشه (ت 1900 ) فقد ركّب فلسفته من فلسفتي كانت وشوبنهور ونظريّة دارون التّطوريّة ؛ فاستنتج من نظريّة كانت عن المعرفة أنه ليس ثمت شيء اسمه المعرفة ، وأن كل ما هنالك ضرب من الخرافة والخيال ، والحقيقة لا تكتشف بل تُخلق أو تخترع ؛ نعم أنَّ العقائد ليست سواء كلها ، ولكن التّمييز الصحيح بينها هو بين ما هو نافع منهـا وما هو غير نافع لا بين ما هو صادق وما هو كاذب , وكان شأنه كشأن شوبنهور إذ اعتبر أنَّ الحقيقة المطلقة هي الإرادة ؛ ولكنه قال بأنها إرادة القوة لا مجرد إرادة المعيشـة ( فحب القوة هو شيطان الجنس البشرى ) . وكان نيتشه کشوبنهور يری الدنيا بمنظار أسود ، ولكنه بدل أنَّ يدعو الى استسلام بوذي بشّر برسالة المعيشة النّشيطة المخاطرة , فالحياة نوع من الرّوايات الإغريقيّة التّي يظهر فيها البطل كل بأسه ولتنازع البقاء الفضل في أنَّ يرفع الأرقى الى القمة وقد تطلع نيتشه الى الأمام مترقباً ظهور السوبرمان ( الإنسان الممتاز ) نتيجة لتنازع البقاء , وسيفضـل السوبرمان النّوع الحي من الجنس البشري بأكثر مما يفضل رجل الوقت الحاضر النّسناس .
وكذلك اعتبر وندت (ت ۱۹۲۱ ) أنَّ الحقيقة الأساسيّة هي الإرادة ، ولكنها إرادة لا تنفصل عن الشّعور والآراء تمام الانفصال , وهناك مرتبتان للإرادة : إرادة جبريّة وإرادة اختياريّة ، وحتَّى الإرادة الجبريّة تقتضى شعوراً موجهاً نحو غايّة ، وتبعاً لهـذا تقتضى فكرة ، ولكنَّها غير الحالة في الارادة الاختياريّة التّي يكون فيها اختيار الباعث عن وعي وإدراك , ولما كانت الكائنات لديها إرادة جبريّة كان التّطور العضوي نتيجة حكمة الهيّة ، وهذه الحكمة قد أوجدت نظما آليّة تحقق بها أغراضها الذاتيّة , وقد اعتبر وندت الإرادة وكل نوع من الفاعليّة شيئاً واحداً وإذن فلا يعتبر الانتباه وحده إرادة ؛ بل التّفكير نفسه كذلك , وأدى هذا الى مذهب ويليام جيمس ( إرادة الاعتقاد ) , ووندت مثل كانت يرى المعرفة البشريّة قاصرة على ما يقع في دائرة اختبارها ، وكلما حاول العقل تجاوز الاختبار لا يصل الا الى مثال للاعتقاد ، والله أحد هذه المثل فهو إرادة الكون .
ويمكن أن نضيف إلى الفلاسفة المتقدمين صموئيل ألكسندر (ت 1938) هذا الفيلسوف البريطاني الذي استوعب علوم عصره فكانت فلسفته مزيجا من التأمل العميق والنظرات العلمية المستندة إلى نسبية آنشتاين , فالزمان عنده روح المكان والفكر ينبثق من المادة ويتجه نحو الألوهية التي هي ليس الله الخالق إنما هي السعي نحو الكمال الإلهي وبذلك لا يمكن للفكر أن يرتد إلى المادة ثانية لأن سمته الأساس هي السعي نحو الاكتمال .
أما برجسون (1941) فقد سمي مذهب (الحدس) فقد أكد على أن أداة الفكر والمعرفة الحقة هو (اللقانة) أو الحدس ، وأن الدماغ ليس مخزن أفكار وإنما هو أداة للعادة ، والفلسفة محاولتنا الوحيدة للإمساك بالحقيقة عن طريق الحدس فهي الطريق الصحيح لذلك ، ونجد في كتابه (التطور الخلاق) تأكيدا على أن التطور كامن في الجمادات والنبات وفي نفوس الأفراد جميعا فقد جهزتهم الطبيعة بالاندفاعات والغرائز والعواطف اللازمة لذلك ويسميها بـ (السورة الحيوية) التي تعد من صميم الحياة بل هي الطابع الأساس للوجود وبذلك عول برجسون كثيرا على الحدس على حساب العقل فالعالم هو الحب عنده .
وكان الفريد نورث وايتهد (ت 1947) قريبا من صموئيل الكسندر في الفكر والموطن وكان هو الآخر قد استوعب العلوم المعاصر وأفاد منها في صياغة فلسفته التي مرت بأكثر من مرحلة حتى انتهى إلى تأمل صوفي إذ وجد هوايتهد أن الله هو الدافع الفعلي للتطور الخلاق الذي يولد كل ما عدها بما في ذلك العالم الذي يفصح عن جماليات الفعل التطوري لله ذاته ومع هذا فإن الله ليس امكانية فقط أو إرادة غير موجهة بكسر الجيم إنما هو ذلك الفعل الذي يتجه نحو الكمال قاصدا ذلك بل هذه هي سمته التي نتحسسها عندما نتأمله والحياة هي ذلك الاستبطان الذي نتأمل فيه هذا التطور الإبداعي للوجود , إذ إن لا الطبيعة ولا الحياة يستطاع فهمهما ما لم ندمج أحدهما في الآخر، كعاملين جوهريين في تأليف الأشياء الحقيقية حقاً، التي يعمل ترابطهما أو خصائصهما الفردية على بناء الكون بحسب تعبير هوايتهد نفسه .
مصادر :
1ـ عرض تاريخي للفلسفة والعلم , أ.وولف , ترجمة محمد عبد الواحد خلاف (وعلى الرغم من صغر حجمه لكنه كان ملخصا نافعا ودقيقا لتاريخ الفلسفة والعلم ) .
2ـ تاريخ الفلسفة الحديثة , د.يوسف كرم (ويعد هذا الكتاب أهم الكتب العربية في تاريخ الفلسفة وأكثرها قيمة ونفعاً) .
٣ قصة الفلسفة ، ول ديورانت (وهو سرد فلسفي ممتع لأبرز الفلسفات منذ اليونان حتى العصر الحديث ) .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فلسطينيون يرحبون بخطة السداسية العربية لإقامة الدولة الفلسطي


.. الخارجية الأميركية: الرياض مستعدة للتطبيع إذا وافقت إسرائيل




.. بعد توقف قلبه.. فريق طبي ينقذ حياة مصاب في العراق


.. الاتحاد الأوروبي.. مليار يورو لدعم لبنان | #غرفة_الأخبار




.. هل تقف أوروبا أمام حقبة جديدة في العلاقات مع الصين؟