الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الحيوان في الخطاب الفلسفي

رشيد لمهوي

2022 / 4 / 7
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


هناك حقيقة لا يمكن لعقل واع ويقظ أن ينكرها، وهي حقيقة كون الفكر الفلسفي مشدود في كليته إلى توجيه طاقاته الفكرية والتأملية تجاه مفهوم الإنسان. فهو البؤرة والبوتقة التي تنصهر في لبها كل خيوط الأفكار الفلسفية التي تسعى بكل مجهوداتها إلى مقاربته من مختلف الزوايا ومن مختلف المنظورات. فالخطاب الفلسفي هو أساسا خطاب في الإنسان. والتأمل في الصيغة التالية من أنا؟ ومن أين أتيت؟ وإلى أين سأذهب؟ تنكشف بوصفها منطوقا يتساءل عن الإنسان، وعن هويته التي يود أن يقف على حقيقتها. إنه يتساءل عن أصله، بمعنى المكان الذي انبثقت منه كينونته، والتي ما تفتأ تختبر وجودها في العالم. زد على ذلك، إنه يتساءل عن المآل والمصير، بمعنى ما الذي ينتظر الإنسان في الغد، في المستقبل. هل سينبعث من جديد مثل طائر الفينيق الذي انبعث من رماده؟ أم سيلج بوابة العدم المحض؟، ويحكم عليه بالتناهي الكامل وبانتفاء شامل لأبديته التي طالما ترجًاها ووجه يداه الناعمتان إلى وجه السماء طالبا رحمتها وغفرانها عساه أن يكسب قلبها الحنون في إمداده بطبيعة الحال بخلود ممكن وحالم، من حيث هو عالم تختفي منه كل ما يجعل الإنسان شقيا، وتزيل عنه كل صور البؤس والشقاوة؟
إن صيحة عرافة دلفي بعبارة "اعرف نفسك بنفسك"، هي اللحظة الحاسمة التي بموجبها أضحى فيها الإنسان محط اهتمام ملحوظ. حيث تبلورت في شأنه جل الفاعليات الذهنية والفكرية التي تنطوي في عمقها على غاية واحدة وهي تقديم الإجابة المحتملة عن سؤال الإنسان.
لا يمكننا أن نسترسل في الحديث عن المقاربات التي أخذت على عاتقها مسؤولية الإحاطة بمفهوم الإنسان، والتي تتميز في عمومها بالكثرة والتعدد. هذا المفهوم الذي يشمله التعقيد في جميع جوانبه، والمخترق بأبعاد عديدة شكَّل المتن الفلسفي سندها وأساسها المرجعي. هذا المتن الذي يمتد على المستوى التاريخي من أفلاطون وأرسطو إلى الفلسفة المعاصرة. وقد مُنحت لهذا المفهوم تعريفات حاولت أن تجعل منه وحدة لا تقبل التشتت، تريد بقوة أن تصبغ عليه هوية أصلانية تجعله مطابقا لذاته لا يعتريه التغيير ولا التبدل. أحاطته بسور عال، وبجدار سميك من التحديدات حتى لا يتدفق مثل نهر جارف عديم الرَّحمة؛ فحددته على سبيل المثال لا الحصر ككائن عاقل، وكائن صانع، وكائن اقتصادي، وكائن راغب، إلى غير ذلك من التحديدات التي تتاخمه وتحده وتحاصره.
إن المحطات التي مرَّ عبرها الفكر الإنساني هي صيغ جعلت من هذا الذي يسمى الإنسان أفقا لتفكيرها محاولة فهمه، ووضع خريطة لطرقه الملتوية مثل متاهة حتى لا تزيغ عن الطريق الاصوب. إنه مسعى حثيث لإدراك دلالات سلوكه وتصرفاته، بمعنى إيجاد الخيط الناظم الذي بموجبه يتشكل هذا السلوك ويتناضد هذا التصرف. محاولة معرفة البدايات الجنينية الأولى التي انفتحت عيناه فيها، إلى أي مكان تنتمي أيها الإنسان؟ وأي أصل تخفيه أيها الإنسان؟ معرفة أنماط عيشه والطريقة التي يتعامل بها مع أشباهه؛ هل هو كائن ميال إلى التوحد أو يميل إلى الانخراط والانصهار في جماعات بشرية؟ أم هو على النقيض من ذلك كائن منطو على ذاته، يحبذ العيش منعزلا عن الآخرين؟ هل كان كائنا يحمل بين جوارحه عدوانية مقيتة ومميتة أم كان مسالما عاشقا للطبيعة وراضخا لقوانينها الجبرية؟ هل ما ينطوي عليه من نوازع وطبائع وسلوكيات متأصلة ومتجذرة فيه ويستعصي عليه اقتلاعها من جذورها، بمعنى طبيعته الطابعة؟ أم مجرد سلوكيات اكتسبها من خلال احتكاكه بمحيطه الطبيعي، الخارجي، ومن خلال التجارب التي يخوضها كل يوم والتي تراكمت عبر آلاف السنين؟
ما يمكن تسجيله أيها القارئ العزيز هو أن مقاربة الوجود الإنساني لن تتم مطلقا دون العودة الجبرية إلى الحيوان؛ هي ذي النقطة التي تتلاقى في مركزها خطابات الفلاسفة. ستشعر الفلسفة والحالة هاته باليتم والغبن والحرمان والفقدان والتيه عندما يكون مفهوم الحيوان غائبا، منفيا في ديار ما تبقى منها سوى ملامح الأطلال والخراب الحزينة، ديار غير آهلة بالسكان، ديار هجرتها الأقدام للأبد.
في القرن الثامن عشر انصب اهتمام علوم الإنسان بمسألة الأصل؛ إنها تحاول التنقيب الأركيولوجي عن منابع هذا الأصل، في أي تربة يرقد؟ وفي أي مكان يتستر؟ تحاول البحث عن أصل الإنسان، وأصل اللغة والمعرفة والاعتقاد وهلم جرا. هذا الشغف المؤله بالأصل لا يستقيم عوده ويتصلب دون أن نضع مفهوم الحيوان في الحسبان. إنه السند الثابت الذي لا يتزحزح، والذي يجعل من منطوق الخطاب الفلسفي خطابا منطقيا ينطوي في عمقه على المعقولية. فالفيلسوف أثناء بنائه لهرمه الفلسفي لا ينفك ينفلت من هذه القاعدة، بمعنى أثناء محاولاته الدؤوبة في رصد إجابات لإشكالات يرتهن إليها الوجود الإنساني في كليته يحاول وليس عن طيب خاطر إلى أن يضع إلى حد ما مفهوم الحيوان مفهوما مركزيا بما هو معقلا أصلانيا يبيح لنا فك بعض الطلاسم التي تلف كينونتنا. والفيلسوف وحده من ينفرد بامتياز السفر في الزمان التاريخي والوقوف على الحالة الأصلية للأشياء والكلمات. هي ذي العيون التي لا تنام، فالبحث المضني قد قضَّ مضجعها، ولن تزيغ الطريق أو تضل أو تستسلم دون جلب الأمل المفقود والعثور على بصيص أمل مطمور طالما راود أحلام يقظتها!
إن التفكير في مسألة التفاوت بين الناس على سبيل المثال هو صيغة أخرى للتفكير والتساؤل عن أصل هذا التفاوت الدفين. وهي المسألة التي دفعت بالفيلسوف الفرنسي جون جاك روسو إلى تأليف عمله الذي يحمل عنوان خطاب في أصل التفاوت وفي أسسه بين البشر. وسياق تأليف هذا العمل الفكري الرصين والأخاذ بسحر عباراته أن في شهر تشرين الثاني/ نوفمبر 1753 نشرت Mercure France سؤال المناظرة الذي بسطته أكاديمية ديجون على عموم الأدباء والكتاب: ما أصل التفاوت بين البشر وهل يجيزه الناموس الطبيعي؟ ألهب هذا السؤال فتيل مخيلته التي لا تحدها تخوم، أنزل عليه مثل الصاعقة فجرت كل أفكاره التي كانت تتحين الفرصة للبروز والظهور. ما أجبره على أن يهيم في متاهات إحدى الغابات عساه أن تتفتق قريحته أو يمر أمام أعينه شريط الحياة الإنسانية من بداياتها الأولى، ويقف على نواتها الصلبة، ويتخيل حينها الحالة البدائية التي كان البشر يدبرون فيها وجودهم والكيفية التي على هديها يسلكون ويتصرفون.
ما عساها أن تكون هذه الحالة الطبيعية أو الطور الطبيعي عند روسو سوى نموذج نظري سالب، إبستيمي خالص، عمل على توظيفه توظيفا افتراضيا شرطيا كمحاولة لتفسير الطور المدني. ومآل البشر في هذا الطور الأخير يبرز في ثناياه عدوى التفاوت التي باتت تعم الأرجاء وتحط فيها الرحال وتسري في كل عروقها وتدب. حيث اعتبر أن سوء التنشئة الاجتماعية، الملكية الخاصة والتفاوت المستقران بالاصطناع جعلت الإنسان ينحدر إلى الحضيض والدونية، وتتردى أحواله وتتقهقر قابعا في أدنى سلم، لدرجة يقع فيها أسفل من الحيوانية. لذلك، تمثل الحالة الطبيعية الحالة المثلى والفضلى من الحالة المدنية.
"والحال، أنه لأمر مضاد للناموس الطبيعي، أيا كانت طريقتنا في تعريف هذا الناموس، أن نرى صبيا يسوس شيخا هرما، وغبيا يقود إنسانا حكيما، وحفنة من الناس تغص من وفرة الزوائد في حين تفتقر الحشود الجائعة لما هو ضروري".1
هاهو ذا الإنسان المتمدن يرمي بسلاحه مستسلما لتفاوت يعمق جراحه ويعجز الزمن في جعلها ملتئمة. صار إنسانا ينخره الضعف والوهن من رأسه إلى أخمص قدميه، صار مثل ريشة تائهة في السماء تتقاذفها الرياح من كل حدب وصوب. أما الإنسان البربري الهائم في أحضان الطبيعة الدافئة فيرفض القيود والأغلال الفولاذية ويعشق عشقا لا متناهيا نسيم الحرية العليل. ركزوا معي، في سياق هذا القول يستدعي روسو مفهوم الحيوان ليكشف بالملموس مدى الرفض المطلق للإنسان البربري لكل صنوف الصد والمنع، ولكل روح انهزامية. "فكما أنه ما لم يروض من الجياد ينصب عرفه، ويضرب الأرض بسنابكه، وينتفض جامحا لمجرد تقريب اللجام من شدقيه، بينما يعاني الحصان المروض السوط والمهماز صابرا، كذلك هو الإنسان البربري لا يحنو رأسه للنير الذي يحمله الإنسان المتمدن دون تدمر، وهو يفضل الحرية العاصفة على الإذعان الهادئ".2
إنها النوستالجيا العزيزة التي تشد الكائن الإنساني إلى الأيام الخوالي، حيث لم تتسرب إليه بعد مفعولات مالك ومالي المقيتة وغير المرغوب فيها، إنها بمثابة ضيف ثقيل على النفس، فظ وغليظ القلب تنتفض من حوله الجموع. في تلك الأيام الخوالي حيث قوام الإنسان كان شديدا وصلبا لا تلين عريكته، وبنية جسمانية هائلة تهتز لها جنبات الأرض وتخفق لها قلوب البحار والجبال الشامخة والصحاري. وفي اللحظة التي فطم فيها عن ثدي أمه الطبيعة انقلبت دنياه رأسا على عقب، في اللحظة التي فصل فيها عن الطبيعة فقد مزاياه ومعها خسر البوصلة التي توجهه إلى المكان الآمن. هذا الانفصال أحدث في الإنسان تغييرا ملحوظا واضحا وضوح الشمس في كبد السماء اللازوردية. ولإبراز مدى التأثير الذي مارسه هذا الانفصال يحاول روسو أن يقارنه بالحيوان الذي" إذا ما فصلناه عن الطبيعة يفقد صفات كان يتمتع بها، على سبيل المثال بنية متينة، ونشاط غزير وقوة وشجاعة، حيث يبذل الإنسان جهدا للعناية به أحسن عناية، وهو ما يؤدي إلى تهجينه. هذا فيما يخص الحيوان. نجد الشيء نفسه بالنسبة للإنسان الذي صار مدنيا ومستعبدا، وصار ضعيفا رعديدا ومتذللا"3.
هي ذي ميزته في وضعه الطبيعي حيث ملكاته أكثر مراسا وبأسا، وقدرات حسية لا مثيل لها تسعفه في الفترات المحرجة حيث العدوان المحتمل الذي قد يطاله بين الفينة والأخرى. والحالة هاته، لا يجب على الإنسان أن يبارك تلك الساعة السعيدة التي انتزعته من براثن الطبيعة وغياهبها، لأنها بمثابة نذير شؤم عليه. فخصائص الإنسان المتوحش هي أكثر نقاوة وصلابة من الإنسان المعاصر.
كل محاولات الفلاسفة بمختلف توجهاتهم تشرئب إلى وضع تحديد لهذا الذي يسمى الإنسان. ومن أبرز التحديدات التي شملته هو كونه كائنا راغبا. والتأمل بعمق في هذا التحديد نجده مشفوعا بحضور الحيوان. لأن الحيوان هو المرآة التي تعكس حقيقتنا، والتي إن شئنا القول نحاول التملص من صراحتها البريئة. ولضمان هذه الحقيقة ونيلها للاستحقاق والتي يمكن أن تحايث الكائن الانساني لابد وبالضرورة المرور عبر مفهوم الحيوان. لأنه في اعتقادي الخاص وبعبارة أدق تكون الرغبة متحققة في اللحظة التي يكون فيها متجاوزا للشرط الحيواني. إذن، هنا نجد أن الاستفادة من استدعاء مفهوم الحيوان هو محاولة مقصودة وموجهة بنية مُبيَّتة سلفا، وهي أن الفيلسوف يعمل على استدعائه ورصد كل خصائصه من أجل أن يعمل على تجاوزها والعمل على بناء مفهومه للإنسان ككائن قادر على تجاوز وتخطي الحيوان المحكوم بالغريزة الجامحة فقط. ما تجدر الإشارة إليه هو ان الوضع الذي بلغته الانسانية من تطور وارتقاء هو نتيجة لدافع الرغبة المحايث لها. بدونها ستظل الانسانية مراوحة مكانها، ومحكومة بشرطها الطبيعي. والرغبة هنا ليست أية رغبة، بل هي الرغبة في الاعتراف. في غيابه سيبقى الانسان كائنا حيا مثله في ذلك مثل الحيوان منسجم مع الطبيعة، لأنه إن لم تكن رغبة الاعتراف متحققة، وإن لم تكن رغبة المخاطرة بالحياة واردة مكتفيا فقط بإشباع حاجاتهم بفضل النشاط الاقتصادي سيكون لامحالة مرة أخرى حيوانا. أنظروا معي هذا" الكلب المستلقي في الشمس طوال النهار، سعيد مادام قد حصل على غذائه، ولأنه راض تمام الرضى بماهو عليه، فهو لا يخشى ان تفعل الكلاب الأخرى ماهو أفضل منه، أو أن تبقى مهنته ككلب مراوحة مكانها. فإذا توصل الإنسان إلى مجتمع ينجح فيه بإلغاء الظلم، فستغدو حياته شبيهة بحياة الكلب"6. من هذا المنطلق يتضح أن الرغبة هي ما يجعل الكائن الانساني ينفلت من براثن المملكة الحيوانية المشروطة بالضرورة والحتمية؛ فالكائن الذي يتقهقر ويتراجع عن أن يكون الأفضل، ويسحب البساط من تحت أقدام الآخرين بقدرته على جعلهم يعترفون به كذات متفوقة ومتميزة يكون مآله الموت البطيء.
إن القول بكون الرغبة ماهية الكائن الانساني ولحمته الصلبة لا يكون ممكنا إلا في اللحظة التي نزيل كل ما يشد هذا الكائن إلى العالم الحيواني، - نحدد الإنسان ككائن راغب من خلال مقارنته بالحيوان- المحكوم بدوافع يمليها عليه صوت الطبيعة القاهر، الذي يتكلم بلهجة الآمر والناهي. لن يتوج بهذا الوسام ـوسام الرغبةـ إلا بالانعراج على طريق هذا العالم المسكون بالمشروطية، ومتطلبات الحاجات الطبيعية وإلحاحاتها المسترسلة والدائمة. وليست أية رغبة كانت، بل هي الرغبة في الاعتراف. فالإنسان يتقاطع مع الحيوانات في إشباع احتياجاته الطبيعية، لكن يختلف عنها في سعيه إلى إشباع رغبة الاعتراف به من طرف الناس الآخرين. في هذا الصدد يقول فرانسيس فوكوياما في كتابه نهاية التاريخ والانسان الأخير "نجد أن الإنسان الأول عند هيجل يتقاسم مع الحيوانات بعض الحاجات الطبيعية الأساسية مثل حاجات الغذاء، النوم، المأوى. ولكن الإنسان الأول هند هيجل يختلف جذريا عن الحيوانات من حيث أنه يرغب ليس فقط أشياء حقيقية ملموسة (كقطعة اللحم للغذاء، أو ثوب من الفرو لاتقاء البرد أو مأوى يعيش فيه)، بل أيضا يرغب أشياء هي غير مادية كليا. فهو يرغب رغبة الناس الآخرين، أي يرغب أن يعترف هؤلاء الناس به".7 لإثبات أن الرغبة عند الانسان هي رغبة تتجاوز نفسها إلى رغبة في الاعتراف، وليس رغبة تشرئب فقط إلى إشباع الحاجات الطبيعية. هنا يتبدَّى لنا بجلاء جوهرية وضرورة حضور مفهوم الحيوان بما هم نموذج يجب على الانسان أن يتخطَّاه لكي يتمكن من بناء إنسان راغب في أشياء معنوية تغيب بشكل تام عن أفق الحيوان المحدود والمشروط بالحتمية البيولوجية.
إن اكتساب الانسان لخاصية الرغبة مشروطة والحالة هاته بقدرته على تجاوز الحالة الطبيعية المحكومة بالغريزة والشرط الحيواني. هذا الأخير هو سند بموجبه يحصل الكائن بقوة وعن جدارة واستحقاق صفة الانسان الرغوب، بمعنى الذي يكون وجوده كوجود لرغبة تشرئب دوما وأبدا إلى التحقق والتجدد، وتجعل منه شعلة لا تتقد ولا يساورها الفتور على حين غرة. فالرغبة هي ما يجعل الانسان يحظى بتاريخ ما فتئ يتقدم إلى الأمام ولا يعرف التراجع؛ فالرغبة هي كنه الوجود الماهوي للكائن الانساني، في غيابها يتوقف مسلسل الكينونة ويكف عن الوجود.
إن استمرارية زمانية الكائن الانساني مشروط بهذا الذي يسمى الرغبة. يعتبر عبد الصمد الكباص في هذا الصدد " أن الرغبة لا تكشف عن نفسها في التاريخ كدافع فردي، بل كتيارات تندفق قادمة من مصادر مختلفة ومتعددة غير خطية. لكنها تتقاطع في لحظة حاسمة، في منعطف أم منحنى. وعند تقاطعها تفجر وحدة التاريخ، وتمزق استمراريته، فاتحة حيزا لانبثاق الحدث. لذلك ففي التاريخ لا تحمل الرغبة اسم علم إنها ليست رغبة فلان، وإنما هي رغبة، مصدر تعريفها الوحيد هو ما تخلقه من فرص لتجدد التاريخ نفسه، وعصوره على منبع حيويته".8
إن الإنسان تشمله الرغبة في أن يحظى بصفة إنسان، أي باعتباره إنسانا. هذه الرغبة التي تتردد عليه تدفعه نحو المخاطرة بحياته في خضم معركة نيل الاعتبار. في هذه المعركة التي يضحي فيها بالنفيس والغالي تجعله يتخلص من أقوى وأعتى الغرائز وهي غريزة البقاء. " فالإنسان عندما يخاطر بحياته، يبرهن على أنه يستطيع أن يعمل عكس أقوى غرائزه الأساسية وهي غريزة البقاء وكما يشير كوجيف، أن رغبة الانسان الانسانية يجب أن تتفوق على الرغبة الحيوانية التي تمليها غريزة البقاء"9. فهذه الرغبة في نيل الاعتراف لا تتحقق إلا بوسم الانسان على أنه كائن حر، أي كونه كائن محكوم بمجموعة من الحاجات والغرائز والرغبات، والتي تجعله كائنا معقدا ومبرمجا سلفا. يحاول فوكوياما في هذا السياق وضع مسألة الحرية بما هي تجاوز لإملاءات الطبيعة، التي تجعل الانسان يرغب ليس انطلاقا من دوافع بيولوجية، بل انطلاقا من رغبة معنوية وهي الرغبة في الاعتراف. والحرية هنا بمفهومها الانجلوساكسوني مع لوك وهوبس بماهي غياب للموانع والعوائق. يقول فوكوياما:" أن الصخرة التي تتدحرج على منحدر والدب الجائع الذي يجوب الغابات بدون أي عائق "حرين". مع أننا نعلم أن تدحرج الصخرة يتحدد بقانون الجاذبية وبانحدار التلة، كذلك سلوك الدب يحدثه تشابك معقد من مجموعة رغبات وغرائز وحاجات طبيعية. والدب الجائع الذي يبحث عن طعامه في الغابة هو “حر" بمعنى شكلي فقط. فهو ليس له أي خيار غير الاستجابة لجوعه ولغرائزه. فالدببة لا تضرب عن الطعام من أجل قضايا عليا. فإن سلوك الصخرة وسلوك الدب يتحددان بطبيعتهما المادية وبمحيطهما الطبيعي".10 هنا دائما نلاحظ أن مقاربة مفهوم الرغبة استدعت بشكل مباشر الحيوان لتبرز أن الانسان يتقاطع مع الحيوان في الغريزة، إلا أن الانسان محكوم عليه أن يتجاوز تلك الغريزة حتى يستطيع من بناء مملكة الانسان من حيث هي مملكة الحرية.
نحن أبناء أحداثنا فحسب هذا ما قاله جيل دولوز وفيليكس غاتاري؛ فالإنسان هو ما يصنعه بحياته، فمسألة الهوية ذاتها هي مسألة مفروضة سلفا، بمعنى أنها مصاغة بشكل قبلي. وهو يكرس حياته ووجوده لإبداع مسارب انفلات تجعله ينفلت من كل تحديد أو تعيين." في بداية كتابهما ألف مسطح أكدا أنهما احتفظا باسميهما بدافع العادة لا أكثر، إذ لم يعد الاسم يعني لهما شيئا، فهما أصلا لا يكتبان كشخصين وإنما كجدولين يشكلان رافدا ضمن تدفقات وصيرورات متعددة".11
هذا التدفق اللامتناهي هو بمثابة حركات تحرر من النسيج العام للمجتمع من أجل غاية جعل الفردية والفرادة متعينة على حيز الواقع. هي حركات تروم الانفلات المستمر من عيون اليومي والمعتاد ورقابته الشرسة. هذه الحركة التي تتخذ من الترحال نمطا لوجودها، والترحل بمعناه الدولوزي ليس هو السفر، ليس هو الانتقال، وإنما هو إعادة ترتيب الأرض، إعادة ابتكار شروط جديدة للحياة، إعادة رسم ملامح وحدود البيئة كيما تتواءم وما يستجد من ظروف. في هذا السياق يحاول دولوز أن يتخذ من الحيوان نموذجا لفن الترحل/ الترحال من حيث هو رسم للحدود وإعادة تنظيم الوطن. ويقدم مثال الحشرات الطفيلية على سبيل المثال القراد، والتي تمتلك عالما، وهذا يمكن وسمه بالرائع، على أساس أن الأغلبية الساحقة من السواد الأعظم من الناس لا تمتلك عالما! في كتاب محمد أيت حنا، الرغبة والفلسفة مدخل إلى قراءة دولوز وغاتاري نقرأ التالي " تتحرك القراد على غصن الشجرة صاعدة الغصن حتى تبلغ أبعد نقطة تبعا لأشعة الضوء، وهناك عند أعلى نقطة تلبد مكومة على نفسها دون أن تتحرك أو تأكل أو تشرب، حتى يمر تحتها حيوان ثدي، فتترك نفسها تسقط فوقه ثم تبدأ تحركها بحثا عن المنطقة الأقل سمكا من جلده كي تبدأ عملية المص. الضوء+ الرائحة (رائحة الحيوان) + الجلد، هذا فقط ما يصنع عالم القراد ولا يهما بعد ذلك أي شيء، فمن بين كل هذا العالم الشاسع لا تقتطع القرادة إلا ثلاث مثيرات، ولا يهمها بعد ذلك أي شيء، ثلاثة أشياء فقط من بين عالم يمنح مليارات الإمكانات، طموحات صغيرة ربما، ولكن ذلك ما يصنع عالما".12
هاهو الحيوان يمشي الهوينى منتشيا بفرح قلَّ نظيره في دروب الفكر الإنساني الملتوية؛ هذا الجار الغريب الذي يسكننا على نحو غريب، بمعيته نفهم وجودنا وغائيته، ونحيط علما بكل ما يجعل سلوكياتنا تتبدى على هذا النحو أو ذاك. إنه المنارة التي توجهنا إلى بر الأمان عندما تهددنا أمواج الأسئلة العاتية. بفضله نرسم تعاليم في حفظها عن ظهر قلب نكون قد خضنا تجربة الحياة بكل تؤدة ويسر. وعندما أقول تجربة الحياة، فإنني أعنى كل ما يختلج هذه الحياة من ممارسات قد تلبس لبوس مختلفة. ومن ضمن هذه الممارسات يمكننا أن نتوقف قليلا عند الممارسة السياسية بما هي مجال لتدبير الشؤون العامة للأفراد داخل حيز جغرافي محدد. وتدبير مجموعة بشرية يتطلب حكمة وروح دبلوماسية راقية حتى لا تتعرض مصائر البلاد والعباد إلى ما لا يحمد عقباه، وتبني كل الوسائل التي ستمكن من يدبر دفة الحكم سواء في الحاضر أو في المستقبل من الحفاظ على منصبه والتمتع بنعيم الاستقرار. في سياق هذا الكلام يمكن للحاكم أن يقتنص أو يسرق سرقة موصوفة بعض الصفات التي تتمتع بها بعض الحيوانات، والتي تجعل من فلسفة حكمه حكما ثابتا راسخا لن يزعزعه من يتربص به القرفصاء قيد أنملة. في هذا السياق نجد أن الفيلسوف يبني نموذج مثالي للقائد أو الزعيم أو السياسي المحنك على منوال طبيعة الحيوان. يتضح أن الحيوان مادة دسمة يغترف منها كل من أراد أن يشيد بنائه الفلسفي الراسخ. وكما قلت سابقا أن الخطاب الفلسفي الذي يخلو من حضور تيمة الحيوان هو لا محالة في عداد المفقودين والمهمشين خارج التاريخ. فعلى سبيل المثال، السياسي الذي إن أراد أن تكون طريقة حكمه صلبة لا تتزحزح لأي مناوشات صبيانية أو ضغائن حقيرة، عليه أن يتخيل على سبيل المثال طبيعة الأسد والثعلب معا. والجدير بالذكر أن ثمة طريقتين للقتال في المجال السياسي. الأولى تتخذ من القانون عنوانها وفلسفتها في التصرف والتدبير. والثانية تمتح من معين القوة وجودها. الأولى لصيقة بالإنسان، والثانية مرتبطة أشد الارتباط بالحيوان. في هذه الحالة على الحاكم أن يتعلم الطريقتين معا في تدبير شؤون مواطنيه." على الأمير الذي يجد نفسه مرغما على تعلم طريقة عمل الحيوان، أن يقلد الثعلب والأسد معا، إذ أن الأسد لا يستطيع حماية نفسه من الأشراك، والثعلب لا يتمكن من الدفاع عن نفسه أمام الذئاب. ولذا يتحتم عليه أن يكون ثعلبا ليميز الفخاخ وأسدا ليرهب الذئاب".13
نستخلص مما سبق، أن العودة بعمق وتفكر إلى تاريخ الفكر الفلسفي، يظهر لنا بالملموس مدى الحضور المهمين لمفهوم الحيوان على كتابات الفلاسفة بمختلف مذاهبهم ومدارسهم الفكرية؛ فكل واحد منهم يسعى إلى تأسيس مشروعه الفلسفي حول الانسان يكون مدفوعا بقوة غير مرئية إلى تمثل الحيوان بما هو مشابه للإنسان من حيث المعطيات الطبيعية والغريزية من جهة أولى، ومن حيث هو نقطة يسعى الانسان بجهد حثيث إلى تجاوزها من جهة ثانية.
المراجع:
1 جون جاك روسو: خطاب في أصل التفاوت وفي أسسه بين البشر، ترجمة بولس غانم، تدقيق وتعليق وتقديم عبد العزيز لبيب، المنظمة العربية للترجمة، الطبعة الأولي بيروت، حزيران(يونيو) 2009، ص 158.
2 جون جاك روسو، نفس المصدر، صفحة 141
3 نفس المصدر، ص 81
4 نفسه، ص 82
5 نفسه ص،83
6 فرانسيس فوكوياما، نهاية التاريخ والإنسان الأخير، الإشراف والمراجعة والتقديم مطاع صفدي، فريق الترجمة د فؤاد شاهين، د جميل قاسم، رضا الشايبي، مركز الإنماء القومي، بيروت 1993، ص 288
7 نفسه، ص 153
8 عبد الصمد الكباص: الرغبة إشباع التاريخ وتجدد الزمان، مجلة نزوى، العدد الثمانون، أكتوبر 2014، ص 240.
9 فرانسيس فوكوياما، نفس المصدر، ص 156
10 نفسه، ص 155
11 محمد أيت حنا، الرغبة والفلسفة مدخل إلى قراءة دولوز وغاتاري، دار توبقال للنشر الطبعة الأولى 2011، ص 74.
12 Deleuze/Parnet l abécédaire de Gilles Deleuze film réalisé par Pierre André Boutang video édition Montparnasse 1996 cassette 1.
13 نيقولا ميكيافيللي، الأمير تعريب خيري حماد، دار الآفاق الجديدة، بيروت الطبعة الثالثة والعشرون 1999، ص 148.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الاستثمار الخليجي في الكرة الأوروبية.. نجاح متفاوت رغم البذ


.. رعب في مدينة الفاشر السودانية مع اشتداد الاشتباكات




.. بعد تصريح روبرت كينيدي عن دودة -أكلت جزءًا- من دماغه وماتت..


.. طائرات تهبط فوق رؤوس المصطافين على شاطئ -ماهو- الكاريبي




.. لساعات العمل تأثير كبير على صحتك | #الصباح_مع_مها