الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الأصول التاريخية لظاهرة (العسكرة) في المدينة العراقية

ثامر عباس

2022 / 4 / 9
المجتمع المدني


ينقل لنا السرد التاريخي واقعة إن الغالبية العظمى للمدن التي شيدها الإنسان على مدى تاريخه الطويل ، كان الغرض منها في البداية توفير الحماية لأعضاء أسرته الشخصية ورهط جماعته القرابية ، وجعلها من ثم ملاذا"آمنا"يقيه وإياهم شتى المخاطر التي قد تنجم عن الطبيعة أو تلك التي يتوقع حدوثها من قبل نظيره الإنسان الآخر . ولهذا فقد اتخذت تلك المدن على الدوام طابعها العمراني المتمثل (بالحصون) المنيعة و(القلاع) الوعرة التي غالبا"ما أحيطت بعدد من الأسوار والخنادق ، فضلا"عن اختيار مواقعها الطوبوغرافية المناسبة التي عادة ما يتوافر فيها وحولها العديد من الموانع والعوائق التي يصعب على الغرباء والأعداء اختراقها بيسر وتخطيها بسهولة .
ولعل مدن العراق القديمة كانت السبّاقة في ولوج هذا المضمار العمراني ، ليس فقط كونها تمتعت بامتياز الأقدمية التاريخية في النشأة والتكوين مقارنة بنظيراتها من مدن العالم القديم فحسب ، وإنما لأنها تعد من أكثر تلك المدن تعرضا"للغارات والغزوات والاجتياحات من قبل شتى الأقوام والأعراق والأجناس . وهو الأمر الذي وسمها دائما"بالهاجس (الأمني) والطابع (العسكري) اللذان لازماها كظلها منذ لحظات التأسيس الأولى ولحد الآن ، لاسيما وان كل الذين تعاقبوا على حكمها وإدارتها من الأغيار (الطارئين) ، والذين لم يكونوا يشعرون بالانتماء لسكانها الأصليين ولم يغشاهم الإحساس بالولاء لمكانها الجغرافي ، بقدر ما كانوا طامعين بتنوع خيراتها وعابثين بمصير أبنائها . لا بل وقد يكونوا مدججين بالأحقاد العنصرية ومعبأين بالكراهيات الطائفية ، بحيث لا يتورعون من هدم المدن القائمة أصلا"وتخريب العمران الموجود سابقا".
وفي إطار البحث عن الأسباب والدوافع التي أدت بالمدينة العراقية لاكتساب ظاهرة (العسكرة) دون سائر الظواهر الضرورية لحياة المجتمع ، فضلا"عن إفراطها في الاهتمام بالجوانب العسكرية والأمنية والبوليسية على حساب الجوانب الأخرى الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والحضارية ، فقد تنوعت لذلك تفسيرات المؤرخين وتعددت إجابات الباحثين ، كلا"بحسب اختصاصاته العلمية وتصوراته الفكرية واهتماماته السياسية ومرجعياته الإيديولوجية :
أولا"- هناك فريق ينسب هذه الظاهرة إلى الظروف التاريخية الاستثنائية التي ألمّت بتلك المدن ، إبان عصر السلالات الذي شهد تكوين ما يسمى في الأدب التاريخي ب (دويلات – المدن) ، التي اتسمت علاقاتها الخارجية بطابع الحروب المستمرة والعداء المستحكم ، على خلفية تأمين حاجاتها المتنامية إلى مصادر المياه والأراضي الزراعية ، بالإضافة إلى سعيها الدائم للدفاع عن مجالها الجغرافي المهدد باستمرار . خصوصا"وان طبيعة الأنهر التي كانت المدن تقام على ضفافها تغيّر مجاريها باستمرار نتيجة لتراكم الطمى في قيعانها ، ناهيك عن مشاكل ارتفاع معدلات ملوحة الأرض ، وهو الأمر الذي ألزمها باستمرار تغيير مواقعها وتبديل أماكن سكناها .
ثانيا"- وهناك فريق ثان يرى إن ظاهرة العسكرة في المدينة العراقية ، تزامنت صيرورتها وتبلورت تداعياتها خلال الفترة التي شهدت احتدام الصراعات السياسية والعسكرية بين الجماعات والأسر الإيرانية ذاتها ، بقصد فرض سيطرتها على غيرها وبسط نفوذها على سواها من الجماعات والأسر الأخرى من جهة ، بين هذه الأخيرة مجتمعة ، وبين خصمها السياسي والمذهبي الدولة العثمانية من جهة أخرى . وذلك لحيازة زمام السيطرة السياسية وبسط مظاهر الهيمنة جغرافية على سائر أراضي العراق ، والتي كانت – ولا تزال – محل نزاع لا يفتر أو يهدأ إلاّ ليتأجج مجددا"، ومن ثم السعي لإلحاقها بجغرافية تلك الإمبراطورتين كلما تغلبت نوازع الأطماع على روادع من جهة ثانية . ولهذا فقد كتب المؤرخ العراقي (علاء موسى كاظم نورس) يقول (( ظل احتدام حدة الصراع مع الدولة الصفوية والأسر التي تعاقبت على السلطة في إيران (الافشارية والزندية والقاجارية) ، حتى تحول العراق إلى ميدان صراع بين العثمانيين والفرس ، قد برز الوظيفة العسكرية التي كانت عليها المدينة العراقية ))(1) .
ثالثا"- هذا في حين اعتبر الفريق الثالث إن تلك الظاهرة بزغت إلى الوجود مع ظهور الأنظمة السياسية الحديثة ، التي أعقبت فترة ما بعد (الاستقلال) السياسي لبلدان العالم الثالث وفك الارتباط مع دول المتروبول الاستعماري . حيث شهدت مجتمعات هذه البلدان البائسة موجات متتالية من ظاهرة تغيير الأنظمة السياسية عن طريق (الانقلابات العسكرية) تحت شتى الذرائع والمزاعم ، الأمر الذي جعل من ظاهرة (العسكرة) بمثابة دريئة واقية تحتمي بظلها تلك الأنظمة ، إزاء محاولات إسقاطها السلطة وإزاحتها عن المشهد السياسي من جهة ، واستخدامها كرادع وقامع لحمل خصومها وأعدائها على الانصياع لإرادتها والقبول بزعامتها من جهة أخرى .
ولما كان العراق من أوائل البلدان المتخلفة التي دشنت هذه الظاهرة عام 1936 ، فضلا"عما شهدته فترات تاريخه السياسي اللاحقة من اضطرابات وانقلابات متواترة ، كانت بمثابة التعبير الأكثر تجليا" عن الصراعات الحزبية والإيديولوجية التي كان هذا القسم من العالم العربي مضمارا"لها منذ مطلع القرن المنصرم ولحد الآن . ولذلك فليس ما يثير الاستغراب أن يكون العراق هو الحاضن المثالي والموطن النموذجي لشيوع ظاهرة (العسكرة) ، التي اخترقت بعواقبها وتداعاتها مختلف المجالات الاجتماعية والفعاليات الثقافية والمؤسسات الحكومية . لاسيما وان الطبيعة (المتشظية) للمجتمع العراقي كانت ولا تزال من العوامل المساعدة التي أفضت إلى تكريس تلك الظاهرة وترسيخها ، على خلفية تنامي مظاهر (التأريف) للقيم المدنية و(التطيف) للجماعات الأهلية .


المصادر
(1) الدكتور علاء موسى كاظم نورس ؛ مدن القلاع ، بحث منشور في المؤلف الجماعي ؛ المدينة والحياة المدنية ، الجزء الثاني ، ( بغداد ، دار الحرية 198








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. العالم الليلة | الآلاف يتظاهرون في جورجيا ضد مشروع قانون -ال


.. اعتقال طالبة أمريكية قيدت نفسها بسلاسل دعما لغزة في جامعة ني




.. العالم الليلة | الأغذية العالمي: 5 بالمئة من السودانيين فقط


.. خالد أبو بكر يرد على مقال بـ -فورين بوليسي-يتهم مصر بالتضييق




.. جامعة كولومبيا: فض اعتصام الطلبة بالقوة واعتقال نحو 300 متظا