الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ثقافة الاختلاف نحو إرساء مواطنة كونية

احمد زكرد

2022 / 4 / 9
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


الإنسان على خلاف الكائنات الأخرى، لا يجتمع بشكل تلقائي و عفوي، إنما اجتماعه تحدده مجموعة من الأسس و المعايير، منها صناعة المشترك ( القصة ) التي يجتمع حولها مجتمع معين أساسها الدين أو اللغة أو العرق أو الأيديولوجيا ... التي تشكل هويته الجماعية ( الثقافة ) ويصبح الناس يدافعون عليها باستماتة .
إذا كان الفكر الفلسفي قد عالج منذ الإغريق مسألة الهوية بوصفها أحد مبادئ المنطق ومقولة من مقولات الكينونة ، فإن المسألة قد تعدت اليوم هذا النطاق لتصبح إشكالية تميز كل ثقافة، وغدت أزمة تعيشها كل الجماعات؛ حيث أن كل جماعة تخشى ذلك الآخر الأجنبي الغريب وتعتبره هو مصدر الشر يهدد وحدتها و تماسكها الاجتماعي؛ و بالتالي ما يكون على الجماعة إلا أن تقوم برد فعل إزاءه ؛ وهو إقصائه وتهميشه وتحقيره و حتى قتله، هذا الأمر يقع في اللاوعي الجمعي ؛ بمعنى دون شعور تدافع على انتمائك وهويتك ضد الغريب .. وبالتالي تتخذ العلاقة بالغير المختلف هنا شكل الصراع و السلب و الغرابة ؛ يمكن للصراع مع الغير أن يتّخذ أشكالا مختلفة و وضعيات عدّة تتنوّع بتنوّع الأسباب و تختلف باختلاف نظرتنا له .
هذا يجعلنا ندرك أهمية طرح إشكالية الاختلاف في أفق تحقيق التسامح و التعايش الكوني ، لما تتسم به من راهنية - حتى نوضح الأمر فالاختلاف ليس هو المشكل وإنما المشكل هو تقبل الاختلاف والإيمان به كحق كوني و انساني ، و القدرة على الحوار و التواصل مع هذا المختلف مع الحفاظ على الخصوصية ، فعلى الإنسان إدراك اهمية الحوار لأنه يشكل تعاونا و تضامنا بين الناس على اختلاف أجناسهم وحضارتهم وثقافاتهم وأديانهم ومجتمعاتهم...
لهذا حاولت في عملية التقصي هاته أن نقف عند المشترك بيننا ونسلط الضوء عليه بغية فهم مقوم ثقافة الاختلاف، كقيمة أخلاقية ترقى بالنوع البشري. هذا المنفلت و المنسي ( ثقافة الاختلاف ) سنحاول جمع شتاته القيمي مركزين بالأساس على مسألة الهوية باعتبارها "نحن" أمام الغيرية باعتبارها "الهم"، فهي الانفتاح على مجال الذوات الأخرى المغايرة لي جسدا و وعيا و المختلفة جنسا و لونا و معتقدا و فكرا و ثقافة ...
على ضوء هذه الاختلافات الجوهرية بين الهوية و الغيريّة تبدو علاقة بين الذاتين( الأنا و الغير) شائكة نوعا ما ، فهل هذا الغير المختلف عنّي مكمّل لي أم مكبّل لحرّيتي و استقلاليتي؟ هل يمكن تحقيق مصالحة و مصادقة بين الأنا و الأنت أم أنّ الصراع والتصادم هو النتيجة الحتمية المحتملة و الواردة رمزيا و واقعيا ؟ هل يعني الاختلاف بين الذاتين خلافا بينهما ؟ إلى ما تردّ أسباب الخلاف ؟ هل هي وجودية أم طبيعية أم ثقافية أم نفسية أم اقتصادية أم تاريخية ؟ كيف يمكن تجاوز حالات الصراع مع الغير و تحويلها من فردانية فوضوية مكرّسة للأنانية و الانغلاق و الوحدة إلى غيريّة إنسانية معترفة بالغير و مؤسّسة لثقافة الحوار والتسامح والتعاطف ؟
ان أساس الصراع منذ بدء الخليقة أو بالأحرى منذ بداية الوعي هو صراع الارادات الاجتماعية و السياسية و الدينية ، و تبقى هذه الأخيرة من أكثرهم ، إذا لم نتخلص من ثقل الورطة التاريخية للمقدس التي يفصلنا عن تشكلها سمك عميق من الزمن ، التي تأسست على الأوامر الشرطية نابعة من ميتافيزيقا متعالية على الواقع البشري و ليس من أمر قطعي نابع من الذات الانسانية ؛ حتى أوضح هذا الأمر أكثر : على الدين أ لا يقتصر على العقائد الجامدة، و لا يجوز تعلّمه من الكتب و لا يجب أن يكون لاهوتيا بل بالأحرى أن يكون قوّة حيّة تزهر في الحياة الواقعية للبشر أي في عاداتهم و تقاليدهم و أعمالهم و احتفالاتهم ، يجب أن لا يكون الدين أخرويّا بل دنيوّيا إنسانيا و عليه أن يمجّد الفرح ويجسد المرح والحياة الأرضية ، لا الألم و العذاب و جحيم الحياة الأخرى .
عندما نتحدث عن دين إنساني فإننا نتحدث عن قيم كونية لا تستند إلى أيّة مرجعيّة دينية أو اجتماعية فلحظة الشعور بالآخر هي اللحظة الحقيقيّة للأخلاق. لا نتحدث هنا عن الأخلاق بمعناها التقليدي مثل الأخلاق الدينية التي ترجع الفعل الأخلاقي إلى واجب يمليه الوعي الديني؛ لأنّ الأخلاق الدينية هي أخلاق ملغومة و تحمل العديد من المفارقات؛ مثال عن ذلك أن الوعي الديني يدعو ضمنيّا إلى فعل الخير و لكنّه يحمل في طيّاته اللاواعية نوعا من التفرقة بين معتنقي الديانات أو المذاهب المختلفة ، و بذلك لم تخرج الأديان من العُقد الإيديولوجية الحاملة في طيّاتها لشحنات الرغبة في العنف فمثلا نجد أنّ المسيحيّة هي ديانة تدعو إلى التسامح ولكنّها شهدت العديد من الحروب بين الكاثوليك و البروتستانت و المذابح التي قامت بها محاكم التفتيش ...، وفي الإسلام هناك صراعات بين السنة و الشيعة ... وحتى لو افترضنا ان هناك دين الحب سيكون عنيفا لأنه سيحارب كل من لم يؤمن به .
هذا نموذج من داخل الدين نهيك على الأديان في ما بينها فإنها تتصارح و تتناحر فيما بينها وكل يعتقد بأنه الأفضل و الآخر مغضوب عليه و ضال ... وهذا الخطاب أكيد سيقف عائقا أما قيام إنسانية جمعاء. فالانفتاح الحقيقي على الآخر و الاعتراف و يجب أن يكون هذا الاعتراف عن طريق وعي ذاتي نابع من حدس عاطفي باطني و ليس من أي إملاء خارجي يمليه الدين أو القانون. نفس ما أشار إليه كانط من قبل حيث يؤسّس العلاقة بين الأنا و الغير على مبادئ أخلاقية و عقلية كونية. يقول في كتابه مشروع السلام الدائم : إن أكبر مشكلة للنوع البشري تلك التي تجبره الطبيعة على حلها هي إدراك مجتمع مدني قائم على الحق الكوني ."

لهذا ندعو من داخل الدرس الفلسفي إلى أنسة الخطاب الديني و تأسيس قيم منفتحة على الآخر، و ذلك بطبيعة الحال لن يتأتى إلا إذا حققنا مفاهيم جوهرية داخل المجتمعات : كحرية المعتقد و إقرار التسامح الديني و القيمي و الاخلاقي ... واستيعاب الآخر المختلف عقديا و طائفيا و سياسيا ... كما قلت بهذا نستطيع خلق مجتمع إنساني تواصلي منفتح على قيم كونية تتجاوز الانغلاق والتقوقع و الدوغمائية المتطرفة التي تصنع الحروب و التشرذم الطائفي . فيجب أن نعيش باسم الانسانية جمعاء، من أجل السلام العالمي و ترسيخ مواطنة كونية مبنية على أساس اتيقي مشترك وعقل تواصلي منفتح ومتنوع ومختلف ؛ مبني على حوار الحضارات كسبيل للمزاوجة بين حفظ الخصوصية والانخراط مع الآخرين في إرساء الكونية ؛ ما يعني التفاعل السلمي بين الخصوصيات الثقافية بعيدا عن منطق الإقصاء والهيمنة والاستعلاء وهو يفترض اعترافا واحتراما متبادلا للتنوّع الثقافي ويهدف إلى إقامة تآلف وتحالف بينها من أجل الدّفاع عن القواسم الإنسانية المشتركة سواء بتعزيز التعاون والتضامن والتفاهم المتبادل أو بالمواجهة الجماعية للأخطار المهدّدة للنوع ما كان منها صادرا عن الطبيعة مثل الأوبئة والآفات الطبيعية وما كان صادرا عن الحضارة نفسها مثل التقدّم العلمي والتكنولوجي المنفلت من الاعتبارات الايتيقية أو الإرهاب والمجاعة والفقر والتلوّث والاستبداد.
ان الحوار و التعايش بين الثقافات المتنوعة هو منهجا عقليا يحررنا من الجهل ، ويؤسس عالما بعيدا عن الصراع و الحروب مبني على نهضة انسانية قوامها التكامل و التثاقف و التعاون بقصد الوصول الى ثقافة السلام و المحبة ، و التعرف على مكونات الآخر في احترام تراث كل ثقافة بكل خصوصياتها ، يقول روجي غارودي : ان الحوار بين الحضارات هو وحده الذي يمكن ان يولد مشروعا كونيا يتسق مع اختراع المستقبل ؛ وذلك ابتغاء ان يخترع الجميع مستقبل الجميع " .
وبسليط الضوء على عصرنا الذي يشهد الكثير من التطورات التكنولوجية اختزلت المسافات و اضحى العالم مجرد قرية صغيرة ، جعل أمر الانفتاح على ثقافات أخرى أمرا مفروضا ، ما جعل طرح سؤال كيف يتأتى الحفاظ على الهوية و الخصوصية الثقافية في ظل هذا التطور الذي يشهده العالم ؟ الجواب على هذا السؤال يستوجب الجواب على سؤال الانتماء والإيمان به ، لذا علينا العودة الى ثقافتنا و التشبث بانتمائنا الثقافي وفي نفس الوقت الانفتاح واحتضان ثقافات اخرى باعتبارها اغناء لنا وليست سلبنا لهويتنا ، ويجب ان نحارب تلك الفكرة التي أساسها الهيمنة وجعل الناس في قالب واحد مستنسخ عن النموذج الذي يحاول القوي فرضه على غيره من الأطراف .
نحوصل من هذا الموضوع المتشعب و المضياف أن المشترك الكوني هو الحرية ، لأن الحرية هي التتويج الاقصى لإنسانية الإنسان كمبدأ يضمن لنا أن نعيش في عالم إنساني. فالحرية هي الكفيلة لتخلصنا من الخضوع الميتافيزيقي و كذا من العبودية لبعض الافكار أو الاشخاص ، بالتالي تصبح الندية بين الجميع ؛ اذا تساهم (الندية )بين الأنا و الغير في التخلص من فكرة التمركز حول الذات و منه يتحقق العيش المشتركة في ضيافة كونية قوامها التسامح و الحوار كإمكانية للتعايش في ظل الاختلاف. أختم بتعبير الفيلسوف الفرنسي فرونسوا فولتير يقول :" قد أختلف معك في الرأي ولكني مستعد أن أدفع حياتي ثمنا لحقك في التعبير عن رأيك".








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مسيحيو السودان.. فصول من انتهاكات الحرب المنسية


.. الخلود بين الدين والعلم




.. شاهد: طائفة السامريين اليهودية تقيم شعائر عيد الفصح على جبل


.. الاحتجاجات الأميركية على حرب غزة تثير -انقسامات وتساؤلات- بي




.. - الطلاب يحاصرونني ويهددونني-..أميركية من أصول يهودية تتصل ب