الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


اغتراب الوعي : من الثقافة الى الخرافة

ثامر عباس

2022 / 4 / 11
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


*ثامر عباس*

ثمة حقيقة معرفية طالما أفضى نسيانها أو تجاهلها أو الجهل بها الى مفاقمة الوضع الانطولوجي (الوجودي) للانسان المعاصر واحالة حياته الى جحيم لا يطاق ، لاسيما ذاك الذي انتهكت خصوصيته ودجنت شخصيته واخصيت ارادته مؤداها ؛ ان اهدار القيمة الحضارية للثقافة وتشويه المعالم الانسانية للفكر ، قمين بتعميق شروخ الاغتراب في الوعي والتصدع في الهوية والضياع في الانتماء ، على خلفية احياء شعائر الخرافات وتحيين طقوس الأساطير ، لاجتياف قيمها الرمزية والتماهي مع دلالاتها الفنتازية ، بحيث تتيح لمن فقد زمام أمره وأضاع بوصلة اتجاهه ، مخرجا"سهلا"للهروب من واقع بات لا يحتمل في مأساويته ، والتفلت من وضع أضحى عصيا"على الادراك في هلاميته . ولما كانت الثقافة كشكل راق من أشكال تجلي الوعي الاجتماعي ونمط متسام من أنماط تمظهره ، فهي ملزمة لكي تمارس وظيفتها التنويرية وتقوم بدورها التحرري ، بمحايثة الواقع الذي تنتمي اليه وتعقلن صيرورته ، وتلتصق بالتاريخ الذي تندرج فيه وتعكس سيرورته .
وبقدر ما تأتي منسجمة مع ارهاصات المجتمع ومعبرة عن حصيلة مكوناته ومنهمكة في تجسيد طموحاته ، بقدر ما تتشذب مقومات الوعي وتستدق خصائصه ليكون أقرب الى العقلانية النقدية منه الى الطفولة الراديكالية ، والأقدر على اكتناه حقول المسكوت عنه منه الى المسموح القول فيه ، والأجرأ في التحليل والاستنباط منه الى الطمطمة والتزويق . وعلى العكس من ذلك فان بنية الخرافة تستقي عناصر وجودها ومصادر ديمومتها من ذخيرة الأوهام والأباطيل التي تمتلئ بها منظومة السيكولوجيا الاجتماعية وجعبة المخيال التاريخي ، اللتان طال عهدهما بمظاهر الطغيان السياسي والحرمان الاقتصادي والامتهان الاجتماعي والارتهان الايديولوجي . ولهذا فهي (=الخرافة) تميل بما يشبه النزوع الطبيعي لديها نحو الدين الشعبي والتراث الفولكلوري بحثا"عن المقدس والمحرم في الوجدان الاجتماعي ، للتخندق فيه والاحتماء به من سياط الاسئلة ، وايثارالزيغ عن احراج المساءلة .
ولهذا فليس من الغرابة في شيء أن يرهن الطغاة والمستبدين مسألة بقائهم في السلطة واحكام قبضتهم على اعنتها ، بمسعى محاربة كل ما يمت للثقافة والمعرفة بصلة ، والعمل على تعميم حالة الاغتراب في الوعي ، دون أن يمحضوا كبير اهتمام لظواهر التصدع في الهوية والضياع في الانتماء ، التي وان عدّت من شروط حالة الاغتراب ومقدمات تبلوره ، الا انها لا ترقى لمستوى هذا الأخير من حيث تأبييد التخلف وتسييد الخرافة . اذ لا شيء يقلق رجل السلطة مثلما يقلقه ويثير حفيظته شيوع الثقافة وارهاف الوعي بين العامة والخاصة من الناس ، ذلك لأنه كفيل باثارة الاسئلة الجسورة ( كيف ، لماذا ، أين ، متى ) واشعال فتيل البحث عن الاسباب والدوافع ، فضلا"عن كونه يؤشر لحالة بلوغهم مستوى من الفهم والادراك يصبحون بموجبه قادرين على تشخيص العلل وتعيين الأخطاء ومقاضاة التجاوزات ومحاسبة الممارسات ، علاوة على تقديم الحلول وطرح المعالجات التي غالبا"ما تكون متنافية ومتعارضة مع المصالح الشخصية والمآرب الفئوية لازلام النظام وزبانيته . وعلى ذلك – كما يقول (أتين دي لابويسيه) صاحب مقالة في العبودية المختارة – ((فقد أدرك قراقوش الترك هذا الأمر أحسن ادراك : أدرك ان الكتب والثقافة الصحيحة تزود الناس أكثر من أي شيء آخر بالحس والفهم اللذين يتيحان لهم التعارف والاجتماع على كراهية الطغيان، دليل ذلك خلو أرضه من العلماء ، وبعده عن طلبهم)) .
والحقيقة ان المجتمع المخترق لا يواجه القدر ذاته من المخاطر المترتبة على حالات الضياع في الانتماء والتصدع في الهوية – وان كانت هذه وتلك من علائم حالة الاغتراب في الوعي – بقدر ما يعاني من كوارث الاغتراب في الوعي حين يتم وئد الثقافة واستئصال المعرفة . ذلك لأن القومية أو القبيلة أو العشيرة هي الساتر الأخير الذي يعصمه من التمزق في الحالة الأولى . في حين ان الدين أو المذهب أو الطائفة هي الملاذ الأخير الذي يحول دون انحطاطه في الحالة الثانية – وهو ما يشكل استدراكا"ذاتيا"/اراديا"من قبل المجتمع المعني لتخطي المحنة وتجاوز الكبوة كما في الوضع العراقي الحالي – أما في الحالة الثالثة فلا مهرب من اللجوء الى قوى غير محددة (ميتافيزيقية) تقبع خارج الزمان والمكان لتمارس تأثيرها السحري وتحقق من الآماني والاحلام ما يعجز المرء عن بلوغه في الواقع المعاش .
وبرغم كون الخرافة تعبير ملتبس لجهل الانسان بواقعه وتسليما"باذعانه وخنوعه حيال ما يستعصي عليه تفسيره من أحداث غالبا"ما يقع وزرها عليه أو تغيير من أوضاع عادة ما يكون وقود أوراها ، وهو ما قد يبيح الاستنتاج بأن تحسن تلك الأوضاع وتلاشي تلك الأحداث ، كفيل باقتلاع زؤان الخرافة من عقل الفرد وازالة آثارها من وعي المجتمع . بيد أن نظرة خاطفة لتاريخ الانسان وأشكال تعاطيه مع الواقع تبين بما لا يقبل الشك ، انها كانت ولا تزال رفيقه الأقدم ونديمه المفضل منذ أن واجه جبروت الطبيعة وجها"لوجه ، محاولا"ما أسعفه تفكيره الفطري وقدرته البدائية فك الغازها وتجنب غضبها وتقديس رموزها (الطوطمية) ، ومستعطفا"اياها لاستدرار منافعها العديدة ودرء مخاطرها الكثيرة . وذلك لأنها (=الخرافة) ليست من مقومات وجوده الاجتماعي – رغم كونها أضحت في البيئات المتخلفة بمثابة الترياق السيكولوجي الذي لا بد من تعاطيه - ولا من عناصر تكوينه البيولوجي ، لكي تتكفل عمليات ارتقائه السلالي وتطوره الحضاري وتقدمه العلمي عبر مسيرته التاريخية ، من التغلب على آثارها المتوطنة في ذهنيته وازالة عقابيلها المتحكمة في سلوكه . بل الأحرى انها من مخلفات نكوص وعيه واندثار ثقافته ، بعد أن آثر المهادنة وأدمن الخضوع لشتى ضروب الأنظمة البطريركية والعسكرتارية المتعاقبة ، التي وان اختلفت اساليبها في تدوير العنف الدموي لكبحه وتعظيم القوة الغاشمة لترويضه ، الا انها كانت متوافقة ومتشابهة في تجريف وعيه وتحريف قيمه وتخريف معتقداته . وكمثال شاخص على ذلك فأنه لا أحد يستطيع أن ينكر أو يزايد على الشعب العراقي بخصوص أسبقيته في ولوج ميادين التاريخ واعتلاء مضامير الحضارة ، التي كان من الممكن للظروف الملائمة والأوضاع المناسبة أن تضعه في صدارة المجتمعات المتقدمة في عالم اليوم ، الا انه وخلافا"لذلك فان مظاهر الخرافة لا زالت تجد عند مختلف شرائحه وطبقاته سوقا"رائجة للتداول والتمثيل ، ليس لأن العيب يكمن في طبيعته ويستبطن طباعه – كما يحاول البعض أن يوحي بذلك – وانما لتطاول الدهور عليه وهو يرسف في أغلال الذل الاجتماعي وقيود الظلم السياسي ، مما استتبع أن يزدرد تعاسته الأبدية بين شقي رحى الخوف من المجهول والعنف من المعلوم .
وفي الحالتين كلتاهما لا مناص له من الاستنجاد بالمنقذ / المخلص والتعويل على ما يجود به من عطاءات وما يفيض عنه من بركات ، طالما يستشعر ضآلة ذاته وتفاهة قدرته في التغلب على ظروفه القاسية وتخطي معاناته المؤلمة . وعليه فقد تمادى (الحجاج) في توصيفه لماهية الشعب العراقي حين أشاح بوجهه عن الواقع ويممه صوب الخرافة لتسويغ طغيانه ومداراة ظلمه ، من خلال مخاطبته اياهم قائلا"((ان الشيطان قد استبطنكم فخالط اللحم والدم والعصب والمسامع والأطراف والأعضاء والشغاف ، ثم أفضى الى الأمخاخ والأصماخ ، ثم ارتفع فعشعش ، ثم باض وفرخ ، فحشاكم نفاقا"وشقاقا"، وأشعركم خلافا"، أخذتموه دليلا"تتبعونه ، وقائدا"تطيعونه ، ومؤمرا"تستشيرونه ، فكيف تنفعكم تجربة ، أو تعظكم وقعة ، أو يحجركم اسلام ، أو ينفعكم بيان)) . وهكذا فان الوحي الخرافي لهذا الرجل أملى عليه ما يعتقد انه (الشيطان) وليس (الواقع) المرير هو الذي أرخى سدوله المظلمة على طبيعة المجتمع العراقي ، وألزمه بالتخلي عن ارادته وترك مصيره لغير ذاته تقرره أهواء الطغاة وأمزجة المستبدين في الأرض ، وقوى الغيب في السماء . وكخاتمة لهذا الموضوع المبتسر فاننا نعتقد – انسجاما"مع ما يراه الباحث العراقي (فالح مهدي) - ان (( الشعب الذي تزداد درجة وعيه بنفسه وبظروفه الموضوعية يستطيع أن يدرك جيدا"بأنه منقذ نفسه . أما الشعب الجاهل فينتظر النصر من الخارج)) .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. روسيا تعلن استهداف خطوط توصيل الأسلحة الغربية إلى أوكرانيا |


.. أنصار الله: دفاعاتنا الجوية أسقطت طائرة مسيرة أمريكية بأجواء




.. ??تعرف على خريطة الاحتجاجات الطلابية في الجامعات الأمريكية


.. حزب الله يعلن تنفيذه 4 هجمات ضد مواقع إسرائيلية قبالة الحدود




.. وزير الدفاع الأميركي يقول إن على إيران أن تشكك بفعالية أنظمة