الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


التحليل الحداثي للخطاب القرآني (آلياته ومرتكزاته النظرية )

ميلود كاس
أديب

2022 / 4 / 12
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


ملخـــــــص :
يحاول هذا المقال أن يتناول – واصفا - المقاربات الحداثية للخطاب القرآني ، ممثلة في أشهر أعلامها : ( - محمد آركون – نصر حامد أبو زيد – طيب تيزيني – حسن حنفي ..) . و يهدف هذا التناول إلى إبراز الأسس والمرتكزات النظرية ، في تأويل ونقد الخطاب القرآني ، عند هؤلاء المفكرين ، ويهدف أيضا إلى محاولة قراءة مشاريعهم الفكرية قرآءة موضوعية ، وذلك بوضع هذه المشاريع في سياقها الفكري ، الذي لا ينفك عن التأثر العميق بما أفرزته الحقول المعرفية في شتى مجالات العلوم الإنسانية ، عند الغرب ، فتناول المقال تأثير وانعكاس المناهج النقدية الغربية : (- اللسانيات – البنيوية – البنيوية التكوينية – الماركسية – نظرية القرآءة والتلقي – التفكيكية – التناص) ، على النقد الحداثي العربي ، فرصد بعضا من أشكال الممارسة النقدية -المتشبعة بنظريات المناهج النقد المعاصرة - على الخطاب القرآني ، وأبعادها العلمية، والأيديولوجيا ، وأخيرا أهم الانتقادات الموجهة إلى هذه المقاربات .
Summarizing :
In This article,we tried to address - and describing - the modern approaches to the Koranic discourse, represented in the most famous flags: (- Mohammed Arkoun - Nasr Hamid Abu Zeid - Tayeb Tizini - Hassan Hanafi ..).it aims to show the theoretical bases and amchers in imterpreting and criticizing the koran speech among these educationists .
In addition ,it aims at opjective reading when dealing with their projects by putting these projects in its influen ced context, which is deeply influenced by what each knowledgable human scences fields has brodu ced the influence and the reflection of western criticizing cussicula: (Linguistics aru cturalisn,ctructual, Structuce Deconstruction harnony,.) on the new arabic criticism which catches sone of criticzing qractios forms that is full of theories about new citicizing methods on harans dciource and its ideology scintific dimentions and finally the most important notes givents to these aqqroaches criticism.


تبنى كثير من المفكرين الإسلاميين من أمثال : ( محمد آركون ، ونصر حامد أبو زيد ، وطيب تيزيني ، ومحمد شحرور ، وحسن حنفي ..) فلسفات ومذاهب غربية حديثة، حاولوا تطبيقها على الخطاب القرآني، واصلين بذلك الجسور المعرفية ما بين الحضارة العربية والحضارة الغربية ، مارين بنفس التجربة الأوربية في تطبيق هذه النظريات الفلسفية على النصوص المقدسة - وهذا برأيهم – إصلاح ديني يهدف إلى إعادة قراءة الموروث الديني قراءة علمية تجعله في المسار الصحيح ، وتزيل عنه ما علق به من أيديولوجيات وتحوير ، فدعوا إلى قراءة النص قراءة علمية تخلصه مما علق به من تأويلات ترتبط بحقبة زمنية معينة . وقد تجاوزت القراءة الحداثية بذلك الأدوات العلمية المسطرة في علم التفسير.
فاستمدت هذه القراءات الحداثية آلياتها - في أغلبها - من خارج منظومة الفكر الإسلامي ، وذلك بالاعتماد على مناهج النقد الغربية في قراءتها للنص القرآني ، وقد أثارت هذه القراءات الكثير من الزوابع في الساحة العربية ، وأخذت أبعادا فكرية وسياسية وأيديولوجيا خطيرة ، ويمكن ربط هذه القراءات بأهم مرجعياتها الفكرية والنقدية التي شهدتها الساحة الغربية في مجال تحليل الخطاب ، ولعل أهم منعرج لهذه الدراسات هو : ما أحدثته الدراسات اللغوية من نقلة نوعية ، بداية مع ظهور كتاب (محاضرات في علم اللسان العام ) ل فردينان دوسوسير عام 1916 إذ نادى بضرورة دراسة اللغة دراسة داخلية " لتصبح اللغة بهذا الاعتبار نظاما لا يعرف إلا نسقه الخاص ، ويخضع لقواعد تتحكم في هيكله وعلاقاته "( ).
فكانت أهداف اللسانيات مع دوسيسير هي اكتشاف القوانين التي تحكم اللغة واستعمالاتها، وأيضا البحث عن القوانين التي تحكم لغات العالم جميعها في وقت واحد. فاللغة من منظور ( اللسانيات السوسيرية) نظام مغلق على ذاته ، ومكتف بذاته ، فهي "تنطوي ضمنا على جميع العلاقات الممكنة داخلها ، وبالتالي لا علاقة لها بالخارج اللغوي "( ) .
وتأثرا بهذه الدراسات ظهرت في الدراسات الغربية محاولات لسانية لتحليل ودراسة النصوص المقدسة - التوراة والإنجيل – برهنت - حسب آركون – على أن لها قيمة لا تضاهى من حيث الدقة والصرامة المنهجية ، فقد كانت هذه الدراسات حريصة على العلمية وأن تتقيد بحدود الإمكانيات التعبيرية للغة، واستبعاد كل الفرضيات الصريحة والضمنية( ) ، غير أن صرامة اللسانيات لم تمنع من انفتاح الدلالة ولا محدوديتها ، وهو الأمر الذي حاول آركون البرهنة عليه في قراءته لسورة الفاتحة( ).
اهتمت اللسانيات ، في مرحلة النشأة باللغة ، وبسطت نفوذها على العلوم الإنسانية لإخضاعها لمنطق الحس، - بالرغم من مفارقتها له – وقد شكل هذا تحديا أمام هذه الدراسات لم تصمد أمامه طويلا ، فسرعان ما تطعمت اللسانيات بنظريات فلسفية من أهمها : (البنيوية ، والبنيوية التكوينية ، والسيميائية ، والتفكيكية..)
تأثرت القراءة الحداثية للخطاب القرآني عند المفكرين العرب ، بكل ما أفرزته الساحة الغربية ، ويعد آركون ، المثال الأكثر تأثرا بالمعطيات النقدية الغربية الجديدة . نلمح هذا التأثر بداية من تعريفه للقرآن الكريم ، تبعا لتحديدات المنهج اللساني بأنه : "مجموعة محدودة ومفتوحة من النصوص باللغة العربية ، يمكن أن نصل إليها ماثلة في النص المثبت إملائيا بعد القرن الرابع الهجري"( ) ؛ فالقرآن الكريم – حسب آركون - عينة يمكن للسانيات الحديثة أن تفحصه ، وقد دأب آركون على إغفال قداسته أو اختلافه عن النصوص الأخرى.
نظر آركون إلى القرآن الكريم من وجهة نظره النصوصية على أنه وحدات نصية نادرا ما تكون منسجمة من حيث تواريخ نزولها ، وأيضا من حيث مضامينها أو صياغاتها التعبيرية( ) ، ووصف بعض آياته بأنها مجرد تجاور بين عبارات لغوية ومعنوية متبعثرة ، داعيا إلى تحديد علاقاتها بواسطة المعايير البلاغية والمنطقية ( ).
فسورة الكهف مثلا تبدأ ب ثمانية آيات من قوله تعالى : {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا} [الكهف : 1] حتى قوله تعالى : {وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا} [الكهف : 8]: صنفها آركون على أنها وحدة نصية تتمفصل مع السورة القرآنية الكريمة وليس لها أي صلة دلالية بما بعدها( ).
إن أركون بهذا يحاول التشكيك في انسجام القرآن الكريم ، أكثر من محاولة دراسته ، فلم يكن ليعييه أن يجد الرابط الدلالي بين هذه الآيات وما بعدها ، خاصة وأنه يسم مقاربته بالانفتاح ، ولعل محل التشكيك عنده هو التدخل البشري في ترتيب الآيات : "يبدوا أن نص الحكاية هذه قد تعرض لتحويرات أو تغييرات ، كان ريجيس بلاشير قد كشف بوضوح بواسطة التنضيد الطباعي عن نسختين متوازيتين للآيات من 9 الى 16 ، يضاف إلى ذلك أن الآية 25 تجد مكانتها بالأحرى بعد الآية 11 لولا أنها تنتهي بالقافية (عا) هذا في حين أن مجمل الحكاية تشتمل على آيات مقفاة ب (دا) ، وقد كشفوا في هذه الآية ذاتها عن شذوذ لغوي هو كلمة (سنين) ..بدل من ( سنة ) {وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا} [الكهف : 25]."( )
قد قفز آركون بهذه المقاربة ، على كل ما تحقق في الدراسات القرآنية من يقين في ثبوت النص القرآني على ترتيبه ، وأيضا قفز على قواعد النحو التي ألزم نفسه بها في دراسته في كلمة (سنين) ، فلم يكلف نفسه عناء التخريجات النحوية لهذه الكلمة في الدراسات القرآنية الإسلامية ، يقول الزمخشري في هذا : " ..وسنين عطف بيان لثلثمائة ، وقرئ ثلثمائة سنين بالإضافة على وضع الجمع موضع الواحد في التمييز كقوله : {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا} [الكهف : 103] ، وفي قراءة أبي : ثلثمائة سنة "( ). وربما يكون السبب في هذه السقطات اللغوية في مقاربات آركون ، هو افتقار محمد آركون إلى أدوات التحليل اللغوي العربية من نحو وبلاغة و.. بحكم تكوينه اللغوي الفرنسي .
لم يكن آركون - شأنه في ذلك شأن غيره من الحداثيين – يتبنى في مقاربته للقرآن الكريم منهجا أو مدرسة ألسنية بعينها رافضا بذلك أي إخضاع أو استبعاد أو تعسف أو اعتباطية في اختيار العينة المدروسة كما تفعل بعض الدراسات الألسنية البنيوية( ).
فدعا إلى ضرورة تضافر العديد من الآليات ، في أثناء تحليل الخطاب القرآني : "ينبغي أن نضيف إلى التحليل النحوي ( أو القواعدي ) ثلاث جوانب كبرى ..1- تركيبته المجازية 2- بنيته السيميائية أو الدلالية 3- تداخليته النصانية .."( ).
لقد حاول آركون تجاوز المعاني القاموسية للكلمات باحثا على ما أسماه " الدلالات الحافة أو المحيطة أي ظلال المعاني "( ) ، فقد كان في أغلب دراساته يهدف إلى الكشف عن عوالق الدلالة المرتبطة بالسياقات التاريخية ، متأثرا بمقولات البنيوية التكوينية ، والتي يمكن أن تختزل في مقولة لوكاش : " الأدب ليس هو الواقع أو الحقيقة بل هو انعكاس لهما "( ) ، وأيضا متأثرا بالماركسية التي لا تؤمن بوجود وعي مستقل خارج الأطر الإجتماعية فوعي الناس -عند ماركس- يتحدد من خلال وجودهم الإجتماعي ، فحركة الفكر ما هي إلا انعكاس لحركة الواقع بعد أن انتقلت إلى دماغ الإنسان ( ).
تتوكأ القراءات الحداثية مع آركون وغيره من الحداثيين - في كثير من جوانبها - على ما أفرزته أفكار لوسيان غولدمان ، وماركس ، وغيره من المنظرين الغربيين لفكرة اختفاء المكون الاجتماعي وراء قوالب اللغة فعلى الرغم من تركيزهم أو انطلاقهم من بنية العمل الأدبي في دراساتهم إلا أن الغاية هي الوصول إلى المعطيات الاجتماعية .
يعتبر لوسيان غولدمان أن " اللغة ليست ذات أهمية مركزية ..إذ هو ينظر إليها على أنها مجرد وعاء يتم من خلاله التعبير الأدبي ، والاتصال الموضوعي ، الذي يعبر عن وجهات نظر العالم ، ويعتقد غولمان أن الحقيقة الواقعية موجودة قبل وجود العمل الأدبي في صورة بنية ذهنية "( ) ، فتأخذ اللغة في البنيوية التكوينية أو السوسيو- نقدية ، دورا هامشيا فعلى " الرغم من إعطاء الأولوية للنص قبل غيره من المعطيات الأخرى فإن السوسيو نقدية ترفض دراسة النص منعزلا عن إطاره الخارجي ذلك أن مشروعها الأساسي هو استرجاع المكونة الاجتماعية لنص الشكليين "( ).
تسعى البنيوية التكوينية في تحليلها للنصوص ، إلى الكشف عن البنى الذهنية التي تكون وتنظم في الوقت نفسه الوعي التجريبي لمجموعة اجتماعية ما ، وهذه البنى هي ظواهر اجتماعية ، ولكشفها ينبغي دراسة المجتمع الذي انبثق عنه هذا النص أو العمل الإبداعي ، وذلك عبر فحص البيانات السوسيو – تاريخية ، والدلائل اللغوية التي تشير إليه ، وبذلك نكون أمام علاقة وثيقة الصلة بين البنية الاجتماعية والبنية الفنية للنص ، فمهمة الناقد هي إعادة بناء الحقيقة الاجتماعية ، والطبقات المكونة لها ، ومراكز اهتمامها من خلال بنيات النص اللغوية( ).
قد أسقط آركون مقولات البنيوية التكوينية بحذافيرها على القرآن الكريم ، الذي سماه (الظاهرة القرآنية) ، فهو – أي القرآن – "مرتبط بالممارسات السياسية والاجتماعية والثقافية للنبي .. كان القرآن يخلع لباس التعالي على هذه الأعمال والوقائع ويجعلها متسامية .." ( ) ، وتكمن خطورة هذا الطرح (الآركوني ) في أنه يساوي بين البشري والإلهي ، فكأن الخطاب القرآني في نزوله المنجم ، هو مجرد ردود ذات دلالة تجاه مواقف واجهة النبي صلى الله عليه وسلم ، لإحداث التوازنات الاجتماعية اللازمة أمام مشروعه صلى الله عليه وسلم ، وهذا تماما ما قرره غولدمان في تفسير السلوك البشري( ) .
وعلى هذا الأساس الخطير المفضي إلى أنسنة الخطاب القرآني تماما ، يصوغ آركون نوايا قراءته بأنه لا يلزم " تجنيب القرآن كل مشروطية تاريخية ، أو سوسيولوجية من أجل التركيز أكثر على تعاليه "( ) ، إن القرآن – بحسب آركون - يقوم بعملية خلع التعالى على أحداث تاريخية واقعية حصلت في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولكنها حورت من قبل الخطاب القرآني ، لكي تتخذ دلالة كونية تتجاوز خصوصيتها المحلية ، وتتخذ صفة كونية ، وتصبح وكأنه لا علاقة لها بحدث محدد وقع في التاريخ المحسوس
وهكذا فالقرآن عن طريق العمليات الأسلوبية والبلاغية التي يتبعها يمحو المعالم المحسوسة ، والإشارات التاريخية الدقيقة ، عن طريق أسلوب التسامي والتصعيد ، أي تصعيد هذه الأحداث بالذات ، وإسباغ الروحانية الدينية والكونية على مفردات ذات مضمون اجتماعي وسياسي وقانوني في الأصل وهكذا ينجح ( القرآن ) في محو كل التفاصيل والدقائق التاريخية للحدث ، ويصبح خطاباً كونياً موجهاً للبشر في كل زمان ومكان ، وهكذا يفقد صفته التاريخية فيبدو وكأنه خارج التاريخ أو يعلو عليه( ).
يرجع آركون اختلاف الخطاب القرآني من حيث اللغة عن غيره من الخطابات ، ليس إلى تفوق القرآن ، الذي ركزت عليه نظرية الإعجاز في الدرس التراثي ، بل يرجع اختلافه إلى المعطيات الشكلية ، والنحوية والمعنوية والبلاغية والأسلوبية ، والإيقاعية الخاصة بالقرآن ، والتي يمكن حصرها والكشف عنها عمليا ، ثم يتكلم على دور المجاز في تشكيل كلية الخطاب القرآني ، فهو الذي يتيح تحوير الحقائق الوجودية الأكثر يومية وابتذالا ، ويجعل منها بنيات متسامية من أجل أسطرة وترميز مناخ الوعي الديني الجديد الذي يراد تأسيسه ( ) ، وهو بهذا الإدعاء ، يريد أن ينسف كل الدراسات التي تناولت إعجاز القرآن ، ويكشف عن حقيقته التاريخية ، وهذا يعني أن التقديس للقرآن كان سبب هذه البراعة القرآنية ، في التغطية على أرضيته . فهو يرى أن "هذا الكتاب..قدس أو خلعت عليه أسدال التقديس بواسطة عدد من الشعائر والطقوس والتلاعبات الفكرية الإستدلالية , ومناهج التفسير المتعلقة بكثير من الظروف المحسوسة المعروفة أو تمكن معرفتها ، وأقصد بها الظروف السياسية والاجتماعية والثقافية "( ) ، وهذا التقديس الذي خلع وأسدل " قد توضحت أسبابه ، وبرهن عليها فيما يخص التوراة والإنجيل , ولكنها لم تحصل حتى الآن في يخص القرآن . لماذا ؟ بسبب الظروف السياسية والثقافية والتربوية السائدة "( ). فمهمة آركون النقدية ، وجوهر عمليته التحليلية ، في العديد من كتبه ومقالاته ، هي الكشف عن البعد الإنساني في القرآن الكريم ، المتمثل في الأساطير وغيرها من أفكار تاريخية تعكس الفكر البشري .
وفي نفس المنحى ، تتجه دراسة أبو زيد ، ويتجه تأسيسه النظري ، في تحليل الخطاب القرآني ، فيقول في مقدمة كتابه (النص – السلطة – الحقيقة) - واصفا مضمون فصله الأول- : " يحاول تأسيس تاريخية النص الديني فلسفيا وعقيديا ولغويا ، كاشفا عن الطبيعة الإيديولوجية لتصور الأزلية ، ومبرزا تاريخيته ، عن طريق تفكيك بنيته المفهومية ، التي استقرت في الوعي الديني .."( ) ، إلا أن أبو زيد يختلف عن آركون في نقده الذي يقصد به - حسب مضمون الفصل الأول لكتابه : (الفكر الديني بين إرادة المعرفة وإرادة الهيمنة) - الموروث الديني ، والتأويل التراثي ، لا النص القرآني في حد ذاته.
فالتأويل التراثي أصبح يشكل هامشا ضروريا ومدخلا أساسيا في فهم القرآن ، فهو يسعى إلى خلخلة ما عرف بأنه ثوابت ، فأراد أبو زيد أن يكشف عن الأبعاد السياسية والثقافية التي أرست مفاهيم دينية خاطئة أملتها الأسيقة الثقافية . ويتفق مع آركون في أنسنة الخطاب القرآني ، ويبعد عنه أي تفسير لاهوتي فقوله تعالى : {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر : 9] ، لا يعني التدخل الإلهي المباشر ، فليس هناك تدخلات مباشرة بين السماء والأرض ، إلا من خلال مضامين القرآن ، فحفظ القرآن كان عن طريق الإنسان( ).
إن الممارسات النقدية للدين ، لدى الكثير من المفكرين العرب لا تكاد تخرج عن المرجعية الماركسية، والإلتزام بمقولاتها بصورة معلنة أو مبطنة .
ومن أشهر هؤلاء المفكرين تأثرا بالماركسية – إلى جانب آركون وأبو زيد - في ممارساته النقدية للدين الدكتور حسن حنفي . فقد كان شديد الإلحاح على أن آيات القرآن هي من إنتاج الواقع الذي يفرضها ويستدعيها ، ففي مقدمته لترجمة كتاب (رسالة في اللاهوت والسياسة) دعا إلى تبني منهج سبينوزا في نقده للكتاب المقدس من أجل إعادة النظر في تعاطينا مع القرآن الكريم ، وهو بهذا يتبنى منحا ماديا بحتا في التفسير( ).
في حين يقترح طيب تيزيني ، ثلاث قواعد منهجية ينبغي تفسير النشاط الفكري السلفوي من خلالها وهي : "- عدم فصل الأيديولوجيا عن الواقع المادي – عدم فصل الدليل عن الأشكال المحسوسة للتواصل المجتمعي – عدم فصل التواصل وأشكاله عن قاعدته المادية"( ).
ويصف طيب تيزيني التأويل السلفي بأنه موقف ذهني إيديولوجي ، ينتج نفسه ويعيد إنتاج نفسه مرارا ، وهذا القصور في الوعي السلفي – حسبه – يبرز حيال إدراك الوعي بالعلاقة الواقعية بين الاجتماعي المشخص ، ومنتجاته الذهنية ، بين الموضوع المؤنسن والذات المموضعة ..بين الدال والمدلول ، والواقع والفكر ( ) .
إن أهداف القراءة الحداثية بأبعادها الماركسية هي : البرهنة على أن العمل التأويلي الذي مورس على القرآن الكريم ، لم يكن إلا حصيلة استنطاق بشري لا يخرج - وإن توهم العكس – عن مرجعيته الثقافية وخلفيته المعرفية ، فهو في الأخير مضامين إنسانية.
ويذهب أحمد إدريس الطعان ، إلى أن الماركسية تعد مرتكزا أساسيا لأطروحات العديد من المفكرين الحداثيين ، في مقاربتهم للخطاب القرآني ، فلم تكن هذه المقاربات إلا إسقاطات تطبيقية لمقولات ماركس على نصوص الوحي. وما تناولهم لمباحث : (الناسخ والمنسوخ والمكي والمدني وأسباب النزول ..) إلا تبريرات للماركسية ، ومحاولة لإثبات تأثر القرآن بالواقع ، واثبات أنه استجابة للمتطلبات الاجتماعية( )، وهو الأمر الذي نجده عند أبو زيد فقد وجد في مقولة (الناسخ والمنسوخ) مدخلا مناسبا ، ليثبت من خلالها ، بأن القرآن الكريم ، ما هو إلا استجابة للواقع . يقول : " وما دام النص نصا متوجها للواقع ، فلا بد أن يراعي شروط الواقع "( ) ، يقارب أبو زيد (الناسخ والمنسوخ) ، من جهة المقاصد الكبرى للشريعة ، ومن جهة وجود العلة التي تستدعي الحكم ، فلا مانع عنده من رجوع حكم الآية المنسوخة إذا استدعاها الواقع مرة أخرى "وذلك لأن حكم المنسوخ يمكن أن يفرضه الواقع مرة أخرى "( ) ، إن أبو زيد يطمح إلى تطويع الشريعة للواقع ، وبذلك يصبح الانتقاء من أحكامها ممارسة مبررة ، معطلا بذلك مدلول قوله تعالى : { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا } [المائدة : 3] .
إضافة إلى المرتكزات النظرية التي أمدت بها اللسانيات والبنيوية والماركسية المشروع الحداثي عند المفكرين العرب المعاصرين ، هناك مرتكز نظري آخر ، يلتقي مع ما سبقه من نظريات في خدمة المشروع الحداثي لأبي زيد و آركون وغيرهما من الحداثيين ، هذا المرتكز هو : (نظرية التلقي) .
وقد برزت هذه النظرية إلى الوجود النقدي ، لتحل إشكالية المعنى داخل النص ، وذلك أولا بتخليها عن فكرة المعنى الواحد في النصوص ذات الطابع التخييلي ، ثم بإرجاع التعدد الدلالي إلى المتلقي ، فهو المسؤول الأول عن إنجاح التواصل الأدبي ، فالأدب هو فعل تواصلي . هذا ما وصلت إليه التداولية يقول حسين خمري : " وإذا تحدد أن الوظيفة التواصلية تعتبر جوهر النص ، فإن كل نص يعتمد على إرادة في التواصل ، وكل تواصل هو فعل ، وبهذا فإن النص يمثل أو ينوب عن الفعل "( ).
إن البعد التواصلي للنصوص هو ما استحضره ياوس وآيزر رائدا مدرسة (كونستانز الألمانية) بتأثر من المنهج التداولي ، يقول آيزر : " بما أن النص والقارئ يدمجان في وضعية واحدة ، فان الفصل بين الذات والموضوع لم يعد صالحا ، وبالتالي فان المعنى لم يعد موضوعا يستوجب التعريف به ، وإنما أصبح أثرا يعاش "( )، يعيشه المتلقي ، ويصبح النص فعلا تواصليا بين طرفين هما : المرسل الذي لا تعني رسالته شيئا بدون وجود الطرف الثاني المتلقي . الذي عدته نظرية التلقي المحرك المعتمد أساسا في الفعل التواصلي ، فمن خلال مشاركته في تنظيم وتوجيه الخطاب المتكون أساسا من مجموعة من العلاقات اللغوية وغير اللغوية ، والقارئ ينظم الخطاب وفقا لهذه العلاقات انتظاما معينا ، أي أن أسيقة التلقي هي التي تتحكم في المسار الدلالي للنص ، وهذه الأسيقة تحكمها الأرضية الثقافية التي يقف عليها أي قارئ فهي المحدد لعملية التأويل برمتها .
اعتبر آركون نظرية التلقي هذه امتدادا للتاريخية ، واستعملها ضمن نفس المنظور الذي حدده لها (هانس ر جوس ) في كتابه (من أجل جماليات التلقي) ، فقرر أن الجمهور وتفاعله المستمر مع الأعمال الأدبية والفنية هو الضامن لاستمرارها وبقائها . ومن هذا المنطلق لا يجد آركون أي حرج في أن يجعل القرآن عملا أدبيا أو فنيا لكنه من مستوى عال على حد تعبيره ، ليسقط بعد ذلك عليه كل تفاصيل النظرية، ويخلص إلى أن القرآن من حيث معانيه ، هو عبارة عن خلق جماعي ، صنعته المشاركة والتفاعل الذي مارسته المجتمعات الإسلامية ، التي مستها روح الوحي عبر التاريخ( ).
هنا يمكن مسائلة آركون : صحيح أن التلقي يصنع معان عديدة للنص الواحد ، بناء على خلفيات المتلقي ، لكن كيف نفسر مثلا الإجماع على الثوابت .؟ لماذا أخذت الدلالة منطق الثبوت لا التعدد في بعض القضايا في الفكر الإسلامي .؟ الجواب بسيط فهناك فرق بين تأويل يستند على قرائن نصية ، و تأويل لا يستند إلا على إملاءات نفسية المتلقي ، وميولاته العاطفية أو الفكرية ، وهذا ما جعل (أمبيرتو ايكو) يدعو إلى ضرورة التشبث بإقصاء جميع التأويلات التي يرفضها النص "فأي تفسير لجزء من نص يمكن قبوله ، إذا تم التثبت منه ، ويجب أن يرفض إذا ما عارضه جزء آخر من نفس النص . وبهذا المعنى يتحكم التماسك النصي الداخلي في دوافع القارئ التي يتعذر التحكم فيها "( ).
إذا أردنا أن نحاكم القراءات الحداثية بنفس المنهج -المستمد من (نظرية التلقي)- الذي حاكموا به الموروث التراثي، والدراسات القرآنية القديمة ، لقلنا إن تشابه خطاب الحداثة ، يعود إلى أن تلقي أعلامها للقرآن الكريم ينطبع بنفس الميول ، وما ذاك إلا لأنها تشكل مجموعة إيديولوجيا أفرزتها ظروف فكرية وسياسية معينة.
إن ما ينادي به النقد الحداثي للقرآن الكريم ، هو مجموعة من الأفكار المتكررة كثيرا في أطروحات أعلامه، تعضدها وتغذيها الأيديولوجيا أكثر من العلمية، وتفتقر في منهجياتها في أغلب الأحيان إلى الأهداف. تتمحور هذه الأفكار في جلها حول فكرة (نزع القداسة والأنسنة لنصوص الوحي ، واستبعاد التأويل اللاهوتي ، وانتقاد وتسطيح الدرس التراثي) ، فيذهب أبو زيد إلى أن الخطاب الديني في مرحلته الأولى، أضفى على بعض ألفاظ القرآن من مثل (الكرسي و العرش و الشياطين والجن و ..) ( ) تفسيرا أسطوريا كتب له البقاء ، على الرغم من أن الإنسان قطع شوطا كبيرا في كل المجالات الثقافية ، فهو يرفض كل التفسيرات اللاهوتية ، لأن القارئ لم يعد ذلك الإنسان البسيط الذي لا يعرف إلا ما تراه عينه من مظاهر الصحراء، إن الإنسان ومستواه الثقافي والوعي الذي يكتسبه هو الذي يمد النص بالمعاني ، فللخطاب السلفي فهمه الذي يناسب بيئته الثقافية ولنا فهمنا الذي ينبغي أن لا يظل أسير لحظة تاريخية معينة .
أما آركون فيذهب إلى أبعد من هذا فيسم قصص القرآن نفسها – لا التأويلات المرتبطة بها - بالأساطير فقد تعامل مع الكثير من قصصه تعامله مع الأساطير ، مستندا في ذلك الإدعاء على مقولة (التناص) في محاولة منه لإثبات التداخلات النصية للكتب السماوية السابق داخله ، هذا من جهة ومن جهة ثانية وجود المخيال الشعبي لمنطقة الشرق الأوسط القديم منسوجا في بنيته يقول : "..وهنا نريد أن نقوم بقراءة أفقية للخطاب القرآني ، وذلك ضمن منظور المدة الطويلة جدا بحسب تعبير المصطلح الشهير للمؤرخ الفرنسي فيرنان بروديل ، هذه المدة الطويلة جدا سوف تشمل ليس فقط التوراة والإنجيل وهما المجموعتان النصيتان الكبيرتان اللتان تتمتعان بحضور كثيف في القرآن، وإنما ينبغي أن تشمل كذلك الذاكرات الجماعية الدينية الثقافية للشرق الأوسط القديم"( ) .
قد قام آركون بمحاولة إسقاط نظرية (التناص) على سورة الكهف ، فخلص إلى أنها تناص مع المخيال الثقافي لمنطقة الشرق الأوسط القديم ، متجاهلا بذلك إمكانية تحول الحقيقة إلى أسطورة ، يقول: "إن سورة الكهف تشكل مثلا ساطعا على ظاهرة التداخلية النصانية الواسعة الموجودة أو الشغالة في الخطاب القرآني ، فهناك ثلاث قصص هي : أهل الكهف ، وأسطورة غلغاميش ، ورواية الإسكندر الأكبر ، وجميعها تحيلنا إلى المخيال الثقافي المشترك والأقدم لمنطقة الشرق الأوسط القديم .." ( ) ويستمر آركون في تحليله لهذه القصص التي وصفها الله تبارك وتعالى بقوله : {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} [يوسف : 3] ، متعاملا معها على أنها أساطير فيقول : " وفي كل واحدة منها نلاحظ انبثاق البطل الذي سيتلقى الرسالة ويستخدم المعرفة المتضمنة فيها لكي يغير مجرى الوجود البشري ومعناه النهائي باعتباره مرتبطا بالله وتعاليمه .."( ).
ولأن الخطاب الحداثي يطمح إلى إبراز المسكوت عنه في الخطاب التراثي برمته ، وكذلك في الخطاب القرآني نفسه ، فقد انتهج بعض أعلام الحداثة (التفكيكية) سبيلا في الوصول إلى ذلك المقصد.
يدل مصطلح التفكيكية " في مستواه العميق على تفكيك الخطابات والنظم الفكرية ، وإعادة قراءتها بحسب عناصرها ، والاستغراق فيها وصولا إلى الإلمام بالبؤر الأساسية المطمورة فيها ..إن التفكيكية تحاول إبراز الشك في مثل هذه البراهين ، وتقويض أركانها ، وتصديع بنى الخطاب ، مهما يكن جنسه ونوعه ثم هي تفحص ما تخفيه تلك البنى من شبكات دلالية "( ).
يحمل المنهج التفكيكي - في مراميه الأصيلة المرتبطة بنشأته - في الوسط الأوربي - أبعادا ثقافية تبرره وأهم هذه الأبعاد هي محاولة الكشف والتفريق في الثقافة الأوربية بين ما هو ميتافيزيقي وبين ما هو موضوعي ، فمسعى التفكيكية الأساسي هو القبض على تناقضات الخطابات ، وكشف الغائر والمبعد والمخفي بداخلها ، واستنطاقها لإنتاج نصوص أخرى قد تقول ما أخفته النصوص الأصلية .
لكن " أن تتحول القراءة التفكيكية إلى ما أسماه دريدا (لا قراءة) أو (إساءة القراءة)"( ) ، فهذا هو ما يجعل منها منهجا للهدم والتشكيك ، ويجعلها نوعا من الترف العلمي الذي يفتقد إلى أهدافه .
إن تلقف الكثير من المعاصرين لمقولات التفكيكية ، والإتجاه بها نحو الخطاب الديني قصد زعزعة وتقويض بعض معانيه التي أخذها المسلمون وعلمائهم على امتداد قرون طويلة على أنها مسلمات ، ليس من السهل أن نسميه ممارسة علمية ، فهو أقرب إلى كونه توجها أيديولوجيا نحو هدم العقائد.
وهذا بالضبط ما فعله آركون ؛ إذ شق طريقه النقدي باتجاه نقض (نظام العقائد) كما وردت في القرآن نفسه ، وتأسيس الإسلاميات التطبيقية ، متأرجحا بين آليات علمية ذات نزوع جدلي تاريخي ، وبين منحا تفكيكي يفضي إلى هدم الحدود الفاصلة بين الثنائيات المتناقضة ، ومنها (العقل واللاعقل) والقول بلا نهائية المعنى ( ).
انتهى الموقف التفكيكي بآركون حيال العقائد الإسلامية بالقول : بأن القرآن ظاهرة لغوية وثقافية ، قبل أن يكون تركيبات عقدية أو لاهوتية ، وأن الوحي تجربة بشرية لا يختص بالانبياء وحدهم ، وأن العقائد لها ارتباط بالرهانات السياسية المختلفة ( ).
وهذا ما جعل علي حرب يسمي قراءة آركون المنصبة على النص القرآني والتراث الإسلامي بأنها (انفلاش) منهجي ، ويسمها بالميوعة ، مبررا - أي علي حرب - التذبذب المنهجي عند آركون ، بكون الشاغل لآركون في كل كتاباته العلمية ، هو ترصد ما تقترحه الحداثة الفكرية الغربية من برامج للعمل ، وما تقدمه من فروض للبحث ؛ فهو يريد في الأخير أن يجعل اللامفكر فيه ممكنا ومعقولا( ). أي أن جهد آركون النقدي كان ينصب على محاولة استفزاز الفكر العربي ، واستنفاره لخوض مجالات نقدية أوسع وأرحب من دون اشتراطات أصولية تراثية . هدفه هو تحرير العقل العربي .
ولعل ماذهب إليه علي حرب - هنا - ينسحب على كثير من القراءات الحداثية الأخرى فبتتبع مختلف كتابات المعاصرين الداعية إلى فهم كتاب الله في ضوء المناهج الحديثة لتحليل الخطاب ، نجد قاسمها المشترك هو الرغبة في إسقاط ما أفرزته مختلف النظريات الغربية على النص القرآني ، إنه تجديد من أجل التجديد ، ودون مراعاة الخصوصية الثقافية للدرس العربي في هذا المجال . فما من منهج نقدي ظهر في الغرب ، إلا ووجدت له صدى في الدرس القرآني .
لا تعتمد القراءة الحداثية في معظمها على منهج علمي بعينه تلتزم به حتى النهاية ، بل تلجأ دائما إلى التلفيق المنهجي تحت مسمى التكامل المنهجي ، لكنها تغفل التناقض والتصادم بين هذه المناهج ، فقد يستعمل الواحد منهم مثلا المنهج البنيوي ونظرية التلقي معا - كما فعل أبو زيد وآركون - في حين يفترض بالدارس أن يختار سبيله المنهجي بدقة . إما التركيز على البنية اللغوية - في هذا المثال - والإيمان بانغلاق النص على نفسه ، أو العكس التسليم بانفتاح الدلالة ، ودراسة سياقات التلقي ، حتى تتحدد معالم دراسته بوضوح ، وحتى لا يسير به البحث في دهاليز قد تضيع فيها أهداف الدراسة وغاياتها. فعلى الرغم من إنتماء المناهج إلى مجال العلوم الإنسانية ، وادعائها الحياد والموضوعية والعقلانية ، إلا أنها تصل إلى نتائج متضاربة ومتناقضة مما يؤكد الطابع الإيديولوجي لها( ) . هذا إذا كان المنهج المعتمد واحدا ، أما إذا اعتمدت منذ البدأ على (التلفيق المنهجي) . فإن التضارب في النتائج سيكون أشد .
إن المنهج العلمي الناجح يفرض نفسه، في الساحة الثقافية بنتائجه ، وهو الأمر الذي لم تصل إليه - حتى الآن - أي من هذه القراءات " فظلت جهود هؤلاء الدعاة عند وضع حدود مشاريع وتطبيقها على بعض النصوص ، وقد يقضون أعمارهم متراوحين بين مختلف المناهج.." ( ) ، دون أن يصلوا أو يصل أحدهم إلى تفسير علمي متكامل للقرآن الكريم. بل إن النتائج السلبية لهذه المغامرات العلمية كثيرة جدا ، وأهم هذه النتائج السلبية هي إحداث قطيعة مزدوجة أولا : بين الدرس التراثي العربي والدراسات المعاصرة ، فكانت هذه القراءة قفزة على المتحقق الثقافي العربي ، وشطب لأهم إنجازاته ، وثانيا : بين النخبة من دعاة الحداثة وبين عامة المسلمين، فلم يكن في وسع هذه القراءة أن تصل إلى القارئ البسيط المسلم، ولا يدخل في حيز اهتماماتها أن تسلك به مسلكا يغير به من واقعه المأزوم، وكل ما صحب هذه القراءات من نتائج ، هو مزيد من الضبابية في واقعنا الثقافي المأزوم، ومزيد من الخيبات العلمية ، التي تضاف إلى خيباتنا السياسية والإقتصادية ، وكان بإمكان هذه القراءة، أن تحقق شيئا لو أنها بحثت لها عن حاضنة داخل ثقافتنا العربية ، المبنية على النقل، فلطالما استمد العرب من نصوص القرآن ما جعلهم أسيادا في شتى مجالات الحياة الفكرية والعملية، في حقبة زمنية مضت ، ويمكن أن نختم هذا المقال ، بمقولة علي حرب ، التي تصف بصدق المشهد الثقافي العربي ، في ماضيه وحاضره يقول : "فالامعقول جزء من حقيقة الإنسان ، والمنقول مرجع المعقولية العربية على نحو خاص ، ولقد أدى نفي المنقول باسم المعقول إلى عودة المنقول مكبوتا ، وإلى تعاظم سلطان الوهم واللامعقول أكثر من أي يوم مضى "( ).
قائمة المراجع :
1- صلاح فضل ، نظية البنائية في النقد الأدبي ، دار الشروق ، القاهرة ، الطبعة الثانية 1968.
2- بول ريكور : نظرية التأويل الخطاب وفائض المعنى ، ترجمة سعيد الغانمي ، المركز الثقافي العربي ، لدار البيضاء ، المغرب ، ط الثانية ، 2006 .
3- محمد آركون ، القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني ، ترجمة هاشم صالح ، دار الطليعة بيروت ، لبنان ، الطبعة الثانية 2005 .
4- محمد أركون الفكر العربي ، ترجمة عادل العوا ، منشورات عويدات بيروت ، باريس ، الطبعة الثالثة 1985 .
5- الزمخشري : تفسير الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل ، ط الثالثة ، دار المعرفة ، بيروت، 2009 .
6- يوسف نور عوض : نظرية النقد الأدبي الحديث ، دار أمين ، القاهرة ، ط الأولى ، 1994 .
7- أحمد إدريس الطعان : العلمانيون والقرآن الكريم – تاريخية النص – دار بن حزم للنشر والتوزيع ، ط الأولى ، المملكة العربية السعودية ، 2007 ، ص 659 .
8- محمد ساري : الأدب والمجتمع ، دار الأمل للطباعة والنشر ، الجزائر ، ط الأولى ، 2009 .
9- حسين خمري : نظرية النص من بنية المعنى إلى سيميائية الدال ، منشورات الاختلاف ، الجزائر ، ط الـأولى 2007.
10- محمد أركون : الفكر الإسلامي قراءة علمية ، ترجمة هاشم صالح – ط الثانية ، المركز الثقافي العربي ، الدار البيضاء، المغرب ، 1996 .
11- محمد نديم خشفة ، تأصيل النص لدى لوسيان غولدمان ، مركز الإنماء الحضاري، حلب، ط الأولى ، 1997.
12- علي حرب : نقد النص ، ط الرابعة ، المركز الثقافي العربي ، بيروت ، الدار البيضاء ، 2005 .
13- نصر حامد ابو زيد ، النص، السلطة ، الحقيقة ، الفكر الديني بين إرادة المعرفة وإرادة الهيمنة ، ط الأولى ، المركز الثقافي العربي ، الدار البيضاء ، 1995 .
14- عبد الرزاق هرماس : القرآن الكريم ومناهج تحليل الخطاب، جامعة قطر ، حولية كلية الشريعة والقانون والدراسات الإسلامية ، العدد التاسع عشر، 1422هـ .
15- طيب تيزيني : النص القرآني أمام إشكالية البنية والقراءة ، بدون طبعة ، دار الينابيع ، دمشق ، 1997.
16- نصر حامد أبو زيد : مفهوم النص ، -دراسة في علوم القرآن – بدون طبعة ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، 1990.
17- فولفغانغ آيزر : فعل القراءة –نظرية جمالية التجاوب في الأدب – ترجمة حميد الحميداني –الجلالي الكدية ، مطبعة النجاح الجديدة ، الدار البيضاء ، المغرب 1995.
18- أمبرتو إيكو : حكايات عن إساءة الفهم ، ترجمة ياسر شعبان ، الهيئة العامة لقصور الثقافة ، القاهرة ، ط الأولى ، 2006 .
19- بسام قطوس : استراتيجيات القرآءة التأصيل والاجراء النقدي بدون طبعة ، مؤسسة حمادة ودار الكندي ، اربد 1998.
20- ينظر– شاكير أحمد السحمودي ، مناهج الفكر العربي المعاصر في دراسة قضايا العقيدة و التراث ، ط الأولى ، مركز التأصيل للدراسات والبحوث ، المملكة العربية السعودية ، 2010 .
21- علي حرب : التأويل والحقيقة – قراءات تأويلية في الثقافة العربية – ط الثانية ، دار التنوير للطباعة والنشر ، بيروت، 2007 .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بايدن يؤكد خلال مراسم ذكرى المحرقة الالتزام بسلامة الشعب الي


.. نور الشريف أبويا الروحي.. حسن الرداد: من البداية كنت مقرر إن




.. عمليات نوعية لـ #المقاومة_الإسلامية في لبنان ضد تجمعات الاحت


.. 34 حارساً سويسرياً يؤدون قسم حماية بابا الفاتيكان




.. حديث السوشال | فتوى فتح هاتف الميت تثير جدلاً بالكويت.. وحشر