الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


في سيميائيّة الكذب والسرقة

محمد خريف

2022 / 4 / 26
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


مدخل


مِنْ فِقْه اللّغة إلىَ فَلسفة العَلامَة


إنّ الْمُرورَ من التّفكير في نِطَاقِ مَايُعْرف ب" فقه اللّغة" إلى التّفكيرفي مجالات مايُعرف ب" فلسفة العلامة" أو"السّيميائيّة" لا يُمكن أنْ يُنجزَأو أنْ يَكُونَ دون المُرور بمراحل التّفّكير في علم اللّسان ومشتقاته، فمُبتكراته المُؤدّية إلى التحرّر من هيْمنة الجانب الأخْلاقويّ على التفكير في مسألة "الكذب والسّرقة" باعتبارهما ظاهرتيْن إنسانيّتيْن، قد لايُعرف لهما تاريخ محدّد أو جغرافيا محدّدة.لكنهما يُعدّان في فقه اللغة من عمل الشيطان ينهى عنهما الله ويحذّر الإنسان من مغبّة ارتكابهما.
هذا الاِعتقاد السّائد مُنذ الديانات القديمة ومنها الدّيانات الزرادشتيّة واليهوديّة فالمسيحيّة والإسلاميّة ،تطبّع فقه اللّغة في جميع فروعه ومجالاته بطباع فقهاء العقيدة فعدّ الكذب كالسرقة منبوذا إلاّ بشروط وهو خطيئة من الخطايا أوكبيرة من الكبائر يعاقب الله مرتكبها يوم القيامة.هذا ولم تكن دراسات فقه اللغة في العربيّة نحوا وصرفا وبلاغة بمنأى عن التّأثر إلى حدّ كبير بعلوم فقه الحديث والسنة على أساس أن السّرقة والكذب يعدّان من العقبات التي تعوق الباحثين الساعين إلى أدراك سبيل الصدق و إعطاء لقيصر ما لقيصر ،فيظلّ ديْدن فقه اللغة ومبتغاه هادفا الى نيل رضاء الخالق ومن مظاهره إفناء العمر في الحِجاج على صدق البيان وأساسه القرءان بماتتطلبه دراسة اللغة من واجب خدمة الدّين والعقيدة في ظل الشريعة وما تقتضيه من دلائل الإعجاز، لذلك كادت الدراسات اللغوية العربية أن تظل على ماهي عليه لولا تأثر تلك الذراسات بعلم اللسان الحديث بوصفه علما مستحدثا يقطع مع مبادي فقه اللغة على أساس أن اللغة اعتباطية لاتوقيفيّة حسب نظريّة سوسير التي قلبت المفاهيم التقليدية لعلم اللسان وعوضتها بمفاهيم حديثة تجعل العلامة اللسانية قابلة للدراسة العلمية بمنأى عن التأثر بفقه اللغة الخاص بلسان دون آخر ومن العلامة اللّسانية ينفتح المجال لدراسة العلامة في معناها الواسع ومنه علم السيميائية المنبني على فكرة أن العلامة فارغة وليست أساسية لذلك تحولت دراسة الكذب والسرقة من دراسة فقهية أخلاقية إلى موضوع دراسة علاماتية علمية جديرة باهتمامات النقد السّيميائي الحديث و المعاصرومن وجوهه بارت وأيكو، فلم يعد مبدأ الإسناد في التحليل الأرسطي أساس الدراسات اللغوية لاسيّما مع تمرد الايطالي فيكو على المنهج التحليلي. ولعل الاطلاع على تخريجات امبرتو ايكو ودريدا وبارط وغيرهم من السيميائيين المحدثين يغري بطرق موضوع الكذب والسرقة وتحسس مجاولات البحث فيه حسب منطق مختلف يجعل موضوع الكذب والسّرقة محلّ اهتمام الباحث السّيميائي خلافا لما تعوّدنا عليه في المباحث التقليدية ونحن في الطريق إلى مما نسعى إليه من اجتهاد لايخلو من طرافة مغامرة البحث في موضوع قد لا تكون نتائجة مضمونة التحديد و ذرائعها تحفزنا على البحث في المسألة.
الكذب والسّرقة من الرّذيلة الأخلاقيّة إلى الفضيلة السّيميائيّة
الكذب شأنه شأن السّرقة، وما يدخل في حقولهما العلاماتيّة من أيقونات الرذائل الأخلاقية المنبوذة ومنها :رذيلة الزنا أوالخيانة خيانة المؤتمن وغيرها من الرّذائل التي تظل تكدّرصفو عيش الإنسان الطبيعيّ من مولده حتى مماته ولا يجد لها جوابا صادقا مقنعا ، لذلك سُميت دنياه بدار الباطل وسُمّيت آخرته وهما بدار الحقّ، فكأن لمفهوم الحياة أن يظل مقترنا بهذه العلامات الفارغة المشحونة بما لايملؤها، وهي علامات يصنعها الإنسان ذاته وينسبها إلى غيره الداخل في حكم الغيب المجهول، ولمواجهة عجزه الوجوديّ والامر يتعلق بسبيبّة الغارق الباحث عن وهم العلامة متعاضدة مع غيرها من العلامات الكاذبة لصناعة مفاهيم افتراضيّة أخلاقيّة اجتماعية أو دينية لاهوتية تتخذ شكل الآيات منزّلة بسلطان التسليم والقبول اليقينيّ، ومن ذلك التذرّع بذرائع وجدانيّة مفهوميّة تظل مشاريع إيديولوجية مستقبلية وهميّة منها مشروع الحق أو خلافة الحق في مقابل رفض ما يعرف وهما بواقع الباطل أو دار الباطل وما تقتضيه ألأصول الفقهيّة ، هذاو مفهوم الباطل شأنه مفهوم الحقّ ضروريّ لاستمرار الحياة عند البشر في علاقة بمحيطها سواء أكان حيوانا أوجمادا، والمفهوم متحوّل لأنه لايقينيّ وغير ثابت متى اقترن بمفهوم العلامة الفارغة وقد لا يملأها صانع الكلام ألا وهو الإنسان إلا بمفهوم ثنائية الكذب والصدق ذلك المفهوم الذي به يشرّع لعلاقة اعتباطيّة بين الدّال والمدلول لولادة طبع جديد ألا وهو طبع الرّواية الكاذبة لا طبع الآيةّ "الصادقة المنزّلة"، وماطبع الرّواية الكاذبة سوى طبع الحديث المُرجّم حديث سوء النيّة يناقض طبع الآية طبع حسن النية، والكذب كذبان كالسرقة سرقتان. كذب منبوذ وكذب محمود، كذلك السّرقة سرقة محمودة وسرقة منبوذة ،وماهو منبوذ من السّرقة أو الكذب كل كذب أو سرقة نهت عنها أكاذيب كبرى مرتبطة بسرقات علاماتيّة كبرى وردت أخبارها في دواوين الأشعار والكتب السماوية وأحاديث السير والأمثال والنوادر والمقامات والقصص والروايات ،ومن الأكاذيب والسرقات العلاماتيّة الكبرى و ما صيغ منها من مختارات في كتب ومعجزات اتخذت شكل البدع والأساطير ومنها أساطير اللاهوت والميتافيزيقيا الالاهية-
ولنا في أخبار السّرقة والكذب ما يشبه في تاريخيته وجغرافيّته أخبار الكذب والسرقة في توظيفها من أجل التأديب للاعتبار والاتعاظ أملا في تنشئة الأحداث على طباع الصدق في القول وإعطاء لقيصر ما لقيصر.
لكن مَ السّرقة ؟ ومَ الكذب؟ ومَ الخبرفي علاقة بالرواية والحديث؟ وهل من علاقة بين صياغة الخبر وعلاماته المتلونة بتلوّنات تدابير المُخبروخدعه لتقديم الكذب في قالب حقيقة أو التشريع لسرقة تصير حقا مشاعا لمرتكبها ؟
الأسئلة حول السّرقة والكذب طرحها بهذه الكيفيّة السيميائيّة نادرعند العرب أوهو يظل مأمولا من خلال مشروع البحث في المدونة العلاماتيّة العربيّة الإسلامية في خلافة الحق ورأسها "القرءان" نص ذائقة "الأوحد الأحد" رغم أن سؤال الكذب باعتباره سؤالا سيميائيّا لم يكن بمنعدم في إمبراطورية الباطل وأيقوناتها أدبيّة عديدة مختلفة باختلاف أنماط الرّواية التي يكون محرّكها الأساسي الكذب والسرقة بهما تنمو الأجنة السّيميائية متحوّلة متمرّدة على أشكالها فلا هي مستقرّة في هيأة و لاهي ثابتة في حال من الأحوال اللّغويّة.ولعل أمر تحوّلات الخبر في الرّواية الغربيّة من سرفنتس إلى ايكو ماسخا ممسوخا كاذبا واهما سارقا مسروقا يشرّع للقول: "إنّ مسار الرّواية في مفهومها الاصطلاحي مسار صراع دؤوب لاينتهي هو مسار الجري وراء إعلاء راية الكذب لا الصدق كما تتوهم رواية خلافة الحق رواية النيّة الحسنة لا النيّة السيّئة التي هي جذوة كل عمل فنّيّ" فالفن كذب وسرقة أو لا يكون" وكذلك الأدب ومنه الرّواية في مفهومها الفني خطاب العصر الحديث غير المحدّد.لكن قبل التحوّل إلى مقاربة الكذب والسرقة باعتبارهما ظاهرة علاماتيّة مفرغة من تراكمات الشحن التأويلي الذي ثقلت موازينه بالتحديد العقائديّ المكرّس لسلطة الأخلاق التي تنظر إلى السّرقة والكذبة نظرة إدانة، باعتبارهما خطيئة شيطانيّة منبوذة بتدبيرربانيّ الاهيّ تمويهيّ ، و إذ السرقة والكذب خطيئتان منبوذتان منذ الديانات القديمة ولا سيّما الزرادشتية وان لم يكن للكذب والسرقة شرعيّة احتفاء بهما كبير في المدوّنة العلاماتيّة العربيّة القديمة في الشعر الجاهلي( باستثناء شعر الصعلكة) وهما منبوذان في سجع الكهان وفي الكتب السماوية وغيرها : كالتوراة والإنجيل والقرءان تأثّرا بتعاليم الديانة الزرادشتية والفلسفات القديمة كالأفلاطونية وغيرها.

من كذبة دار الحقّ إلى حقيقة دار الباطل



كان جدّي يقول لمّا كان على قيد الحياة:" نحن في دار الباطل وهم في دار الحقّ"، و ويقصد ب"هُم" الموتى في قبورهم ، ودار الباطل هذه هي الدّنيا -أما دار الحقّ فهي الآخرة، ودار الباطل دار الكذب والزّيف ويسمّيها المعرّي "أم دُفر" كما يسمّيها غيره بأسماء أخرى وينعتونها بالغادرة أو الكاذبة اللّعوب السارقة،والتسمية وان كانت أداة تلغي كل ما في الدّنيا من تفرّد وخصوصيّة كما يقول بلانشو* لصالح التأثرالبليغ بالحوافّ الدّينيّة التي هي متأتّية من ملهمات الفلسفات المثالية وعلى رأسها فلسفة أفلاطون،فغدا الحق مطمح الإنسانيّة وغايتها المثلى وصار الباطل منبوذا غير مرغوب فيه، ودار الحق دار الموت دائمة ، نفارقها بالولادة ونعود إليها بالوفاة ،ولأفلاطون آراء في الباطل أي الكذب بصنفيه الحقيقيّ والقوليّ** فالحقيقي مرفوض والقوليّ مقبول أو مسموح به.ويظل الصّراع بين محور الحقّ وعنوانه "الخلافة الحق" ولا سيّما الخلافة الإسلاميّة مأسوفا عليها وهما، وهامش الباطل وعنوانه دوله يعتبرها دعاة الحقّ دول الشرّبل إمبراطورية الباطل وتضمّ منذ القديم إلى اليوم روما وأمريكا وإسرائيل وغيرها من البلدان التي يعتبرها أهل الحقّ شيطانيّة. لكن الحقّ وان حظي بالعناية والاهتمام عبر التاريخ وكان مهمة المصلحين وغاية رسالتهم في الارض وهم من فقهاء وفلاسفة وأنبياء ورسل ودعاة خير وإصلاح فان الكذب أو الباطل باعتباره سلوكا بعضه محمود وبعضه منبوذ لم يهمله رواد الفكر القديم من فقهاء وفلاسفة أمثال افلاطون وأرسطو وغيرهما كما اهتم به باعتباره مبحثا علاماتيا علميا سيميائيون أمثال امبرتو ايكو في نطاق ما يسمى "بسيميائيّة الكذب" وعن الكذب.يقول بيار سار في كتابه "حوارات التاريخ القديم"* وهو كتاب صادر عام 2010 يتناول مسألة الكذب من أفلاطون إلى سانت أوقستان: فالكذب عند الكتاب القدامي أمثال ستوباي ونيجيد يوس يتحدد بالإرادة والنية يحمد منه ما لا يلحق الضير بالبشر وينبذ منه الكذب الآخر الذي يهدف إلى المغالطة ف"كذب" تختلف عن "قال كذبا" وكذلك صنف أفلاطون الكذب صنفين مختلفين: كذبا حقيقيا وآخر قوليا أو كلاميا.
*Pierre Sarr:Dialogues de l’Histoire ancienne :Discours du mensonge de Platon à Saint Auguistin- persée 2010
*ناقد








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. زيارة الرئيس الصيني لفرنسا.. هل تجذب بكين الدول الأوروبية بع


.. الدخول الإسرائيلي لمعبر رفح.. ما تداعيات الخطوة على محادثات 




.. ماثيو ميلر للجزيرة: إسرائيل لديها هدف شرعي بمنع حماس من السي


.. استهداف مراكز للإيواء.. شهيد ومصابون في قصف مدرسة تابعة للأو




.. خارج الصندوق | محور صلاح الدين.. تصعيد جديد في حرب غزة