الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


من أين جاء نظام الكون؟

محمد علي عبد الجليل

2022 / 4 / 28
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


الكَون في مُستَوَيَـيـهِ الـماكروكوسمي (الفَلكي) والكوانتي (الذَّرّيّ) عشوائي تحكمه المصادَفة والعَرَضية والفوضى (أو الشواش Chaos).
والنظام موجود فقط في إدراكنا البشري للكون المرئي أو المدرَك. بمعنى أن دماغنا البشري هو الذي يخلق النظام ولا يوجد دليل أو مَظهر يشير إلى وجود قوة خارجية خَلَقَت كوناً منظَّماً.
النظام الذي يراه دماغنا في الكون المرئي هو من اختلاق دماغنا وحدَه، أي أن دماغنا ينظّم مُدخَلات الحواس ويُـؤَوِّلها على شكل "نظام" لا فوضى؛ وبالتالي فالعالَم المنظَّم هو صورة دماغية، صورة "وهمية"، هو وَهْم (باطل)، بمعنى أنها لا تُطابق "الحقيقة"، بل تطابق ما يريد أو يستطيع دماغُنا القاصر أن يراه ويحلِّلَه ويشكّله انطلاقاً من المعلومات الحسية التي يتلقّاها. وهذه ملاحَظة بديهية لا ننتبه إليها من شدة بداهتها.
دماغنا هو الذي يعطينا صورنا ومشاعرنا عن الكون خارجه، وهو الذي يُـفرِز تصوّراتِنا عن الواقع الحقيقي أو الكون. فمفهومنا للكون هو إفرازات دماغية، ثرثرات فكرية؛ وبحسب تعبير جِدّو كريشنامورتي (1895 - 1986)، «الواقع [...] هو إسقاط الفكر.» (كريشنامورتي وديڤيد بُوهم، «حدود الفكر»، 1999، ص 24)
فالواقع أو العالم الذي نراه هو صورة دماغنا عن الكون وليس حقيقة الوجود.
فنحن نرى الثَّمرةَ والشجرةَ بهذا الشكل المحدد واللون المحدد والطعم المحدد لأن دماغنا حلّلها كذلك وليس لأنها في حقيقتها كذلك. هذا التحليل الدماغي البشري للكون هو صورة مصطنَعة، هو سِحر ووَهم لا حقيقة.
ولذلك فإن التقاليد السنسكريتية الفيدية الهندية القديمة اعتبرَت العالمَ «مايا»، أيْ وَهْم (باطل) وسِحر. والمقصود: العالَم الذي ندركه بحواسنا ويحلله دماغُنا. وبالتالي فعالَـمنا هذا عَـرْضٌ سِحري وَهميٌّ مِن صُنع الدماغ وترتيبه، هذا العضو الذي يمكننا اعتباره «جهاز تنظيم الفوضى» أو «عضو الانتقاء والترتيب».
فالدماغ لا يستطيع العيش في الفوضى التي تُرعبه، فلَم يَـكتفِ بغربلة فوضى العالم وتنظيمِها بل اختلقَ أو تصوَّر عالَماً آخرَ لا تحكمه الفَوضى؛ وربما هذه أحد أسباب نشوء ما يسمَّى بعلوم الإسخاتولوجيا (الأُخرويات، علوم الآخِرة) التي مِن أَهمّ عناصرها ظهور المخَلِّص ضمن أحداث من الفوضى والعنف والدمار. بمعنى أنّ الدماغ لم يستطع تقبُّل فوضى الكون إلا بتصور وجود مُنقِذ يخَلِّصه. هذه الأساطير التي تتحدث عن نهاية العالم من خلال الفوضى ليست من اختراع الدماغ مِن لاشيء، بل من تنظيمه، لأن الدماغ لا يستطيع اختراعَ شيء جديد، بل هو مجرَّد مقَلِّد ومُـفَلتِر ومنظِّم، إنما قد عايشَتها أدمغةٌ بشرية في كل زمان (حروب وبراكين وزلازل) وتناقلَتها عبر الأجيال على شكل وحدات معلوماتية قابلة للنقل بالكلام أو الكتابة، أي على شكل «مَيمات» (mème) [تقليدات، تقاليد، جينات لا مادية] بحسب تعبير ريتشارد دوكينز (في «الجين الأناني»، 1976). وهذا سبب آخر لنشوء علوم الحياة الآخرة (التي تتميز بنهاية مأساوية للكون وبداية حياة أخرى لا فوضى فيها). فالإسخاتولوجيا نشأَت من أسباب كثيرة أهمها : 1)-حاجة الدماغ لتنظيم الفوضى (أصلاً هو غير قادر على استيعاب الفوضى)، 2)-وبحثه عن صورة مثالية أو خلاص نهائي من هذه الفوضى. بمعنى أن الإسخاتولوجيا ليست سوى تنظيم الدماغ لفوضى الكون الحالية.
نجد في القرآن تأثيراً لهذه النظرة الفيدية لوهمية الصورة المنظَّمة التي ندرِكها عن الكون الفوضوي عندما يعتبر القرآنُ الحياةَ الدنيا "متاع الغرور" (آل عمران، 185) مؤكداً على هذا المفهوم السنسكريتي باستخدام أسلوب الحصر أو القصر (" وَما الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الغُرورِ"). أي أن إدراك دماغنا لهذا العالَم (الحياة الدنيا) هو حصراً غرور ووَهْم (باطل) وعَرْض سِحري غير حقيقي.
والمتاع هو انتفاع زائل ومتعة فانية، أما الغرور فهو الخداع. فالانتفاع والمتعة هما مِن صُنع الدماغ تحديداً ولذلك فهما غرور وخداع لأنهما صور دماغية تعطي إحساساً بالامتلاك والمتعة ولا تعبر عن الحقيقة التي نجهلها.
إن المتصوّف أبا حامدٍ الغزَّالي (1058 - 1111) أدركَ خِداعَ الحواسّ فكذَّبها واعتبرَها تُشوِّهُ الحقيقةَ (في كتابه «المنقِذ مِن الضَّلال»، ط 2، اللجنة اللبنانية لترجمة الروائع، بيروت، 1969، ص 12و13). ولكنّه ناقضَ نفسَه في نهاية محاكمته العقلية عندما وثِقَ بحاسّة السمع فصدَّقَ منقولاتِ آبائه.
وفي المسيحية، نرى وهميةَ تصوّرنا عن الكون الفوضوي؛ فالحياة الأرضية هي بُخار يضمحلّ وهي فساد وتغيُّر، أيْ هي باطل (وهم). فقد جاء في رسالة يعقوب : «الحياة هي بُخارٌ، يَظْهَرُ قَلِيلًا ثُمَّ يَضْمَحِلُّ.» (رسالة يعقوب 4 : 14). وجاء في إنجيل مَتَّى : «لا تَكْنِزُوا لَكُمْ كُنُوزًا عَلَى الأَرْضِ حَيْثُ يُفْسِدُ السُّوسُ وَالصَّدَأُ.» (متّـى 6 : 19).
يمكن القول بأن المنقولاتِ الإبراهيميةَ (التوحيدية) هي تصورات خلاصية تُركّز على كيفية الخلاص من هذه الفوضى أو بتعبير أدق على كيفية التعايش مع هذه الفوضى بحيث يبقى الدماغ متوازناً.
تخيلوا أن كل «مَيماتنا» («جِيناتنا» الثقافية) مِن آلهة وأديان وفنون وعلوم هي من صناعة دماغنا ونشاطِه ولَم تَهبط علينا مِن علُ. حتى مفهومُ الحقيقة نفسُه من اختلاق الدماغ. فالحقيقي هو ما يَحدث فعلاً وصراحةً دون فَلتَرة ولا مَهرَبَ منه. «إن جذر الكلمة الإنكليزية "تْرُوْ" (true) [حقيقي] يعني: "صادِق"، "صريح". والكلمة اللاتينية "ڤِيْرُوسْ" (verus) تعني: "مطابق لِـما هو كائن. [...] الكلمة الإنكليزية ليست مرادفة تمامًا للكلمة اللاتينية.» (كريشنامورتي وديڤيد بُوهم، «حدود الفكر»، 1999، ص 23.) وأضيف: إن المقابل العربي لكلمَتَيْ: "تْرُوْ" و"ڤِيْرُوسْ" هو كلمة "حقيقة" من الجذر: "ح.ق.ق." بمعنى: "وَجَبَ" و"صَدَقَ" و"ثَبُتَ" بحيث لا يمكن إنكارُه. و"الْحَقُّ"، بحسب «لسان العرب»، هو "صِدْقُ الْحَدِيثِ"، أيْ: "مطابقته لِـما هو كائن". و"الْحَقُّ" أيضًا هو: "الْيَقِينُ بَعْدَ الشَّكِّ". و"الحق" هو "الله" بمعنى: "الموجود حقيقةً" أو بمعنى: "ما هو ليس بباطل". فــ "الحق"، بالعربية، يعني إذًا: كلّ ما وجبَ حدوثُه وكلّ ما هو مطابق لما هو موجود. وبالتالي فالحقيقة هي الكَون الفوضوي الذي نختبره. الحقيقة هي العشوائية والفوضى. وكأنَّ الحقيقة في أحد معانيها هي كل ما يأتي إلى الدماغ عن طريق الحواسّ، بينما الواقع هو ما يُبلوِره الدماغ من صور متخيَّلة (وهمية). يبدو أن الدماغ البشري قد استشفَّ أن الصور التي خلقها عن فوضى الكون هي صور مفبرَكة ومفَلتَرة ومشوَّهة وغير مطابِقة للحقيقة فأقرَّ بوجود صورة غير مفبرَكة من خلال نحتِه لمفهوم «الحقيقة»، ولكن هذه الصورة غير المفبركة لا يستطيع الدماغ التعايشَ معها ولا حتّى استيعابَها (الإحاطة بها).
الحقيقة بحسب سيمون فايل (1909 - 1943) ليست مرتبطة بالعِلم بل بالاختبار والبلاء؛ فالحقيقة هي إذاً ما يختبره المرء ويعانيه. ولكنّ الدماغ لا يستطيع تقبُّلَها دون أن يشوِّهَها أو يُطوِّعَها. تقول سيمون فايل : «والبشر الذين خُلِقوا من لحم ودم على هذه الأرض لا يمكن بلا شك أنْ يكون لديهم تصوُّرٌ لا عيبَ فيه عن الحقيقة» «هناك شيء أكثر قيمة بكثير جداً من العِلْم نفسِه يتعرَّض لخطر في هذه الأزمة؛ ألا وهو مفهوم الحقيقة الذي ربطَه القرنُ الثامن عشر والقرنُ التاسع عشر بصورةٍ خاصة ربطاً وثيقاً بالعِلْم؛ مع أنَّ ذلك كان خطأ» (سيمون فايل، «حول النظرية الكوانتية») «[…] لأنَّ معرفة المبتلَينَ معرفةً حقيقية تنطوي على معرفة البلاء. ولا يمكن للذين لم ينظروا إلى وجه البلاء أو الذين لم يكونوا على استعداد للقيام بذلك أنْ يقتربوا من المبتلَينَ إلاَّ بحجاب من كذبٍ أو وهْمٍ يحميهم.» «إنها الحقيقة نفسُها التي تَدخل الحسَّ الماديَّ بالألم الجسدي» (سيمون فايل، «مختارات»، «حب الله والبلاء»)
عندما وصلَت إلى الدماغ القاصر فوضى الكون المحيطةُ به التي قد تُشعِره بخطر الفَناء اخترعَ صورةً وهمية مهدّئة ومفهومة عن فوضى العالَم. وهذا هو الفَرق الوحيد بيننا كحيوانات بشرية وبين بقية الحيوانات. الصورة التي أبدعها دماغُنا عن العالَم كانت أكثر تعقيداً وترميزاً ووهميةً وخِداعاً. الفَرق بيننا وبين بقية الحيوانات هو في كمية نشاطنا الدماغي لا في نوعيته والذي استطاع أن يرسم لوحةً ذهنية منفصلةً وهمية منظَّمة لفوضى العالَم واستطاع أن يَخلُق وَهْمَ أننا متفوقون على الحيوانات ومنفصلون عـنـــ"ـــهُم".
الأربعاء 27 أبريل/نيسان 2022








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الولايات المتحدة و17 دولة تطالب حماس بإطلاق سراح الرهائن الإ


.. انتشال نحو 400 جثة من ثلاث مقابر جماعية في خان يونس بغزة




.. الجيش الإسرائيلي يعلن قصف 30 هدفا لحماس في رفح • فرانس 24


.. كلاسيكو العين والوحدة نهائي غير ومباراة غير




.. وفد مصري يزور إسرائيل في مسعى لإنجاح مفاوضات التهدئة وصفقة ا