الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رسالة من لا مبيدوزا

سعود سالم
كاتب وفنان تشكيلي

(Saoud Salem)

2022 / 5 / 1
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


كما تعلمون، عندما يكون الإنسان محاصرا مثل جرذ، فإن الشيء الوحيد الذي يفكر فيه ليل نهار هو الهروب. وقد قضيت أغلب أيامي في الهروب، مثل العديد منكم، هربت من تظرات والدي الصارمة، هربت من الجامع وعصا الفقيه الجاهل، ثم هربت من المدرسة ومن حصص الدين والتربية الوطنية، وهربت من البيت والروتين العائلي والزيارات المقدسة في المناسبات التي لا تنتهي، ولم أكف عن الجري والفرار، أريد الإبتعاد عن هذه الأرض الموبوءة بقدر المستطاع وأن أترك بيني وبينها آكبر مسافة جغرافية ممكنة، وهربت مرة أخرى، هربت من خوفي، ومن ذاتي، هربت من تلك الوجوه المزروعة في كل زاوية من ذاكرتي، هربت من تلك الأصوات المزعجة التي تقابلني في كل لحظة، وتصرخ في وجهي تطالبني بأن أقبل هذا العلم كما هو، بأن أقول نعم. هربت من حياتي المتناقضة مع ذلك الخليط من المجانين والمرضى والدجالين والصعاليك، الذين يعيشون في عالم مليئ بالعفاريت والجن ومرتلي القرآن ورائحة البخور ممتزجة برائحة التفاق والخضوع والإستسلام للأمر. هربت من تلك القذارة والغبار والحرارة ورياح القبلي والعرق الكريه الرائحة، هربت من الجلابيب والخمارات والعبايات. هربت لأنني لم أعد أحتمل الخطابات الهستيرية، ولا نشرة الأخبار المحلية ولا المحادثات اليومية، ولأنني لم أعد أحتمل صوت مكبرات الصوت المتداخلة والتي يغطي بعضها البعض خمسة مرات في اليوم. هربت لأنني لم أعد استطيع الأستمرار، نجوت بجلدي من تلك المذبحة البشرية التي ماتزال مستمرة حتى هذه اللحظة، حيث يموت البشر من الملل، من القنابل الساقطة فوق رؤوسهم من صاصة طائشة، أو من التفاهة، والجري وراء الثروة والسلطة والجاه، وزجاجات الويسكي، وطروف الحشيش. هربت لأنه لم يعد ثمة حل آخر سوى الموت أو الجنون، الله والصلاة والجامع أو الحشيش والتيكيلا والبوخة.
ولكن هروبي لم يكن سوى حل مؤقت ووهمي، لأن هذه البلاد الملعونة ماتزال تسكن تحت جلدي، ومنذ سنوات عديدة وأنا أحاول أن أتقشر، أن أتخلص من آثار الجذري والنمنم والريح الساخنة والشمس الحارقة وبعض الأفكار التي تضايقني كورم يكبر في داخلي. أحاول أن اغسل نفسي في نهر النور الصافي، وأن أتذكر صفحة بيضاء تخلو من هذه الأشياء السحرية السوداء. في يوم ما في المستقبل البعيد، حتما، سأتخلص من كل شيء، وأعود طفلا كما كنت، فرحا بالنور أجري في حاشية القرية على خط السكة الحديدية، وأسافر نحو بلدان وجزر لا توجد على خارطة الكون. حلمت بالشمال البارد، بالرياح التي تصفر في الغابات التي لا تتخللها الشمس، حلمت بالثلج والمطر الخفيف الذي لايكف عن التساقط، حلمت بالبارات الدافئة، والمعبقة بالدخان وبروائح البشر والموسيقى الصاخبة، حلمت بشوارع مدن لا أعرفها، وحلمت بشوارع ومقاهي كل مدن الدنيا، وحلمت أيضا بشوارع مدن وقري صغيرة فارغة وميتة بعد منتصف الليل، حيث لايوجد غيرالكلاب الضالة وسيارات الشرطة. كنت أعتقد بأن الريح الباردة تحمل نفس الحياة لإنسان نال كفايته من الحرارة ورياح القبلي ورمال الصحراء وضحكات البشر المكلوبين، ولكن الحلم يضل أبدا شركا رهيبا تنصبه لنا الآلهة الشريرة.
فكيف يمكن الهروب من الهروب ؟








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. دروس الدور الأول للانتخابات التشريعية : ماكرون خسر الرهان


.. مراسل الجزيرة يرصد آخر تطورات اقتحام قوات الاحتلال في مخيم ن




.. اضطراب التأخر عن المواعيد.. مرض يعاني منه من يتأخرون دوما


.. أخبار الصباح | هل -التعايش- بين الرئيس والحكومة سابقة في فرن




.. إعلام إسرائيلي: إعلان نهاية الحرب بصورتها الحالية خلال 10 أي