الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


- تونى بلير - وفك الحصار عن العراق

شريف حتاتة

2022 / 5 / 11
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


----------------------------------------------------

عاد الوفد الشعبي المصري الأول ، لرفع الحصار عن شعب العراق من بغداد في أول يناير سنة ١٩٩٨ . حقق هذا الوفد أشياء مهمة ، المبادرة باختراق الحصار الاقتصادي القاتل المفروض على الشعب في هذا البلد العربي الشقيق . التأكيد بأن العمل الشعبي الذي لا يخضع لسيطرة أية جهة من الجهات الرسمية ، أو لأى حزب أو اتجاه سياسي حكومى أو غير حكومى ، هو طريق يشير إلى المستقبل، إلى إمكانية نمو التضامن العربي الشعبي المعتمد على مبادرات الناس حيث يوجدون ، وعلى إمكانياتهم. وجود فرص لقيام التعاون بين عناصر تختلف اتجاهاتها الفكرية اختلافاً كبيراً ، وتمتد من اليسار الماركسى ، أو الناصرى للأجيال الجديدة إلى الليبراليين، واليمين السياسي ديني، إلى عناصر لا علاقة لها بأي فكر سياسي معين في بلادنا، إلى تيارات نسائية، وفنية، ومهنية متباينة . ساعدهم في ذلك التغير التدريجي الذى كان قد بدأ في موقف الحكومة إزاء العراق ، نتيجة السياسات الجائرة التي ظلت تمارس ضد البلاد العربية، وعلى الأخص من قبل أمريكا ، وإنجلترا، وإسرائيل.
لذلك لم تتدخل جهات الأمن لعرقلة هذا العمل . لكنها كانت بالطبع ساهرة تتبع ما يدور. وبعد أن عاد الوفد أبدى ممثلو هذه الجهات عدم ارتياحهم لاستمرار هذا التعاون بين عناصر من اليسار الماركسي ومن التيار السياسي الإسلامي (إلى جانب تيارات أخرى بالطبع ) ، وهذا أمر طبيعي فهي تدرك أن أي تغيير في اتجاه الخروج من الأوضاع اللاديموقراطية التي تحاصر الأغلبية الساحقة من الناس في بلادنا ، لا يمكن أن يبدأ إلا بالتخلص، خطوة بعد خطوة، من حالة الانقسام، والشرذمة، والتصارع المستمر الذي تشهده ساحات العمل في كل مجالاته. مهمة جهات الأمن في الحفاظ على نظام الحكم كما هو دون تغيير، وبالتالي فإن هذا التعاون بين اتجاهات مختلفة يثير عندها على الفور قدراً كبيراً من الضيق، والربية. وقد تمت ضغوط مباشرة وغير مباشرة للحيلولة دون استمراره، مما كان أحد أسباب التوترات التى تفجرت فيما بعد، وأسهمت في الفرقة التي حدثت في صفوف اللجنة.
هكذا حيل دون استمرار الطابع الشعبي الواسع ، الذي بدأت به الجهود لرفع الحصار عن شعب العراق. فالمتتبعون لنشأة الوفد الشعبي المصرى الأول ، ربما يتذكرون أن العمل بدأ بحملة المليون التوقيع التي دعا للإسهام فيها عديد من الهيئات، والجماعات، والأفراد. وكان الهدف من هذه الحملة هو إذكاء حركة نقاش جماهيري واسع، بين أكبر عدد ممكن من الرجال والنساء وبالذات بين الشباب، وفي أكبر عدد ممكن من الهيئات والجماعات .. أن تتزايد باستمرار أعداد المشاركين في هذا العمل.. أن يقوموا بمختلف المبادرات .. أن تتضاعف أعداد اللجان .. وأن يتخذ التبرع طابعا شعبيا يسهم فيه آلاف الناس بمبالغ قد تكون بسيطة، ولكن مجموعها يؤدى إلى شئ ، وتعبر عن اتخاذ موقف إيجابي، وأن تتم حركة توعية بقيم التضامن العربي، وإمكانياته وسط الناس، حتى تفتح أبوابا جديدة للخروج من حالة السلبيةالتي عمت حياتنا .
في البداية شاركت في هذا العمل مـجـمـوعـات من الشباب والشابات، ينتمون إلى عدد من الهيئات المهنية، والأهلية، والسياسية. ولكن سرعان ما تدخلت هيئات رسمية لتضيف حصارها إلى الحصار المتواري لأجهزة الأمن. إنقضت على حملة المليون توقيع وعقدت اجتماعا في استاد القاهرة ، ضم هيئات أخرى عبر تلك التي باشرت الحملة بالفعل، وبين يوم وليلة تحول المليون إلى 18 مليون توقيع بقدرة قادر. تحول الجهد الشعبي الذي گان مستمراً مجرد إعلامى وهمي فارغ، لا معنى له، ولا جهد وراءه . هكذا ماتت الحملة. وهكذا تغير طابع العمل لرفع الحصار عن شعب العراق ، إلى الاكتفاء بإرسال وفود من المثقفين تذهب إلى بغداد بالطائرة حاملة معها كميات من الأدوية والإسعافات الأخرى، أو وفود طبية تحمل معها احتياجات علمية أو تكنولوجيا ناقصة، وتجرى بعض العمليات، وإلى جمع تبرعات من عدد محدود من أصحاب الإمكانيات في عالم المال .
هذا كله عمل مفيد، ونبيل لاشك، وجزء من الجهد المبذول لرفع الحصار عن شعب العراق، ولا داعي لإيقافه، على العكس يجب أن يستمر، لكنه في الوقت نفسه يجب تجاوزه الى ما هو أوسع، إلى ما كان الجوهر الذي بدأ به هذا العمل التضامني، وألا يمكن أن ينقلب إلى نوع من الإجهاض للعمل الشعبي، ولرفع الحصار عن شعب العراق. فـلا لجـان جـديدة، ولا حـملة توقيعات، ولا تبرعات من الناس، ولا تعاون بين تيارات، وهيئات مختلفة ، وإنما مجهود من مجموعة محدودة العدد جداً تقوم بجمع تبرعات من بعض رجال المال، وإرسال أدوية وبعثات على فترات. شيء أشبه بالعمل الخيري قد يعطينا الإحساس بأننا هكذا نفك الحصار عن شعب العراق، بينما المشكلة الضخمة مازالت قائمة .
منذ أسابيع اقترح " توني بلاير" رئيس وزراء إنجلترا، إحدى الدول الأكثر تشدداً في فرض الحصار واستمراره ، اقترح عقد مؤتمر في لندن لبحث وسائل تقديم مساعدات إنسانية لشعب العراق . فعلق " طارق عزيز " على هذا الاقتراح قائلاً : " مشكلة العراق ليست المساعدات الإنسانية ، وإنما الحصار. نحن لا نتسول ، نحن بلد عندها إمكانيات، وقوة بشرية. نستطيع أن تعمل. المهم أن ترفعوا عنا الحصار وتعطونا الفرصة لكي نبني حياتنا ، الحصار الاقتصادي يخنقنا ".
هذا هو ما سمعته صباح مساء طوال الايام القليلة التي قضيتها في العراق. فمنذ اللحظة الأولى التي وصل فيها الاتوبيس إلى بغداد من عمان ، صدمتني مظاهر البؤس المنتشرة بين أربعة ملاين من السكان. وقيل لى أن الحال بين الملايين العشرين الذين يعيشون خارج العاصمة أسوأ، وهذا في بلد غني بموارده البشرية، تتدفق فيه مياه الانهار بغزارة وسط ارض خصبة، شاسعة، قادرة على العطاء، بلد كان حتى عشية الحصار ثاني دولة مصدره للبترول، ومازالت أراضيه تحتوى على 11 ٪ من مخزون النفط العالمي.
والآن يبقى البترول هو الشيء الوحيد الموجود بوفرة . البرميل المحتوى على خمسين لترا من البنزين يباع بخمسين دينارا، أي ما يساوى عشر الدولار بالسعر الرسمي، وواحد على ثلاثين من الدولار بسعر السوق السوداء، لكنه بترول غير منقى يتلف المحركات، لأن مواد التنقية وضعت في كشف الأشياء الممنوع استيرادها وعددها ثلاثمائة.
في الشوارع، والميادين مازال الناس يعرضون ملابسهم، وأثاث وتجهيزات بيوتهم، وحاجاتهم الخاصة للبيع. مرتب الموظف في وزارة الإرشاد 700 دينار شهرياً، أي 7 دولارات بسعر الصرف الرسمی، ۲٫۳ دولار بسعر السوق السوداء. الورقة النقدية ذات القيمة الأكبر والتي مازالت تتداول تساوى 250 دینارا تكفي لشراء ساندويتش!!.
هذا هو الحصار المفروض على العراق، يصعب تصوره إن لم تعشه. لذلك يجب أن يعود الجهد المبذول مرة أخرى إلى رفع الحصار المضروب على شعب العراق، إلى الجماهيرية، والتوسع، إلى حملة تسمع في ربوع العالم العربي، ويحس بها العالم أجمع . أن تستأنف حملة ، جمع التوقيعات إن أمكن لتصل إلى هدفها، أن تبحث وسائل التعاون والتنسيق داخل بلدنا بين مختلف الهيئات، والشخصيات، وبين الهيئات العربية الشعبية الأخرى .
امـرأة
............
أمام مستشفى معهد ناصر فى حى حدائق شبرا / الساحل فى مصر ، يمتد الكورنيش على ضفاف النيل . الرصيف عريض تعطيه مساحات من الحشيش الأخضر ، ذبلت من الإهمال الذي أحاط بها. وأشجار صارعت لتبقى، وأحواض من الزهور صفراء اللون تتفتح في موسم الربيع .
على هذه المساحات الخضراء القليلة كثيراً ما يقضى بعض الشحاذين ، أو المتشردين ليلتهم متدثرين ببطانية ناحلة ، أو مقرفصين إلى جوار شجيرة تحميهم من الريح . وعندما يأتى الصباح ، وتصعد الشمس ذهبية الأضواء يعرضون جسمهم تحت أشعتها ليسرى فيها الدفء . فهذه الرقدة فى شمس الصباح ربما هى المتعة الوحيدة المتبقية لهم . أو هى دفعة من الطاقة تعينهم على مواصلة الحياة .
من بين كل منْ رايتهم في هذا المكان ، لفت نظری امرأة ترتدی جلبابا أسود، وطرحة من اللون نفسه، باهته، نسيجها رهيف، يغطيها التراب ، وأشياء أخرى التصقت بهما وهي راقدة ، أو جالسة في الأماكن التي ترتادها . حول قدميـهـا حـذاء أسود من القماش، والمطاط تطل من ثقويه الأصابع السمراء. شعرها غطاه الشيب ليصبح في لون الرماد ، تضمه خلف عنقها مثل ناظرات المدارس، لكن جسمها ينم عن بقايا قوة لم تستنفذ بعد.
هذه المرأة صامتة أبدا لا تتحدث إلى أحد، ولا تنظر إلى أحد ممنْ يمرون عليها. تحمل معها كيسا من البلاستيك الأسود، وتسير إلى جوار النيل مسافات، أو تجلس على دكة، أو فوق الحشيش. ترفع الطرحة من حول رأسها لتعرضه للشمس، والهواء . عيناها مثبتتان على الأفق البعيد، على مكان ما خلف مساحات النيل . أحيانا ترقد على الحشيش فاردة جسمها، واضعة حذاءها مع الكيس إلى جوارها، وهي غاطسة في نوم عميق. ملامحها جامدة ، حزينة دائماً لا يبدو عليها أي شيء سوى هذا الحزن المقيم .
تعودت على رؤيتها كلما هبطت من شقتنا للسير على الكورنيش . لفتت نظرى ، وأثارت في نفسي أشئلة ، ظلت تراودني كلما رأيتها من جديد.
ترى منْ هي ؟ من أين جاءت ؟ ، وكيف تعيش ؟ ، ما الذي تفكر فيه ؟ ، أليس لها أحد في هذه الدنيا الواسعة ؟ ، إلى أين تذهب عندما تختفي من على الكورنيش ؟ ، لم أرها تتسول ، أو تجمع أشياء تضعها فى الكيس كما يفعل بعض المشردين .
لا تتحدث إلى أحد ولا يتحدث أحد اليها . تسير هكذا صامتة أبدا، حزينة أبدا، في وحدة مطلقة لا يخفف عنها شيء. لم أر عينيها أبدا كأنها تنظر إلى الداخل. تحيا في عالمها الخاص. أحيانا تضع رأسها بين يديها وهي جالسة على الحشيش، وتروح بذهنها في شرود عميق .
فكرت في أن أسالها، أن افتح معها حديث. لكني ترددت، تغلبت الحسابات على روح الإنسان ، على روح الفن الباحثة عن الحقيقة .
في الصباح التي تلا عيد شم النسيم انتهزت جو الهدوء الذي يأتي بعد ضجيج الأعياد، وهبطت للتريض على طريق الكورنيش. اليـوم جـميل والشمس تتراقص على مياه النيل. كانت تجلس على الحشيش خالعة الطرحة من على رأسها، والحذاء من حول قدميها. حولها تناثرت الورود جمعتها وهي سائرة ، بعد أن القى بها المحتفلون بشم النسيم فوق الطريق . صنعت منها صحبة وأخذت تغلق عينيها، وتتشممها بأنفاس عميقة، أو تقلبها بين يديها. وتفحصها الواحدة بعد الأخرى كأنها تتأمل جمالها وتنهل منه. قدماه الحـافـيـنـان القذرتان تطلان من تحت الجلباب الأسود الممزق، المترب، وضفائر شعرها الأشيب أطلقتها حول وجهها الأسمر المنحوت بقسوة الطريق.
من كتاب " فى الأصل كانت الذاكرة " 2002








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فيديو يُظهر ما فعلته الشرطة الأمريكية لفض اعتصام مؤيد للفلسط


.. النازحون يعبرون عن آمالهم بنجاح جهود وقف إطلاق النار كي يتسن




.. مسؤول عربي لسكاي نيوز عربية: نتنياهو ولأسبابه السياسية الخاص


.. ما آخر التطورات وتداعيات القصف الإسرائيلي على المنطقة الوسطى




.. ثالث أكبر جالية أجنبية في ألمانيا.. السوريون هم الأسرع في ال