الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مراحل تطور الفلسفة في القرن التاسع عشر

غازي الصوراني
مفكر وباحث فلسطيني

2022 / 5 / 15
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


نستطيع أن نميز، منذ بداية هذا القرن حتى نهايته ، ثلاث مراحل كبرى للفلسفة، لكل مرحلة منها حدودها البارزة([1]):
"فمنذ عام 1800 إلى عام 1850 شهدت الفلسفة ازدهاراً خارقاً للمألوف في المذاهب الشاملة والبناءة، الطامحة إلى هتك الحجب عن سر الطبيعة والتاريخ، وإلى تعريف الإنسان بقانون مصيره، الفردي والاجتماعي.
فالمذاهب الميتافيزيقية الألمانية الكبرى اللاحقة على كانط، أي مذاهب فخته وشلينغ وهيغل، والمذاهب الاجتماعية للسانسيمونيين وكانط وفورييه، يجمع بينها كلها هذا القاسم المشترك: اتصافها بطابع البشارة النبوية أو الوحيية"([2]).
في هذا الصدد، أرى من المفيد للقارئ، العودة السريعة للفلسفة العقلانية في القرنيين 17 و 18م ، "وتأثيرها ونتائجها في القرن التاسع عشر من خلال أبرز فلاسفة ذلك القرن، خاصةً إيمانويل كانط (1724 - 1804)، الذي كان لكتاباته تأثير قوي على علم اللاهوت البروتستانتي، كما تأثر كانط بالمذهب الطبيعي، وأيد آراء " ليسنج" (1729 - 1781م) التي تحض على فصل الدين عن الكتاب المقدَّس بحجة أن الدين ينبع من عقل الإنسان وقلبه، فالإنسان ليس في حاجة إلى كتاب معين ليُحدّد له طريق الإيمان بالله، وقال كانط "إن الكتاب المقدَّس لا يصلح أن يكون مصدرًا للمعرفة عن الله، لأن معرفة الله أعظم من أن تُحد بكتاب معين"، فقد أكد " كانط " على دور العقل في الوصول للمعرفة، وأصدر كتابه "نقد العقل المجرد"، كما ونظر كانط للكتاب المقدَّس على أنه كتاب تاريخي أخلاقي، ألَّفته مجموعة من البشر، ويجب أن يخضع للنقد الكتابي مثله مثل أي كتاب آخر، وانتقد الإيمان المسيحي والعقائد الكنيسة قائلا: "قد تنظم الديانة نفسها قانونيًا وتكوّن كنيسة.. لكن لا يجب أن يكون لزامًا على المسيحي أن يؤكد إيمانه بالمعجزات أو ألوهية المسيح أو الفداء بصلب المسيح عن خطايا الجنس البشري، وذلك أن التعيين السابق للأرواح في السماء أو إلى جهنم بالنعمة الإلهية قد أُعطي دون اعتبار للأعمال الصالحة أو الشريرة، فعندما تصبح الكنيسة مؤسسة لفرض العقيدة، وتنتحل لنفسها الحق الوحيد لتفسير الكتاب المقدَّس وتعريف الأخلاق، وتصبح سلاحًا في يد الحكومة، عندئذ يثور العقل ضد مُثُلْ هذه الكنيسة، وينشد من خارجها تلك الديانة النقية، ديانة العقل التي هي مطلب الحياة الأخلاقية"، باختصار لقد مثل كانط ذورة الفلسفة العقلانية في الغرب"([3]).
بعد ذلك نشير إلى "جون لوك" (1632 - 1704) الذي رَكَّزَ على الحس باعتباره مفتاح المعرفة، ثم "رينيه ديكارت" الذي أكد على المنطق باعتباره مفتاح المعرفة.
في هذا القرن، التاسع عشر، لابد من الإشارة إلى بوادر انحطاط الفلسفة البرجوازية، التي بدأت تلوح في الافق بعد فشل ثورات 1848، حيث دخلت هذه الفلسفة مرحلة الانحطاط الفعلي، انها "تنفض يديها الآن من انجازات الفلسفة البرجوازية السالفة، وتلقي جانبا بالديالكتيك، وتتحول إلى داعية للعلاقات الاجتماعية الرأسمالية والدفاع عنها، كما انتشر وباء اللاعقلانية التي تحط من قدر العلم والعقل، وطغت اللاأدرية Agnosticism، التي أصبحت في نظر معظم الفلاسفة البرجوازييين، المدخل العلمي – الفلسفي الوحيد لدراسة الواقع، حيث يرى أنصار اللاعقلانية في الايمان بالعقل وقدراته، خطراً محدقاً يهدد كيان المجتمع، ذلك إن هذا الايمان يدفع إلى اكتشاف قوانين تطور المجتمع واستشفاف آفاقه، وإلى إلقاء نظرة نقدية فاحصة إلى أسس الحياة الاجتماعية – الملكية الخاصة، والحق البرجوازي، والاخلاق، والدين"([4])، لكن الفلسفة اللاعقلانية هذه، سرعان ما بدأت في التراجع.
فعلى الرغم من حالة الانحطاط المشار إليها، كانت "جهود الفكر خلال القرن التاسع عشر في كلا الاتجاهين: اتجاه نشر المعرفة واستجماع أسبابها، واتجاه تكثفها في بؤرة مثالية، كانت عظيمة، ظاهرة الأثر، بينة النتائج، فقد دخل على اللغات خلال القرن التاسع عشر عِدَّةٌ من المصطلحات نَحَتَهَا واضعو المذاهب الفلسفية؛ لتدل على تلك الوحدة الكائنة في صميم الحياة الكامنة للنوع البشري. استعمل "هيجل" كلمة Geist؛ أي فكر، واستعمل "كونت" كلمة Humanity؛ أي إنسانية، واستعمل "لودز" كلمة Microcosm؛ أي العالم الأصغر، ويعني به الإنسان، واستعمل "هربرت سبنسر" كلمة Social Organism؛ أي الكائن الاجتماعي. استعمل كلٌّ منهم اصطلاحًا مختلفًا، ولكنها في الحقيقة لم تكن إلا أوجهًا مختلفة لموضوع واحد" ([5]).
وهكذا "تغدو "العقلانية" سمة رئيسية في تلك المرحلة فهي، إذ تنحني إجلالا للعقل، تسخر من كل "المقدسات"، ومن جميع ركائز الحياة الاجتماعية، مقابل اللاعقلانيين الذين يستعيضون عن العقل بالارادة العمياء، اللاوعية، أما أنصار اللا أدرية فيعلنون أنفسهم "ايجابيين"، ممثلين للفلسفة العلمية، لكن كلا التيارين، اللذين يكمل أحدهما الآخر، لا يتعديان كونهما ضربا من الفلسفة المثالية، وعدواً لدودا للمادية"([6]).
وفي فترة من عام 1850 إلى عام 1890 على وجه التقريب، دبت وانتشرت حركة إحياء وتجديد، في الروح النقدي والتحليل العلمي، ترجمت عن نفسها في العودة إلى إحاطة فكر كانط أو كونديالك بضروب الحفاوة؛ فإذا بالفيلولوجيا الخالصة تطرد فلسفة التاريخ؛ والنقد يحل محل الميتافيزيقا؛ والفيزياء والكيمياء تُنَحِّيان فلسفة الطبيعة؛ والسياسة العملية الاقتصادية والاجتماعية، تنوب مناب النزعة النبوية؛ إنه عصر هيجل وفيورباخ وداروين وماركس وسبنسر وماخ ووليم جيمس ونيتشه وفرويد وماكس فيبر، وانتشار الاشتراكية والماركسية والوجودية والدارونية والوضعية المنطقية والبرجماتية في إطار التوسع الهائل للرأسمالية وتحولها الامبريالي في هذا العصر.
ففي القرن، التاسع عشر، "افتتح ماركس عصر النظر للإنسان من خلال إعطاء الأولوية للشروط الخارجية، كالاجتماعية والاقتصادية التي تحدد وعي الإنسان وتحكم وجوده بشكل شبه حتمي، وهي صورة ستدعمها دراسات التحليل النفسي بقوة أكبر"([7]).
في هذا السياق، أشير إلى أن من بين القناعات التي لم يكن يرقى إليها كثيرٌ من الشك لدى مفكري القرن التاسع عشر أن المكانة المركزية التي يحتلها الدين في الثقافة والمجتمع قد غدت شيئًا من الماضي، فقد اعتبر هيغل، مثل مفكِّري عصر الأنوار من قبله، أن العقل، بدقته المفهومية المتفوقة، قد تخطَّى الدين، وإلى جانب هيجل، صوَّر فويرباخ، في كتابه جوهر المسيحية (1841)، علاقةَ الإنسان بالألوهية على أنها لعبةُ قوى محصِّلتها الصفر، ورأى أن الإلحاح على الإيمان والتقوى ينتقص من رفعة الغايات الإنسانية، فيما رأى ماركس أن الإنسان، بوصفه عالم الإنسان والدولة والمجتمع، هو الذي يخلق الدين بوصفه الوعي المقلوب لعالم مقلوب، وليس الدين هو الذي يخلق الإنسان؛ ذلك أن الدين، في نظره، هو "زفرة المخلوق المضطهَد، قلبُ عالم بلا قلب، وروح عالم بلا روح – الدين أفيون الشعوب"([8])، وهذا ما يقتضي، في عرف ماركس، تجاوز الدين كسعادة وهمية من أجل سعادة البشر الواقعية، لا بنقد السماء والدين واللاهوت، بل بنقد الأرض والحق والسياسة التي تخلق السماء والدين واللاهوت.
أما نيتشه، فقد أعلن، على لسان زرادشت، أن "الله قد مات"، ووصف المسيحية بأنها "أخلاقية العبيد"، أو منظومة اعتقادية عامية مبتذلة تلائم الخانعين الجبناء.
بعد عام 1870، بدأت الحقبة الثالثة في تطور الفلسفة بكل مدارسها، ضمن تطور المجتمعات الرأسمالية، وتناقضاتها، والصراعات السياسية والطبقية والفكرية التي تجلت في تلك المرحلة، إلى جانب حركات إحياء وتجديد الرؤى النقدية التحليلية العقلانية، التي عَبَّرت عن نفسها في تطور العلوم والاكتشافات العلمية التي حلت محل الميتافيزيقا، وعلوم اللاهوت، في سياق الفلسفة الليبرالية التي بدأت تفقد بريقها بعد أن فقدت البورجوازية ليس ثوريتها فحسب، بل أيضاً أصبحت طبقة معادية للتقدم، نهاية القرن التاسع عشر، وبعد أن تحولت إلى قوة استعمارية وامبريالية توسعيه، تقوم على الاستغلال والاستبداد، وبدأ منظرو البورجوازية يرون في البروليتاريا، قوة اجتماعية تتهدد مصالحهم ووجودهم، حيث نلاحظ بداية تفجر الصراع الطبقي وفق أسس ومنطلقات ماركسية، في مقابل تزايد تراكمات الانحطاط والتراجع في الفلسفة البورجوازية من ناحية، وفي المجتمعات الرأسمالية من ناحية ثانية.
ففي نهاية القرن التاسع عشر تابعت الفلسفة البرجوازية سيرها في طريق الانحطاط، وهذا الانحطاط لم يكن على وتيرة واحدة في جميع البلدان، وفي مختلف الفترات، لكنه كان يتزايد باستمرار، حيث كانت الفلسفة البرجوازية تعكس، في خطوطها الرئيسية العريضة، التفاقم اللاحق للتناقضات الاجتماعية والصراع الطبقي، بينما بدأت الأفكار الماركسية، وخصوصا بعد ظهور المجلد الأول من "رأس المال" تلقى رواجا واسعا في الاوساط البروليتارية، وتزيح، تدريجيا، الآراء الاشتراكية البرجوازية الصغيرة الطوباوية.
منذ ذلك الحين تميز تطور البرجوازية، سياسيا وروحيا، بمحاولات، لا تعرف الكلل، لإبعاد الخطر، الذي يتهدد وجود الرأسمالية، وللدفاع عن دعائمها الاقتصادية والسياسية والايديولوجية، ومنذ تلك اللحظة فصاعداً سيتم تطور الفكر الفلسفي البرجوازي تحت راية النضال ضد المادية، والعقلانية، والماركسية خاصة.
فقد انتشرت -في تلك المرحلة- التيارات شبه العلمية، التي تدعي لنفسها التأويل الفلسفي للمعرفة العلمية، بينما تقوم، في واقع الامر، بتسريب اللا أدرية والمثالية إلى علوم الطبيعة والمجتمع، المعادية للعلم والتقدم الاجتماعي.
"وإذا كانت الحداثة قد بلغت قمة ازدهارها ونضجها في القرن التاسع عشر، فقد شهد هذا القرن أيضاً –كما يقول تويني- أهم حدث تاريخي وهو التوسع المفاجئ، في سلطة الإنسان على الطبيعة، وعلى الإنسان ذاته, انه العصر الذهبي لازدهار الرأسمالية، لكنه شهد أيضاً تفاقم المشكلات الاجتماعية والسياسية جنباً إلى جنب مع تطور وازدهار المدن الصناعية الحديثة، وبروز الدول القومية المتنافسة على المستعمرات خارج القارة الأوروبية في أسيا وأفريقيا وامريكا.
وإذا كانت فكرة الحركة الميكانيكية هي فكرة القرن الثامن عشر، فان فكرة التطور العضوية، هي التي تميز القرن التاسع عشر، ويُشَبِّه (برودون) التقدم (بسكة قطار الحرية)، ويقول سان سيمون "إن كل ما نستطيع إن نفعله هو إن نطيع هذا القانون"، وعلى هذا النحو كان أبو الوضعية اوغست كونت (1798-1857) يبشر بديانه إنسانية تقدمية وفق أسس علمية وحلم بإقامة فيزياء اجتماعية.
إننا أذ نورد هذه الاستطرادات، إنما نحاول أن نرسم صورة عامة عن فلسفات التاريخ، التي ظللت بأفقها الفكري المعرفي والأيديولوجي الوعي الفلسفي في القرن التاسع عشر، غير أن الصورة تظل ناقصة دون الإشارة إلى الجانب الأخر من وجه العملة، وهو الجانب التشاؤمي، حيث برزت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، نزعتان قويتان من التشاؤم التاريخي والتشاؤم الثقافي، وإشاعة فكرة الاضمحلال والتدهور ونقد فكرة التقدم الحتمي، في الثقافة الأوروبية والأمريكية على حد سواء"([9]).
وقد "عَبَّر عن التشاؤمية التاريخية، بعض فلاسفة التاريخ، نذكر منهم جاكوب بوركهات ورانكة, وارنولد تونبي، أما التشاؤمية الثقافية، فقد وجدت هوى في قلوب عدد واسع من الفلاسفة أمثال (شوبنهاور ونيتشه وشبنجلر).
بيد إن النقد الكاسح للحضارة الحديثة، هو الذي جاء من اتجاه التشاؤمية الثقافية، إذ يعلن شوبنهاور (1788-1860م) "ما كان يجب أن تكون الحياة هكذا، وان الهدف النهائي للإنسان العاقل في الحياة هو ما سماه "بوذا" بـ "النرفانا" أو "الخلاء" وهو انعتاق نهائي من الإرادة والرغبة التي تؤدي في النهاية إلى الانطفاء والموت. وان الفن والموسيقى تحديداً هو المنفذ الوحيد للخلاص"، ويذهب نيتشه بالتشاؤمية الثقافية إلى نتائجها القصوى إذ يعلن "أن كل ماضٍ جدير بالإدانة، لأن تلك هي طبيعة كل ما هو إنساني، وكان يرى إن الحياة الحديثة بقيمها الزائفة تستحق الموت لتحل محلها حضارة الإنسان الأعلى (رجال الإفتداء) "أفراد مختارون... مؤهلون للمهام الكبرى الخالدة أولئك الذين يملكون إرادة القوة، فان الحضارة كلها هي من صنع أصحاب القوة والسطوة الذين ما زالوا يمتلكون إرادة قوة لا تقهر وشهوة للسلطة، أولئك الذين انقضوا على الأجناس الأضعف"([10])، ويبدو أن هذا – أو جزء كبيراً منه- قد تحقق في القرن العشرين في سياق الحربين العالميتين وما تلاهما .


 
 


([1]) اميل برهييه - تاريخ الفلسفة –   الجزء السادس- ص 4.
([2]) المرجع نفسه  - ص  5
([3])  حلمي القمص يعقوب– كتاب النقد الكتابي: مدارس النقد والتشكيك والرد عليها (العقد القديم من الكتاب المقدس) – موقع:  لنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.
([4])جماعه من الاساتذه السوفيات - مرجع سبق ذكره - موجز تاريخ الفلسفة – ص 585
([5])  إسماعيل مظهر – نزعة الفكر الأوروبي في القرن التاسع عشر- موقع: هنداوي – عام 2017.
([6])جماعه من الاساتذه السوفيات - مرجع سبق ذكره - موجز تاريخ الفلسفة - ص 586
([7])  شريف مراد – نهاية الحداثة.. التبشير بعجز الإنسان – موقع ميدان – الانترنت.
([8]) ثائر ديب – الدين والعلمانية في الفكر الغربي من هيغل إلى هابرماس – موقع: الحزب اليبرالي الديمقراطي العراقي – 18 سبتمبر 2012.
([9])  الفيسبوك – فلسفة التاريخ في القرن التاسع عشر – صفحة: مسلك التاريخ والحضارة/ منتدى التاريخ - 15 ابريل 2016.
([10])  المرجع نفسه.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فولكسفاغن على خطى كوداك؟| الأخبار


.. هل ينجح الرئيس الأميركي القادم في إنهاء حروب العالم؟ | #بزنس




.. الإعلام الإسرائيلي يناقش الخسائر التي تكبدها الجيش خلال الحر


.. نافذة من أمريكا.. أيام قليلة قبل تحديد هوية الساكن الجديد لل




.. مواجهة قوية في قرعة ربع نهائي كأس الرابطة الإنكليزية