الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


البراءة لأحمد عبده ماهر

محمد زكريا توفيق

2022 / 5 / 18
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


أنا لا أشك في نزاهة أو ضمير قاضي "المستشار أحمد عبده ماهر"، الذي حكم عليه بالسجن خمس سنوات، بسبب ازدرائه للأديان وكتابه "إضلال الأمة بفقه الأئمة". كلي ثقة أن القاضي المحترم كان راض عن حكمه كل الرضا. لقد كان يعبر عن فهمه للقضية أصدق تعبير. مشكلة القاضي، ليست مشكلة أخلاقية بالمرة، لكنها مشكلة حضارية، وأزمة تربية وثقافة.

واضح من حكم القاضي أنه لا يفهم معنى حرية الرأي وحرية العقيدة بالمرة، ولا يعرف الفرق بينهما وبين البطيخ والعجّور. لا يعلم أنهما من القيم الإنسانية النبيلة، التي كافحت شعوب كثيرة من أجلها، ومات الشهداء الكثر طلبا لها، ولا تزال تتمناها وتحلم بأريجها العطر شعوب كثيرة مقهورة ومغلوبة على أمرها مثل شعوبنا البائسة، التي لم تزل ترزح تحت أصفاد التخلف والانحطاط الأخلاقي والفكري والاجتماعي والاقتصادي.

حرية العقيدة قيمة يا سادة، تقف مرفوعة الرأس، شامخة منافسة لقيم أخرى نبيلة وجليلة، منها قيم الحق والعدل والحب والجمال. لكن يبدو أن حرية الرأي كقيمة عندنا، لا تهم مولانا وأمثاله من قريب أو بعيد.

فهم قد فقدوا عقولهم، بسبب تعليمهم الرديء وتربيتهم ونشأتهم الدينية، وفقدوا معها متعة التذوق لكل ما هو جميل ونبيل، طمعا في الحور العين والأرداف التي عرضها ميل. ولتذهب حرية الرأي، وكل من يدافع عنها، إلى الجحيم غير مأسوفا عليها.

يرى مولانا القاضي، وكذلك المحامي البائس الذي أقام الدعوة، أن بعض ما قاله وكتبه المستشار، يعتبر إساءة بالغة للدين ورموزه الجديدة. أقول جديدة، لأنها رموز واردة إلينا حديثا، محمولة برياح السموم، التي تهب علينا دون رحمة أو هوادة، من كثبان الصحراء وبداوتها، منذ اكتشاف النفط، الذي جعل حياتنا قطران في قطران.

المستشار أحمد عبده ماهر، يحاول تنقية التراث من أدران اللامعقول ومن كل ما يتعارض مع العلم الحديث أو المنطق. فإذا قال العلم أن مدة الحمل هي تسعة شهور، وقال مشايخنا الكرام أن مدة الحمل قد تصل إلى أربع سنوات، فالكلمة العليا للعلم. ما الضرر في ذلك؟ ولماذا يسجن عبده ماهر عندما يقول بأن العلم له الكلمة العليا؟

رموز الدين الجديدة، والبقرات المقدسة الواردة إلينا من بلاد النفط هي: المسواك والجلباب الأبيض الذي كش في الغسيل، واللحية الشعثاء المنكوشة والمنفوشة والمستفزة، المترهلة والذابلة والساقطة إلى أسفل حتى ملتقى الساقين، والمصبوغة بالحناء. من رموز الدين الجديدة أيضا، سجن النساء في أكياس سوداء، تترجرج داخلها كتل من الدهن والعرق والشك والأرق والكآبة النكباء.

وما دامت هذه الرموز الواردة، هي بقرات سمان مقدسة، فلا يجوز رفضها أو المساس بها، حتى وإن كانت مقدمة، لها دلالاتها البالغة الوضوح. تدل دون لبس على أنه في الأفق، تتجمع سحب قاتمة، تنذر بغزوة هكسوسية جديدة وخطيرة لبلادنا وعقولنا وحضارتنا.

هل يعقل أن البلد التي اخترعت الكتابة، يأتي إليها من يغير لغتها وحروف كتابتها؟ وهل يجوز للبلد التي تعتبر فجر الضمير الإنساني، والتي اخترعت الأديان، والصح والغلط والجنة والنار والحياة بعد الموت، يأتي إليها من يعلمها دينها؟ وأين دور الأزهر وشيخه الجليل هنا؟

هل يعقل أن يكون نقد هذه المناظر الكئيبة المضحكة التي تنتشر بيننا، تنفيسا عما يجيش في صدورنا من غضب مكبوت، يصبح محرما بالقانون بحجة أنه ازدراء أديان، يخالف تعاليم الدين المتين؟

وما دخلنا بهذه الأشكال الكئيبة والملابس العجيبة، التي لا تختلف في شكلها ومضمونها عن ملابس غلاة المتعصبين اليهود؟

هل كتب علينا أن نكون مادة للغزو الحضاري والثقافي والاقتصادي منذ أيام الغازي عمرو بن العاص، إلى الآن. غزوات متعاقبة ومستمرة، لنهب ثروات مصر باسم الدين والقداسة، لطمس حضارتها ومعالمها وشخصيتها، ووأد مستقبلها ومستقبل أولادها؟

هل من يقاوم مثل هذه الهجمة الشرسة يعتبر مزدر للأديان؟ وهل الدفاع عن الوطن للحفاظ على تاريخه وتراثه الحضاري والثقافي، أصبح خيانة نستحق عليها العقاب والسجن، وغدا إن شاء الله السحل والقتل؟

هل مهاجمة هذه الرموز التي لا تمت لتاريخ هذا الشعب العريق العظيم بصلة، والتي يراد فرضها على الجميع، بالقوة وبالغلاسة والبلطجة والكذب، يعتبر خيانة؟ وأين مصر من كل هذا؟ وما يدور في بلادنا اليوم؟ وأين مكانها بين الأمم الآن؟

أنا واثق أنك لو ذهب إلى منزل القاضي الفاضل الذي حكم في القضية، وخبط المستشار خمس سنوات، حتى يكون عبرة لغيره، أو المحامي الهمام الذي رفع الدعوة، لن تجد كتابا واحدا يخاطب العقل أو الوجدان.

لن تجد مسرحية لشيكسبير أو رواية لنجيب محفوظ أو قصة قصيرة ليوسف إدريس أو مسرحية لتوفيق الحكيم أو كتابا لطه حسين. ولن تجد بالطبع كتابا في الفلسفة أو التاريخ أو العلوم. ولن تسمع هناك قطعة موسيقى كلاسيكية لأبو بكر خيرت أو لشوبرت، أو أغنية رقيقة لفيروز أو صالحة التونسية، تنساب من الراديو أو من جهاز التسجيل.

لكنك سوف تجد بالتأكيد راديو قديم مضبوط على محطة القرآن الكريم، وتلفزيون مثبت على قناة السلفيين، شغال عذاب القبر وعذاب يوم القيامة على طول.

ثم تفاجأ على الرف ببضع مراجع قانونية ومجموعة تفاسير، وصحيح البخاري وصحيح مسلم وربما كتب عن عذاب القبر وإرضاع الكبير وأكل لحم الأسير وأهوال يوم القيامة، والأقرع الحابس والجان والشياطين التي تنام في المناخير، والتي تجري ولها ضراط عندما تسمع الأذان. والأرض التي يحملها الحوت بهموت، وبالطبع، مجموعة الشيخ الشعراوي الكاملة. وبس.

هل يمكننا أن نلوم القاضي أو المحامي. لا والله. أنا لا ألوم هذا أو ذاك. لكن، ألوم أولا وزارة التربية والتعليم، وأجهزة الإعلام، ووزارة الثقافة، ورجال الأزهر وشيخه ومدارسه وجامعاته. وكذلك، كتّابنا الأجلاء والقنوات الفضائية، والدعاة الجدد عبد الله رشدي وشركاه، وكل من له ضمير في هذا البلد البائس، الذين يرون الوطن وهو يحتضر ولا يتحرك لهم ساكنا. ومعهم فلوس النفط وجحافل المدرسين والمهندسين والأطباء العاملين في معاقل الوهابية ودروبها ووديانها.

بعد ما فشيت جزء من الغضب الذي يجيش في صدري وصدر القارئ العزيز، شوية جد بقى بالنسبة لموضوع حرية الرأي.

يقول الفيلسوف البريطاني جون ستيوارت ميل: "إذا كان للبشرية كلها رأي واحد، فيما عدا شخص واحد له رأى مخالف، فعذر البشرية في إخراس هذا الصوت الوحيد، هو نفس عذر هذا الشخص في إخراس البشرية كلها."

الأفكار مثل النظريات العلمية، أو مثل الحياة نفسها على سطح الأرض، تتبع قوانين التطور. البقاء للأصلح. حماية السلطة الحاكمة أو رجال الدين، لرأي معين. ومنع مناقشته بالإرهاب الفكري، يضعف هذا الرأي. ويضعف معه قدرتنا على كشف الحقائق.

النظر إلى الحقيقة من جانب واحد، ليس رؤية بالمرة. إنما مجرد سراب أو انطباع أو وجهة نظر أو أحلام وتمنيات. لأن الحقيقة لها عدة وجوه. ومن لم ير جوانبها المختلفة، كمن لم يرها مطلقا. الإلكترون له طبيعة مزدوجة، طبيعة الموجة وطبيعة الجسيم في نفس الوقت. وإذا أغفلنا هذه الحقيقة وكذبناها، فلن يكون لدينا شرائح إلكترونية وكمبيوتر وإنترنت وثورة معلومات.

إننا عندما نبني الحواجز، ونقيم القضايا، ونستخدم التهديد والإرهاب الفكري، لإسكات الرأي والرأي الآخر، نكون قد فقدنا القدرة على التعلم والتقدم والازدهار إلى الأبد.

التقدم له أسبابه. والتخلف لا يأتي من فراغ. إذا لم نراجع أنفسنا ونعيد حساباتنا، سوف نضيع. وقد ضاعت أمم قبلنا كثيرة حين اختلط عليها الأمر، وحجبت الراي، وحاربت العقل. فلم تعد تفرق بين الخطأ والصواب. أو الظلم والعدل.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - استاذ محمد
عدلي جندي ( 2022 / 5 / 19 - 20:55 )
مجرد رأي
اعتقد الهجمة الوهابية كان عملها فقط هو معاونة الشيوخ ماديا حتى يمكنهم تسويق الخرافة علنيا و التي تعتنقها وتؤمن بها وتمارسها الغالبية العظمى من الشعب المصري في الخفاء أي لإعلان والتوزيع العلني والرسمي والدليل هناك أساتذة درسوا الطب وووووو
https://youtu.be/p6PEdcU-fGk
يمارسوا عمل الهرافة الذي أعتنقه آبائهم عن أجدادهم
أموال القطران الأسود كانت كشرارة في وسط حقل غاز شديد الإشتعال
شكرا على المجهود
تحياتي


2 - إلى العزيز عدلي الجندي
محمد زكريا توفيق ( 2022 / 5 / 19 - 22:01 )
المشكلة يا أستاذ عدلى، أن الخرافة قد وصلت إلى عقول من بيدهم الأمر. شكرا لمرورك الكريم.


3 - لا زالت مصر تعيش في القرون الوسطي
Mahmoud saed ( 2022 / 5 / 20 - 03:22 )
هؤلاء البشر يقحمون الدين في اي شئ و كل شئ
يتكلمون مع بائع الطعمية فيتحدث مثل امام جامع وكذلك الظابط و التلميذ في المدرسة و العسكري و الطبيب و كل الكائنات التي تعيش في مصر يرددون نفس الكلمات ربنا وربنا وربنا
العملية صعبة في التخلص من عصابة الشيوخ و العسكر لانهم في نفس الخندق …
تحياتي للسيد الكاتب علي هذا المقال القيّم


4 - إلى الأستاذ محمود سعيد
محمد زكريا توفيق ( 2022 / 5 / 20 - 07:50 )
شكرا لمرورك الكريم


5 - الله أكبر
Magdi ( 2022 / 5 / 20 - 10:42 )


عندما حصلت على منحة من ماكس بلانك فى المانيا تعرفت على د.كرم خلة الذى أهدانى كتابه - خلق الأنسان الله على صورته - أشار فيه إلى ظاهرة - اللاوية- بعنى أننا لانستطيع فى مصر النطق بجملة مفيدة دون أن نقحم فيها اسم الجلالة : الله اكبر،توكلت على الله ، حسبى الله ونعم الوكيل ، أن شاء الله ، ربنا موجود..الخ ( ص 147)..لاحظت شخصيا أن هذه الظاهرة لم تعد موجودة عند معظم اليهود الذين
تسائلوا بعد المحرقة : أين كان يهوه - أله العهد القديم - عندما حرقهم النازيون ? وأصبحوا ينظرون إلى التوراه على إنها مجرد كتاب تاريخ وليس وحيا من السماء.بالمناسبة حسين فوزى ( مؤلف - سندباد مصرى -) صرح لسامى الذيب : انظر رسالته بالفرنسية عن الأقباط ص 134 , مايلى :- خلق الله العالم فى ستة أيام وأستراح فى اليوم السابع ولا يزال يستريح .لم يوحى بأي شيئ على الأطلاق- ..
تحياتى.مجدى سامى زكى
Magdi Sami Zaki


6 - إلى الأستاذ مجدي سامي ذكي
محمد زكريا توفيق ( 2022 / 5 / 20 - 11:47 )
كلها صناعة بشرية مائة في المائة، ودت مصر في ستين داهية. وإلى الآن الناس الغلابة يبيعون نصف القيراط اللي حيلتهم علشان يزوروا الأماكن الطاهرة ويلفوا السبع لفات، ويملسوا على الشباك بعد ما يكونوا قد فقدوا كل ما يملكون في هذه الدنيا الظالمة. هذه الأديان، تستعبد الناس وتسرق أموالهم، وتلغي عقولهم، وتجعل الأخ يكره أخوه، وتمزق الوطن الواحد. شكرا لمرورك الكريم.