الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بين ثياب البعثية وثياب التهريب

منهل السراج

2006 / 9 / 15
المجتمع المدني


ثياب موظفات الحركة التصحيحة، حقائب البعثية، تسريحة زوجات المسؤولين، طقم نقابة العمال..
تلك هي الجمل التي كانت البنات تتهكم فيها على المظهر غير الأنيق.
كنا نشعر أن كل مانحصل عليه خارج أجهزة الحكومة مؤسسات، مخابرات، جمارك، مسؤولي ضرائب، هو بالتأكيد حلال وقريب ويشبهنا، ومايأتينا من الحكومة مرفوض ومشكوك بأمره، نكرهه ويكرهنا.
لذلك كنا نتجنب كل مايجعل مظهرنا يمت بصلة لهذه الأمور. وكانت البضائع المهربة هي الملاذ، ذلك لأن الوطنية، أقصد الثياب الوطنية، غالباً ماتشبه ثياب جماعة الحركة التصحيحية، ومايقاربها. وهي بالتأكيد تعني الشرشحة، والثياب الرخيصة، والذوق المتدني. لذلك كانت معظم الفتيات، يفضلن ثياب التهريب، يعني حين تقول إحداهن: أحضرت ثيابي من عند "ماجدة" فهي تعني ثيابا تركية، أما بضاعة "ام ربيع" فتعني ثياباً أوروبية وهي باهظة الثمن بالتأكيد. وكنا نحن متوسطي الحال ونحب الثياب كثيراً ونحب تغييرها أكثر. نذهب إلى منطقة أعزاز في حلب لشراء الثياب التركية من أول منطقة تهريب، يعني قبل أن يرتفع ثمنها بزيادة عدد وسطائها، مثل ماجدة وغيرها.
عادة كان يتبرع أحد الآباء بالذهاب معنا في سيارته. نقضي اليوم ندور على بيوت أعزاز، يتخاطفنا الأولاد المتمترسون كقطاع الطرق عند مدخل المنطقة، تماماً مثل فعل الجمارك عليهم عند حدود التهريب. يعرضون المساعدة عبر إرشادنا إلى أحسن البيوت، وأحسن الأسعار على حد قولهم.
في كل عام كان لدينا على الأقل أربعة مشاوير لأربعة فصول، نرجع بغنيمة مفرحة.
كان جديد الموضة حين نقتنصه، يجلب لنا الفرحة، ولو لساعة نظهر فيها جمال قوامنا.
نرتدي الثياب الجديدة في زيارات بعضنا، ونقهرالأخريات اللواتي لم يرتدين مثله. لكن ذلك الجديد يصبح قديماً في الزيارة التالية، بينما تأتي الأخريات بجديدها وتقهرنا، وهكذا. كنا نتبادل قهر بعضنا ونتبادل الدور بتلك الفرحة.

في أحد الفصول انشغل جميع الآباء، ولم يقبل أحد مرافقتنا. لذلك قررنا وبثورة جماعية أن نذهب بوسائل المواصلات العادية خمس بنات بلا مرافقة ولاموافقة، كنا طالبات جامعة نسكن بيتاً واحداً في حلب.
سألنا كثيراً حتى استدللنا إلى سرافيس أعزاز، وتنقّلنا بين الشوارع والساحات كثيراً إلى أن استطعنا ركوب إحداها. كان في أيدينا مناقيش الجبنة والزعتر وقهقهاتنا تخلع سماء حلب.
ـ أحتاج جاكيتا شتوياً.
ـ أحتاج بيجامة للرياضة.
ـ أحتاج طقما رسمياً..
أدار السائق مفتاح المحرك فانطلق صوت أغنية من عرس محمد ابن أبو كدرو، أخوه حسن وعمه.. نسيت اسمه. بدأ المطرب بالتحيات قبل أن تنطلق ضربات الدربكة العنيفة مع أصوات رصاص العرس.
ما إن قطعت السيارة أول شارع باتجاه الخروج من حلب، حتى أوقفها شرطي المرور باسماً ابتسامة متثائبة ذلك لأن الوقت كان صباح الجمعة. بعثت هذه الابتسامة امتعاضاً على وجه السائق، لكنه وبتلقائية شديدة مد يده إلى درج صغير وسريع وجاهز، وتناول مبلغاً ما، لم يكترث أن يعده، ربما لأنه يعرفه أو يقدره لشدة اعتياده. ناوله إياه بمصافحة سريعة وأقلع من جديد بأغنيته وسيارته.
نحر بأصابعه ذراع السرعة، أول ثم ثان، ثالث.. رابع.
ماهذا؟ خلال ثوان دار مؤشر السرعة إلى الجهة الأخرى.
كان يتجاوز السيارات بسرعة غريبة. الطريق واحد والسيارت باتجاهين.. توقفت لقمة المناقيش في حلوقنا، واصفرت وجوهنا، قلت له بصوت ضعيف:
ـ لو سمحت، أنا أخاف من السرعة.
قلب برأسه إلى الوراء من الضحك، وكاد يترك عجلة القيادة من يده. وهو يهتز بمكانه، ضحك وضحك ثم رفع صوت أغنية العريس أكثر وطار.. نظرت في وجوه البنات، كن كلهن خائفات، منهن من أخرجت مصحفها الصغير وراحت تقرأ، ومنهن من راحت تتمتم مما تحفظ من أدعية السفر والسلامة.
قالت له رفيقتي بصوت أكثر جدية:
ـ تقول لك رفيقتنا إنها تخاف من السرعة.
ضحك من جديد بنشوة هائلة لأن صوتاً رقيقاً آخر يرجوه.. وزاد في طيرانه.
كنا كلنا نمسك بالقضبان المحيطة مستسلمات تماماً للموت القادم، وكنت أنا من تعلمت قيادة السيارة حديثاً أضرب بقدمي فرامات وهمية، مع ضربات قلبي الذي انخلع.. وسرحت في تخيل كيف ستبكي أمي على موتي، وكيف ستغضب في الوقت نفسه، أن أقوم بهذا الفعل دون موافقة، وتذكرت أخي الصغير الذي أحبه وحزنت كثيراً لأني سأموت ولن أراه، وتذكرت أني تركت أسوارة أمي في درج طاولتي، وأني استعرت نوطة الرياضيات من أحد الزملاء ولم أرجعها، كل هذه الديون! و... سأموت الآن.
من المعروف أن الطريق يأخذ ساعة ونصف، لكنه استطاع الوصول بطيارته خلال ساعة ودقائق قليلة.
حين لاحت لنا لائحة "أعزاز ترحب بكم".. شعرت بإحدى لحظات السعادة السبع الوحيدة في حياتي. ماإن توقف حتى تدافعنا للهروب ونسينا أخذ بقية حقنا من المبلغ الذي دفعناه. طبعا البنات كثيرا ما كن يخجلن من طلب الخمسة أو العشرة أو الخمسة والعشرين المتبقية.
قلت لهن:
ـ كيف سنرجع؟
أجابت أشجعنا:
ـ مثلما أتينا.
اصفر وجهي أكثر.
"أمامي ساعة أخرى من الرعب؟"
قالت:
ـ هذا السائق مجنون.. البقية أكيد ليسوا مثله.
مضينا مع أول ولد أشار لنا، قضينا الساعة الأولى من التسوق مهمومات لطريق العودة، ثم ما لبثنا أن انهمكنا بالبحث والتنقيب بين البضائع، عن طقم مختلف وبنطال مختلف وحقيبة و.. ست ساعات، كيف مرت!
حين اقتربنا من سرافيس العودة، تخيلت القصة نفسها وسمعت الأغاني وضحكات السائقين، وأوشكت على البكاء. لكن لم يكن باليد حيلة. وضعت البيجامة الزهرية التي اشتريت وجزداني الصغير الذي كان بحوزتي في حقيبة الجينز الجديدة وهي الشيء الوحيد الذي بعث فيّ العزاء من رعب الصباح. أخذت مكاني بجانب صديقتي، وانتظرنا حتى امتلأ السرفيس الأبيض. وجلس مقابل لنا ثلاثة رجال أشاوس، كنت كل لحظة اتفقد حذائي إن كان يلامس أحذيتهم. وكان أحدهم منتعلاً خفاً صيفياً أومايسمى "الشاروخ" ويدخن سيجارة بعمق ومتعة كل سحبة منها تصاحبها إغماضة عين.
أدار السائق مفتاح المحرك فانطلق أذان الله أكبر يرافق كل إقلاع. حبست أنفاسي متوجسة من مشوار الرعب.. لكن بعد أن استقر على طريق السفر تبين لنا أن سرعته أقل بكثير من سرعة الصباح. اطمأننت وأصغيت لصديقتي تتحدث بابتهاج عن الحذاء الذي يناسب الطقم الجديد الذي أحضرته وموديله ولونه ومن أي محل، قالت:
ـ تخيلي اللون البيج معه، يهوس..
تخيلت، فوجدت أنه سيكون جميلاً مع لون الطقم الذي يتمايل بين البني والأخضر. وحددنا أن أول مشوار بالطقم سيكون لأكل الشوكولامو في العزيزية، وحددنا لون الجوارب النايلونية، والأساور والخواتم، التي نسميها "اكسسوار" والجزدان وقلم ظل العين وأحمر الشفاه...
فجأة، وفي عز هذه الأناقة، رأيت دخاناً ينطلق من حضني، حيث وضعت حقيبتي الجديدة في داخلها البيجامة الزهرية، بهت، ونظرت إلى صديقتي التي كانت تتابع الدخان وتنظر في وجهي متسائلة ومندهشة، نظرت في وجوه الرجال الثلاثة أمامي، فوجدتهم ينظرون باستغراب لكن لأنهم أشاوس فقط بدا استغرابهم "على التقيل" يعني من خلف قلة اكتراث، رجعت أحدق في حضني، عل مارأيته ويراقبونه يكون وهماً، لكن الدخان الذي اتضح أنه ينطلق من الحقيبة تكاثف وملأ وجهي وعيوني.. استيقظت من دهشتي ورميت بالحقيبة على الأرض بين الأحذية جميعاً، هنا فقط تحركت أقدام الرجال الثلاثة الأشاوس وراحت تدعس حقيبتي الجديدة والبيجامة الزهرية بكل ما أوتيت من قوة. إلى أن توقف الدخان، رفعت جثة الحقيبة والبيجامة الزهرية من بين الأقدام، وجدت شقوقاً محروقة كلاً منها بحجم شباك. نظرت في وجوه الرجال المقابلة والصامتة، فتبرع أحدهم وأشار برمشة خفيفة جداً من عينه، أحسستها إشارة أو مايشبه الإشارة أن جاره رمى سيجارته من الشباك فارتدّت إلى حقيبتي.
سحبت جزداني لأنقذ ماتبقى من مصروف الشهر، وأمسكت البقية بأطراف أصابعي مملوءة بالغضب، لكنه بدا غضباً ضعيفاً، لأنه لم يحرك جفن صاحب السيجارة، وظل صامداً.

وفوق خسارتي تلك، اضطررت لارتداء بيجامة وطنية، ظلت علامة الصنع تحك قفا رقبتي حتى قصصتها، وصارت حكايتي، احتراق حقيبتي والبيجامة الزهرية الجديدة، قصة تتندر بها بنات البيت، طوال سنوات الدراسة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تونس.. مؤتمر لمنظمات مدنية في الذكرى 47 لتأسيس رابطة حقوق ال


.. اعتقالات واغتيالات واعتداءات جنسية.. صحفيو السودان بين -الجي




.. المئات يتظاهرون في إسرائيل للمطالبة بإقالة نتنياهو ويؤكدون:


.. موجز أخبار السابعة مساءً - النمسا تعلن إلغاء قرار تجميد تموي




.. النمسا تقرر الإفراج عن تمويل لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفل