الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المعنى الصحيح لقوله تعالى إنما المشركون نجس

سامح عسكر
كاتب ليبرالي حر وباحث تاريخي وفلسفي

2022 / 5 / 21
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


سؤال ورد إلي ما قولك في آية "إنما المشركون نجس" فما هو تفسير كلمة "النجاسة"؟

قلت: إعلم يرحمك الله أن هذه الكلمة ذكرت مرة واحدة في القرآن كالتالي "يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء إن الله عليم حكيم" [التوبة : 28]

والقصة أن مشركي مكة كانوا يحجون البيت الحرام حتى أواخر حياة الرسول بعد الفتح بعام واحد، ففتح مكة سنة 8 هـ بينما نزلت سورة التوبة سنة 9هـ وبذلك تبين سياق الآية أن هناك تنازعا على البيت الحرام بين "المسلمين والمشركين" الذين ظلوا على إيمانهم القديم، وفي الآية دليل على أن كثيرا من مشركي العرب بقيوا على دينهم القديم بعد الفتح ولم يحدث تحولا جماعيا أو قهرا وإجبارا كما هو مفهوم..

نأتي لمعنى كلمة نجس..وهي من (التنجيس) الذي كان يفعله العرب بالجاهلية من تعليق (تمائم وتعاويذ) على صدور الأطفال والمرضى لمنع أذى الشيطان أو الأرواح الشريرة، فعِلم هؤلاء بالطب كان معدوما وشاع بينهم أن غالبية الأمراض هي مس وضرر من تلك الأرواح والشياطين المعروفة بالجان، فيكون التنجيس هو (دفع الضرر) الذي يسببه هجوم الشياطين على أبناء القبائل

أما عن معنى كلمة نجس يقول الشيخ رشيد رضا في تفسير المنار "إذا وصف الإنسان بأنه نجس أريد به أنه شرير خبيث النفس ، وإن كان طاهر البدن والثوب في الحس . وإذا وصف به الداء أو صاحبه أريد به أنه عضال لا يبرأ.....ولا تزال سلائل العرب في البدو والحضر يقولون : فلان نجس بمعنى خبيث ضار مؤذ . كما أن الجاهلين منهم بالإسلام لا يزالون يعلقون التناجيس والتعاويذ على الأولاد لوقايتهم من الجن والعين الخبيثة من الإنس ، وكذلك العبرانيون يسمون الداء العضال نجسا وصاحبه نجسا وشفاءه طهارة"(تفسير المنار 10/ 241)

وفي ذلك يقول الشاعر العربي ساعدة بن جؤية المشهور بساعدة الهذلي:
والشيب داء نجيس لا دواء له ... للمرء كان صحيحا صائب القحم

وبذلك يتضح معنى المشركون نجس، أي (المشركون ضارون خبثاء) وهو بذلك يقصد مجموعة بعينها كانت تزاحم المسلمين وتضايقهم في طقوس الحج بعد فتح مكة وهم الذين نزلت في حقهم سورة التوبة أنهم نقضوا العهد مع الرسول وانقبلوا على الاتفاق السياسي بعدم الاعتداء، وكان ذكر هؤلاء في أول آية "براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين" [التوبة : 1] وقال أيضا "إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظاهروا عليكم أحدا فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم إن الله يحب المتقين" [التوبة : 4]، ولا ينسحب ذلك على كل المشركين بالطبع لأن هناك العديد منهم لم يعاهدوا الرسول ولم ينقضوا العهود مثلما حدث مع قبيلة خزاعة المشركة التي تحالفت مع المسلمين في معركة الخندق..

أيضا فالمشركين نزلت فيهم آية أخرى تمنع التعميم عليهم جميعا أو القول بأن كلهم من أصحاب النار، قال تعالى "إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة إن الله على كل شيء شهيد" [الحج : 17] فلو كان كل المشركين نجس أو جميعهم (خبثاء ضارون) ما منع الله الرسول والصحابة وآل البيت من الجزم بمصيرهم في الآخرة، بل أمرهم في المقابل أن يهتموا أكثر بالدين ويقيموه كدعوة أخلاقية وتربوية ذكرت في عشرات الآيات لا مجال لذكرها، فالذي حدث بسورة التوبة ووصف مجموعة معينة انقلبت على العهد بأنهم "نجس" لا ينسحب على كل المشركين

لكن هناك معضلة ظلت وستبقى أحد أهم مشكلات الفكر الإسلامي وهي أن سورة التوبة لم تنزل بعدها سور قرآنية تؤرخ وتثبت وجود المشركين في مكة بشكل طبيعي، لكن الذي فهم من سورة التوبة أن المنع كان لهذه الفئة الباغية الضارة، فتم التعميم على كل مشركي العرب في عصر لاحق وجرى منعهم من دخول البيت الحرام بناء على تلك الآية، برغم أن سياق سورة التوبة يقول بوضوح أنها تحكي صراعا مع مجموعة من مشركي العرب كانت عقدت اتفاقا سياسيا مع الرسول ثم انقلبت عليه وهي التي نزلت فيها ما اشتهر عليه بآية السيف التي أخذها التكفيريون حجة على شرعية جهاد الطلب وغزو العالم، رغم وجود عشرات الآيات الأخرى التي تمنع البغي والعدوان على الناس والتي تأمر بعدم البدء في الهجوم تحت أي مبرر، لكن هذه المعضلة كانت ولا تزال هي أحد أكبر ثغرات الفكر الإسلامي وعندما حاول المثقفون وبعض المفسرين التصدي لها قدموا آيات العفو والتسامح كأصل محكم هو لب الشريعة، وما خالف هذا العفو والتسامح يكون مقيدا بالزمان والمكان ويحرم استدعاءه بظرف آخر مثلما يفعل الدواعش والجهاديون..

يبقى القول أن الشائع في كلمة نجس تعني (القذر) وهو مصطلح فقهي وصف به المشركين بناء على ظاهر الآية، وفي ذلك يقول الشيخ رشيد رضا "أما في عرف الفقهاء . فالنجس ما يجب التطهير لما يصيبه سواء أكان قذرا في الحس كالبول والغائط ، أم لا كالخمر والخنزير والكلب عند من يقول بنجاسة أعيانها وهم الأكثرون . ومن ثم قال بعضهم بنجاسة أعيان المشركين ، ووجوب تطهير ما تصيبه أبدانهم مع البلل " (10/ 242)

لكن رشيد رضا يرد هذا التفسير الشائع وينتقده بكلمات حاسمة بقوله "أن جمهور السلف والخلف على خلافه ومنهم أهل المذاهب الأربعة ، والآية ليست نصا ولا ظاهرا راجحا فيه ، والسنة العملية لا تؤيده بل تنفيه ، ولاسيما قول من يجعل أهل الكتاب مشركين كالإمامية ، فإن إباحة طعام أهل الكتاب ، ونكاح نسائهم نزل في سورة المائدة ، وهي آخر ما نزل ، فهي بعد سورة التوبة بالإجماع ، وإباحتهما تستلزم طهارتهما ، ومن المعلوم القطعي لكل مطلع على السيرة النبوية ، وتاريخ ظهور الإسلام بالضرورة ، أن المسلمين كانوا يعاشرون المشركين ويخالطونهم ولاسيما بعد صلح الحديبية ، إذا امتنع اضطهاد المشركين وتعذيبهم لمن لا عصبية له ، ولا جوار يمنعه منهم ، وكانت رسلهم ووفودهم ترد على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ويدخلون مسجده ، وكذلك أهل الكتاب كنصارى نجران واليهود ، ولم يعامل أحد أحدا منهم معاملة الأنجاس ، ولم يأمر بغسل شيء مما أصابته أبدانهم ، بل روي عنه ما يدل على خلاف ذلك مما احتج به الجمهور على طهارة أبدانهم من الأحاديث الصحيحة ، ومنها أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ توضأ من مزادة مشركة ، وأكل من طعام اليهود ، وربط ثمامة بن أثال وهو مشرك بسارية من سواري المسجد ، ومنها إطعامه هو وأصحابه للوفد من الكفار ولم يأمر ـ صلى الله عليه وسلم ـ بغسل الأواني التي كانوا يأكلون ويشربون فيها ، وروى أحمد وأبو داود من حديث جابر بن عبد الله قال : كنا نغزو مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فنصيب من آنية المشركين وأسقيتهم فنستمتع بها ولا يعيب ذلك علينا " (تفسير المنار 10/ 242)

وملخص كلام رشيد رضا أن كلمة "المشركون نجس" تعني أنهم "ضارون مفسدون" وليست بمعنى "قذرون" فبرغم شيوع المعنى الأخير لكن سيرة الرسول ترده والقرآن يرده، فالقذارة عكس الطهارة بينما النبي والصحابة وآل البيت كانوا يتعاملون مع المشركين عادي، حتى من يقول بكفر أهل الكتاب فالدين الإسلامي حاسم بجواز الأكل من طعامهم وذبائحهم والتناكح معهم والجلوس والتفاعل بكل الأشكال السلمية، وفي ذلك نزل قوله تعالى "وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان "[المائدة : 5]، ولو كان المعنى هو القذارة فسوف يحرم هذا التصرف بشكل عام، وما شيوع كلمة نجس بمعنى القذارة إلا في عصر الصحوة الوهابية التي أخذت من بعض كتب التفاسير هذا المعنى وعممته على سائر أهل الكتاب لأغراض سياسية وطائفية..

حتى من يستدل ببعض الأحاديث فقد رد عليهم رشيد رضا أيضا بقوله "واستدلوا بحديث الأمر بغسل آنية أهل الكتاب ، والأكل فيها إن لم يوجد غيرها وهو في الصحيح من حديث أبي ثعلبة ، وقد بين أبو داود علته وهو قوله : إنهم يأكلون لحم الخنزير ويشربون الخمر ، وكذا حديث إنقاء أواني المجوس غسلا والطبخ فيها ، وهذا كله من الأمر بالنظافة ، ولا دلالة فيه على نجاسة أعيان الناس بمعنى القذر الذي يزال بالغسل ، وجملة القول أن لفظ النجس في القرآن جاء بالمعنى اللغوي المعروف عند العرب لا بالمعنى العرفي عند الفقهاء ، وكانت العرب تصف بعض الناس بالنجس ، وتريد به الخبث المعنوي كالشر والأذى ، وإلا لما وصفوا به بعض الناس دون بعض ، كما تقدم في قول الأساس الناس أجناس ، وأكثرهم أنجاس ، ولا يطلقون النجس بمعنى القذر الذي يطلب غسله ، حتى إذا زال سمي طاهرا إلا فيما يدرك قذره وخبثه بالحس كالرائحة القبيحة ،هذا هو الحق الظاهر . وما أفك عنه من أفك إلا بتحكيم الاصطلاحات الفقهية وغيرها في استعمال اللغة الفصحى التي نزل بها القرآن" (تفسير المنار 10/ 243)

أما من قال بتفسير كلمة "نجس" بالمعنوية دون الحسية فقد قال ذلك لأن جوهر الدين والقرآن لا يقولون بقذارة غير المسلمين الحسية، فلجأوا لإعطائها معنى آخر قريب من القذارة المعروفة لكنها معنوية، وهذا تحايل على كتاب الله لأن سياق آيات سورة التوبة يقول بوضوح أن آية "المشركون نجس" نزلت في صراع سياسي ومخصوص لمجموعة من مشركين العرب دون تعميم، وبالتالي معناها تحذير من الضرر الناتج عن السماح لتلك المجموعة بالحج، بينما طريقة هؤلاء المفسرين تهمل السياق وتفضل التفسير (الحرفي الظاهري) المتبع لجماعة أهل الحديث، لذلك عودة الفقه الإسلامي لرونقه والسماح بتجديده ودعم المفكرين سوف يقضي على هذه الآفة في التفسير ويرد كل الأقوال العدائية القديمة التي وجهها الفقهاء لغير المسلمين لتصبح في متحق التاريخ..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - هي عقيدة الولاء والبراء والباقي تاويلات
منير كريم ( 2022 / 5 / 21 - 17:26 )
الاستاذ سامح عسكر المحترم
القضية الاساسية تكمن في عقيدة الولاء والبراء , والباقي تاويلات متناقضة تعكس التناقضات في
مصدر النصوص
عرف شيوخ الاسلام انواعا من التاويلات
التاويل الباطني عند الشيعة
التاويل اللغوي عند الاشعرية ومنهم معظم السنة
التاويل العقلي عند المعتزلة
وكل هذه التاويلات تبريرات للنصوص
كل نص يجب ان يدرس مباشرة بالاعتماد على النحو والمعنى لمعرفة المعنى الحقيقي المقصود
تماما كما ندرس النص (لكل فعل رد فعل ) مثلا
فالنص الذي تبرره ( انما المشركون نجس ) واضح وبين
شكرا


2 - الاستاذ منير كريم
ابو ازهر الشامي ( 2022 / 5 / 21 - 19:10 )
1
التأويل الباطني عند الشيعة الاسماعيلية والشيعة العلوية
ويمكن المرشدية وبعض الطوائف الصوفية
2
اما الشيعة الذين تتحدث عنهم انت فغالبا تقصد الامامية
والامامية عندهم مثل السنة
مع نكهة باطنية
او قلة باطنية
اما الشيعة الزيدية
فتفسيرهم مشابه للسنة مع نتفة عقلانية من المعتزلة
3
اما المعتزلة ففي بدايته عقلاني
ولكن متأخرينهم مثل الزمخشري
فقد هذه العقلانية واصبح مثل التفسير السني سخيف
او غير عقلاني ولكن للامانة ليس في كل مناحيه اي بقيت فيه استدلالات عقلانية
4
اما السني فهو نقلي اعتمادا على روايات
منقولة
عن بعضهم البعض
وليس لغوي بالضرورة

تحياتي


3 - شكراً لما بذلتموه من الجهد والوقت
أنور نور ( 2022 / 5 / 21 - 23:35 )
نظن المعني واضح ( لكن نشكركم علي أية حال ) فكلمة نجس. ملحوقة بأمر بعدم السماح لهم
بأن يقربوا المسجد : المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام - التوبة 28
أي: النجاسة شيء بغيض
وبالتالي لا يهم تحديد نوع النجاسة أو النجساء - ولا حاجة لتفسير ذلك / أو أن نص الآية يفتقر الي الدقة من بدايته , مما يلزم شرحاً وتوضيحاً
ملحوظة نستأذنكم فيها : ورد بالمقال القول - فتح مكة - - أكثر من مرة
فتري : هل كان فتحاً ؟ كما يُفتح الباب بالمفتاح ؟ أم كان عدواناً وخيانة وغدراً بعد ابرام معاهدة صلح وأمان , بين محمد - المقيم بالمدينة - وآل قريش بمكة ؟
ان محمداً وافق علي شروط مهينة , في معاهدة صلح الحديبية . مما أغضب وأهاج عمر بن الخطاب ( عبقرية الصديق - للعقاد ). اذ لم يتصور أن رسوله الكريم ! غادر لئيم مكار , لن يحترم عهده والمعاهدة التي وقع عليها . و سيفاجيء آل قريش في مكة بالسيوف فوق رقابهم ! دون أن يكونوا مستعدين للدفاع عن أنفسهم . اعتقاداً منهم أن محمداً سيحترم المعاهدة
من هنا أري القول ب - فتح مكة , فتح مصر , فتح الشام .. الخ , هو تدليس وتضليل فقهاء , لا يجوز اتباعهم فيه
نكرر شكرنا لجهودكم
تحياتي


4 - انور امور ؟
ابو ازهر الشامي ( 2022 / 5 / 22 - 12:06 )
اولا
اي غدر تتحدث عنه
اهل مكة خانوا صلح الحديبية باعتدائهم على بني خزاعة فاقرأ
التاريخ
ثانيا
اما مسألة انه فاجأهم
بل بالعكس هم من فاجؤوه
صلح الحديبية نص بما هو واضح وصريح
ان اهل مكة لا يتعاونون ضد اي من حلف محمد
فماذا كانت قريش تفعل في اثناء حربها ضد بني خزاعة التابعة لحلف محمد

اخر الافلام

.. الجماعة الإسلامية في لبنان: استشهاد اثنين من قادة الجناح الع


.. شاهد: الأقلية المسلمة تنتقد ازدواج معايير الشرطة الأسترالية




.. منظمات إسلامية ترفض -ازدواجية الشرطة الأسترالية-


.. صابرين الروح.. وفاة الرضيعة التي خطفت أنظار العالم بإخراجها




.. كاهنات في الكنيسة الكاثوليكية؟ • فرانس 24 / FRANCE 24